قضايا وآراء

الحرية السياسية في الإسلام

يحيى سعد
1300x600
1300x600
الحرية غاية سامية، يتطلع إليها الإنسان، وهي أصل عام في الإسلام، تتفرع منه كل أنواع الحريات، بداية من حرية الاعتقاد، وحتى حرية اختيار الحاكم، مرورا بالحريات الشخصية كحرية التملك، والإقامة والتنقل، والتعلم، والعمل، واختيار الزوج، وغيرها من الحريات.

وهي في المجال السياسي تعني حق الأمة في اختيار من يحكمها، وعدم استبداد الحكام بالمحكومين.

ففي أمر الاعتقاد (وهو أعظم الأمور عند الله)، نجد القرآن الكريم قد نص بصورة مباشرة على حرية الاعتقاد، مع ترتيب الجزاء على ذلك الاختيار في الآخرة.

قال الله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، وقال عز وجل: "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". وقال سبحانه مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ".

وإذا كان هذا في أمر حرية العقيدة والإيمان بالله عز وجل، فهو فيما دونه من الحريات أكثر تأكيدا ووجوبا.

ومن أهم تلك الحريات في الإسلام؛ الحريات السياسية التي يتمكن الأفراد بموجبها من حقهم في اختيار من يحكمهم ومراقبته ونصحه، بل وعزله إذا اقتضى الأمر.

ولا شك في أن الباب الرئيسي لتلك الحريات السياسية هو الإقدام على إبداء الرأي دون خوف أو وجل، ذلك الباب الذي أبقته رسالة الإسلام مفتوحا على مصراعيه، وأكدته آيات القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

فنحن نرى في القرآن الكريم أن الرسل كانوا يستمعون إلى آراء أقوامهم ومجادلاتهم، ويناقشون زعمهم بالحجة والبرهان دون كبت أو ترهيب.

فنوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما؛ كان يستمع لقومه ويحاورهم فيجادلونه ويجادلهم: "قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا".

ونبي الله هود عليه السلام يرد على جدال قومه فيناقشهم ويبادلهم أقوالهم بالحجة: "أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم".

وقد أمر الله عز وجل نبينه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يجادل قومه بالتي هي أحسن. ومعروف أن الجدال بطبيعته يعني الأخذ والرد بين المتجادلين، وهو ما يتطلب ضمان حرية الرأي على أفضل وجه، وبأحسن أسلوب، قال تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".

وليس أدل على حرية الرأي في الإسلام من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي سمة هذه الأمة ومعيار خيريتها، قال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ".

بل لعن الله - تبارك وتعالى - من كان يرى المنكر ولا ينهى عنه أو يسكت عليه من الأمم السابقة، قال تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ".

وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يجدون الحرية في إبداء آرائهم فيحاورونه ويشيرون عليه في ما ليس فيه وحي أو نص، فيستمع النبي – صلى الله عليه وسلم - إليهم ويأخذ برأيهم. ومن أمثلة ذلك التزامه برأي الأغلبية منهم والعدول عن رأيه كما حدث في مسألة الخروج لملاقاة العدو خارج حدود المدينة في غزوة أحد، ومنه أيضا أخذه برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق.

وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".

وعند الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".

فتلك النصوص من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، تبين بجلاء أن الحرية عامة، والحرية السياسية خاصة، أصل من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، إذ لا يمكن للإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا إذا آمن بالحرية والحق في إبداء رأيه، واعتقد أنه مأجور على فعله، وحينئذ يكون عنصرا فاعلا ومؤثرا في مجتمعه.

ولقد رأينا في الأخلاق السياسية للخلفاء الراشدين ما يؤكد هذا المعنى، فها هو أبو بكر الصديق الخليفة الأول - رضي الله عنه - يرفع سقف الحرية لأعلى مستوى، فيطلب من الأمة في خطبة توليه الخلافة أن يُقَوِّموه إذا أخطأ قائلا: "أيها الناس؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني".

وجاء تطبيق فقهاء وعلماء الإسلام الأوائل لقيمة الحرية برهانا على الفهم الصحيح لهذه القاعدة من قواعد نظام الحكم في النظام السياسي الإسلامي. فقد عملوا بما فهموه من تلك النصوص وما تعلموه من المواقف المأثورة من حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين من بعده، فكانوا يبيّنون للمسلمين أحكام شريعتهم، ويصدعون بآرائهم في سلوك وأداء من يحكمهم.

ولم يكن ذلك المسلك في العصور الأولى للإسلام فحسب، حين كان العهد قريبا بزمان النبوة، والخلافة الراشدة، بل ظلت تلك سيرة العلماء العاملين المخلصين في كل العصور على امتدادها الطويل. فالتاريخ يحكي لنا عن أمثال الثوري والعز بن عبد السلام وابن تيمية وكثيرين غيرهم من المتأخرين، وقد كانوا يواجهون في سبيل الحق الذي يصدعون به العنت والسجن بل والقتل أحيانا، وهم ثابتون على الحق لا يداهنون.

إن حالة الاستبداد السياسي التي تشهدها بلداننا العربية والإسلامية في العصر الحالي، تستهدف (في جوهرها) تغيير هوية الأمة، وتزييف وعيها وضياع مقدساتها لصالح أعدائها.

وإن إعلاء قيمة الحرية في المنهج الإسلامي لا يترك عذرا لأحد من المسلمين، فضلا عن أن يكون محسوبا على العلماء أو المفكرين أو المثقفين، أن يسكت على باطل، أو يجامل في مظلمة، أو يفرط في قيمة من قيم الحق والعدل والخير.
التعليقات (0)