هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا ترتفع أعمدة ثالث مسجد في العالم بعد الحرم المكي والنبوي، ولا تنتصب معها في السماء أعلى مئذنة في العالم أيضا، على أرض الإسلام والشهداء هكذا عبثا أو من فراغ، ذلك أن قصة بناء "المسجد الأعظم" في الجزائر، تختزل في طياتها اليوم أكثر المعارك الحضارية والفكرية والدينية احتداما، وهو يرد بشموخه الذي يمتد على طول خليج واجهة بحر الجزائر، على رغبة فرنسا في تحويل الجزائر المسلمة إلى أرض مسيحية كما أعلنها قبل 188 سنة ملك فرنسا شارل العاشر، وكما فعلت ذلك حين إعلانها العام 1930 في الذكرى المائوية الأولى لاحتلال البلاد، على انتصار الصليب على الإسلام..
إنها الطريقة نفسها التي ترد بها اليوم هذه الأرض الطيبة التي شيد عليها المسجد، والتي ابتلعت عام 1541 أسطول شارلكان، وكانت قد حولتها فرنسا خلال احتلالها إلى أكبر حاضنة للتبشير في الجزائر وأفريقيا وتحمل اسم كاردينال التبشير (لافيجري)، ومصنعا لتفريخ "الآباء البيض"، لتحتضن اليوم أعظم مشروع إسلامي في القارة الإفريقية، بعد أن استرجعت الأرض هويتها وتحول اسمها معطرا باسم خير البرية (المحمدية).
إنه مشروع القرن و"أزهر الجزائر" الذي ينتظره اليوم، عشرات الملايين من المؤمنين داخل الجزائر وخارجها، لكي يفتتح أبوابه ويقود قطار مسار تصحيح التاريخ في كامل شمال إفريقيا المسلمة، بطريقة تتجاوز في مدلولاتها الحضارية، إعادة فتح مسجد "كتشاوة" العام 1962 إثر نيل الجزائر لاستقلالها، بعد أن حوله الغزاة إلى كاتدرائية بمباركة الفاتيكان، لكن ذلك لم يمنع ظهور تيارات أيديولوجية، مرتبطة بطريقة أو بأخرى بالمشروع الفكري الاستعماري، عملت بداية على محاولة منع تجسيده، لكي لا يكون منارة تهتدي به الأجيال القادمة للدفاع عن أصالتها، مرة باسم الوضع الاقتصادي الصعب، وحاجة الطبقات الفقيرة لمرافق صحية وخدمية أولى، ومرة بقيادة دوائر أيديولوجية تدعي أن المشروع هدية ضخمة للأصولية المعادية للحداثة.
تحفة حضارية ومعلم ديني عظيم
لإدراك أسباب انزعاج الاستعمار القديم والحديث وأذنابه وبقاياه وتوابعه الأيديولوجية، من المهم أن نسيح بين زوايا هذه التحفة المعمارية الإسلامية الفريدة من نوعها، فالمسجد الذي يمتد على مساحة 25 هكتارا، يضم 12 بناية ضخمة، ويمكنه أن يستوعب بلواحقه 120 ألف مصل دفعة واحدة، في حين تنتصب مئذنته في سماء الجزائر بطول 265 مترا، لتكون بذلك أعلى منارة على وجه الأرض، تحت أضخم ثريا في العالم لتزيين سقف المسجد، مع قبة قطرها 50 مترا وارتفاع 70 مترا، تقف في بهاء منقطع النظير على 680 عمودا.
ولا تكمن أهمية المسجد الأعظم، فقط في كونه فضاء مذهلا للصلاة والروحانيات، بقدر ما في كونه جامعة ومركزا علميا هائلا، يضم مكتبة تتسع لألفي شخص، وتحوي حوالي مليون كتاب في مختلف العلوم، مرفقة بالمكتبة الرقمية الحديثة، ومتحفا للفن والتاريخ الإسلامي، وقاعات للمؤتمرات ومراكز ثقافية وإعلامية، ومدرسة لتعليم القرآن الكريم وعلومه (بمثابة كلية للعلوم الإسلامية)، وحدائق وطوابق كثيرة لركن السيارات، وساحة خارجية فارهة بها البحيرة الاصطناعية والحديقة الإسلامية.
لقد ظل الجزائريون يتحرقون شوقا لافتتاح هذا المعلم الديني والحضاري الكبير، منذ الشروع في إنجازه العام 2011، ورغم اكتمال الإنجاز بشكل كامل، بما في ذلك أعمال التزيين والتبليط والسجاد والأعمال واللوحات الفنية، إلا أن الأحداث التي عرفتها الجزائر، في السنة الماضية، من حراك شعبي كبير، وانتخابات رئاسية، وأخيرا ظهور جائحة كورونا، أجل الافتتاح الرسمي الذي بات قريبا جدا، حيث تكون فيه الصلاة جامعة، وهو يوم سيكون بلا شك من أيام الله الخالدات التي سيسجلها التاريخ.
