هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عندما استحدثت "عربي21" قسم "فلسطين الأرض والهوية"، وضعت نصب العين تسليط الضوء على تقديم الرواية الصحيحة للقضية الفلسطينية، ولمختلف ملفاتها ولا سيما تلك المتصلة بالمآثر التاريخية والأحداث التي شهدتها فلسطين منذ احتلالها في العام 1948..
اليوم تقدم الكاتبة نردين أبو نبعة، قراءة لفلسطين من زاوية إبداعية، عملا روائيا جديدا يعيد صياغة قضية فلسطين بطريقة مغايرة، لكن جوهرها يؤكد أن فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم وإنما للعرب جميعا..
بين التاريخ والسيرة الذاتية
بعد قراءتي لرواية (يوم مشهود) للروائي أيمن العتوم.. أيقنتُ أن كل العرب ينتهي سندهم إلى فلسطين.. فهي السند.. وهي المتن الذي يحفظونه عن ظهر قلب.. هي أقرب إليهم من عروق الصدر وأهداب العين.. كيف لا.. وهي الكلمة الباقية في الترتيل إلى يوم الدين.. ينتمون إليها انتماء العطر للزهر فلا انفكاك أبداً..
تتناول هذه الرواية الواقعة في ٣٦٤ صفحة.. سيرة الفتى القادم من صحراء الرشادية الأردنية.. المجبول بسمرة الأرض.. المستضيء بمشكاة القدس.. الحالم بقيادة الجيش العربي.. البدوي الذي يتبع نبض قلبه وما يملأ قلبه سوى فلسطين؛ فهي إبرة الميزان التي تنضبط بها رفعة الأمة وسمو قدرها.. يمسك (الراوي الذاتيّ) بالأحداث من بداية الرواية.. يبدأ من طفولة هذا البطل الذي عاصر الانتداب البريطاني على الأردن وفلسطين والنكبات المتتالية في الصراع العربي الإسرائيلي..
ومع أن بطل الرواية هو (مشهور حديثة الجازي) بطل معركة الكرامة الذي قطع الاتصال مع القيادة لأنها أمرته بوقف إطلاق النار وقاد الجيش إلى النصر... إلا أنه ليس البطل الأسطوري الأوحد.. فهناك عمه هارون وخاله نائل وجدُّه حمد الجازي.. وعبدالقادر الحسيني وعبدالرحيم وعبدالله التل.. والفسفوري .. وعشائر العدوان في الأغوار والمزارعون.. الذين لم تتوفر لهم بنادق.. فهجموا بفؤوسهم وطُورياتهم وكمنوا فوق الشجر..
هل هي رواية تاريخية؟ أم سيرة ذاتية للبطل؟ أم هي سيرة القدس وفلسطين والأردن؟ أم هي رواية الكرامة والإرادة والانتصار؟ أم هي رواية النهر الواحد الذي حضن ضفتي النهر الشرقية والغربية.. فسال الدم الواحد وأعاد تشكيل مجرى النهر من جديد؟
هي كل ذلك وأكثر..
يفتح مشهور حديثة الجازي ابن الصحراء الأردنية دفاتر التاريخ الصفراء القديمة.. لنقرأ ما خلف الكواليس.. فتخضر وتلمع.. يمسك بأيدينا ليضعها على مكان الجرح وعلى السكين التي أعملت فينا الجراح!!
ينفض مشهور حديثة الجازي الغبار عن هزيمة ١٩٤٨.. لنرى حبال الخديعة التي التفت حول أعناق الأبطال الأردنيين والعرب كما التفت حول العنق الفلسطيني.. رواية سيرية.. تاريخية.. فهل ينجح العتوم في غزل خيوطها الروائية بعيداً عن جمود الحدث التاريخي؟
الإجابة نعم.. فلقد استطاع أن يؤثث المشهد التاريخي بسينمائية جميلة بعيداً عن اللغة التاريخية الجافة.. واستطاع أن يمسك بتلابيب الشخوص والأحداث وأن يضفي على اللغة فردانية يمتاز بها وحده.. الرواية تدل على جهد استثنائي وعمل تحضيري شاق ومرهق.. وهذا ما سيلمسه القارئ من حجم المعلومات الحقيقية والمدهشة والتي تصدمك في آن واحد!!
إن للعربي الحر وطنين.. وطنه الذي جُبل بترابه وفلسطين التي يعشق.. فهو أولى بها ممن هادن وصافح وسلّم وإن كان فلسطينيًا.
بعبقرية رسم لنا شخصية (غلوب باشا) الإنجليزي قائد الجيش العربي ذي الوجه الشمعي المنتفخ الذي كان يجلس كما يجلس البدو ويأكل كما يأكلون ويلعق أصابعه كما يفعلون.. "غلوب الذي لا يشبه أحداً منا.. كيف صار واحداً منا".
غلوب الذي أطلق التسمية على الجيش العربي وألبسه الشماغ الأحمر الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك، وهو الذي سجل أفراد الجيش واحدًا واحدًا وحفظ أسماءهم فردًا فردًا، وهو الذي قسَّم ألويته وأماكن خدمته!!
غلوب الذي أعاد اللد والرملة لليهود بعدما سقطتا في يد العم هارون والخال نائل.. غلوب الذي استلم قيادة الجيوش العربية كلها في حرب ١٩٤٨.. الجيوش التي رابطت على مقربة من القدس ولم تحرك ساكناً لأنها كانت تنتظر أوامر غلوب!!
وبمرارة لن تفارق حلقك.. ستعرف كيف تحولت انتصاراتنا إلى هزائم!! "استطاع الجيش العراقي احتلال الجولان ببسالة.. ولكن الأوامر جاءتهم بعد ذلك بالانسحاب" ص١٨٦.
وما استوقفني حقاً تلك العجيبة الثامنة من عجائب الدنيا السبع وهي تأسيس جامعة الدول العربية "لم نجد نحن العرب ذوي الكلمة المتفرقة دائمًا غير الإنجليز ليجمعونا على كلمة سواء" فقد كانت فكرة جامعة الدول العربية فكرة إنجليزية صِرفة.. ص١٣٢.
وثيقة لنشأة إسرائيل
الرواية تسلب قلبك.. تُدميه.. إنها وثيقة مهمة لكيفية نشأة إسرائيل.. الكيان اللقيط.. ففي الحوار الذي جرى بين مشهور حديثة الجازي وعبدالله التل ينكشف لغز الهزيمة: "أتعرف كم عدد القادة الذين سيخوضون المعركة ضد اليهود؟ إنهم خمسة وخمسون قائداً ليس فيهم من العرب إلا خمسة والبقية إنجليز وغلوب القائد العام إنجليزي .. ولا أحد يستطيع أن يشرب كأس ماء واحدة دون الرجوع إليه.. هل هذه حرب تدمير أم تحرير أم تسليم" (ص١٧١).
وتعددت الأصوات الساردة داخل الرواية.. فها هي غولدا مائير تقدم حكايتها دون تدخل السارد "أنا قاصة حكايات محترفة.. بدأت ذلك مع أطفالي.. ثم مع الشعوب والحكام.. أقول محترفة.. لأن كل الذين قصصتُ عليهم حكاياتي صدقوها وآمنوا بها" (ص١٠٢).
لقد تركها تُفرِغ كل ما في جُعبتها حتى وإن كان لديه ما ينسف أقوالها!!
ترك للقارئ الوصول للنتيجة دون تدخل منه..
ما يلفتك ويدهشك هو كواليس قيام الكيان الغاصب.. ففي هذه الرواية ستسمع النشيد الإسرائيلي الوطني وستعرف من هو وراءَه!!
وها هو عبدالقادر الحسيني يروي حكايته أيضاً.. يترك له القلم ليمتشق عباب الورق "كنتُ أعرف أن جيش الإنقاذ الذي بعثته جامعة الدول العربية كان خيانة لفلسطين لا إنقاذاً لها، وأن قادته كانوا متآمرين.. كان بعضهم يعلم دوره في المؤامرة، وكان بعضهم يجهل هذا الدور".
في هذه الرواية ذهب العتوم إلى منطقة مزروعة بالألغام.. لا تروق للمناخ العربي الجديد.. الذي كسر ناي القضية وشكَّك في قدسيتها وعدالتها وألبس أهلها لباس الشيطان..
كيف استطاع العتوم أن يتجاوز فتنة الكتابة السهلة المريحة إلى الكتابة العسيرة المنتمية للأرض والكرامة والإنسان.. حيث ينقع حرفه بلهيب أنفاسه ويغمسه بمداد دمه ويُشعل جذوته بالبحث والتقصي..
كيف أفلت من حقل الألغام وهو يعرف أنه عرضة لبتر أقلامه ؟!
ولعل ما تضمنته رواية العتوم من معلومات وحقائق جريئة وصادمة تجيب على كل الشائعات التي لاحقت أبناء القضية من بيع لأرضهم وتهاون وتفريط بهذا الحق.. وأزعم أن هذه الرواية تصلح أن تكون مرجعاً للباحث في القضية الفلسطينية..
بقي أن أقول وبيقين متجذر في صدري.. إن للعربي الحر وطنان.. وطنه الذي جُبل بترابه وفلسطين التي يعشق.. فهو أولى بها ممن هادن وصافح وسلّم وإن كان فلسطينيًا.