الأرض "المحمدية" تتحدى فرنسا
تختلط الأبعاد الحضارية والفكرية للمشروع، بالجوانب السياسية بشكل وثيق، لارتباط المشروع أولا بالسلطة السياسية السابقة، ممثلة في الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والذي رغم أنه لم يكن الأول الذي فكر في مشروع بهذه الضخامة، فقد سبقه بومدين إلى ذلك قبل أن يعاجله الموت، فهو مرتبط أيضا بالسلطة الحالية ممثلة في الرئيس تبون، الذي كان المشرف المباشر على المشروع بوصفه كان على رأس وزارة السكن التي تولت المشروع بعد أن تخلت عنه وزراة الشؤون الدينية لأسباب تقنية، لكنه أيضا مرتبط بالحرب الخفية والعلنية التي يقودها الاستعمار القديم والحديث ممثلا في الدولة الفرنسية، من أجل تعطيل كل ما له علاقة بأصالة وثقافة الجزائر، وكل ما يربطها بلغتها العربية أو دينها الإسلامي، لكونها أدوات مقاومة فتاكة في أيدي الجزائريين، وسببا في طردها من "الفردوس المفقود" الجزائر.
منذ البدايات الأولى للمشروع، كان امتعاض الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية واضحا، خاصة بعد اختيار موقع المسجد الذي يحمل رمزية تاريخية كبيرة بالنسبة لتلك الكنيسة، فالمكان يحمل رمزية كبيرة بالنسبة للحملات الصليبية التي استهدفت الجزائر في الماضي، فقد شهد الشاطئ البحري للمسجد تحطم أكبر الأساطيل الصليبية عام 1541، كما أنه كان بعد الاحتلال يضم أول وأكبر مدرسة للآباء البيض في كامل إفريقيا بقيادة زعيم المبشرين "شارل لافيجري" والذي سمت باسمه سلطات الاحتلال هذا المكان، قبل أن تحوله جزائر الاستقلال الى اسم "المحمدية".
غير أن الأمر لا يتعلق فقط بالإرث التاريخي الحضاري للصراع الأزلي بين الجزائر وفرنسا، إنما أيضا بالمصالح الاقتصادية الضخمة التي خسرتها فرنسا (المشروع تكلف ما بين 1.4 مليار الى ملياري دولار)، جراء فقدانها المشروع لصالح ألمانيا بداية ثم لصالح الصين، لذلك كانت الحملة الفرنسية شرسة على المشروع وحتى على الرئيس السابق بوتفليقة الذي سمته صحيفة "لوفيغارو" بالفرعون بسبب إقدامه عليه، وهي نفس الهجمة التي تعرض لها الرئيس تبون (الذي يعد أحد ركائز المشروع) مباشرة بعد تقلده منصب الرئاسة خلفا لبوتفليقة، عبر ما روجته قناة محسوبة على الإدارة الفرنسية ادعت أن تكلفة المسجد الأعظم وصلت 10 مليار دولار، الأمر الذي أدى بالجزائر إلى استدعاء السفير الفرنسي لديها للاحتجاج.
ولقد دأبت فرنسا عبر تحريك أدواتها داخل الجزائر وخارجها، على التشكيك في جدوى المشروع الضخم، لاعتبارات حضارية وأخرى مالية، عبر الترويج الواسع بعبثية المشروع، الذي يستنزف أموال الجزائريين في أمور لا يحتاجونها، وعبر دغدغة المشاعر بخصوص قلة الهياكل الصحية في ظل معاناة المرضى في المستشفيات مثلا، على الرغم من ان ميزانية المسجد لاعلاقة لها بميزانيات قطاع الصحة والخدمات المتردية الأخرى، فالجزائر في عشريتين من زمن حكم بوتفليقة، أهدرت أكثر من 1200 مليار دولار كاملة في مشاريع جلها لم يكتمل، بينما ذهب جزء كبير من المبلغ في جيوب الفاسدين الذين يقبع جلهم اليوم في السجون، ومع ذلك عجزت كل تلك الأموال في حل مشكلات الجزائريين، فكيف يمكن لمليارين أو ثلاثة لو أنها لم تصرف في مشروع المسجد الأعظم، أن تجعل من الجزائر جنة غناء؟
طبعا، فرنسا التي بنت كنائسها الكبرى في أعلى هضبات المدن الساحلية الجزائرية، طوال تواجدها بالجزائر، لتوحي بالفتح المسيحي للجزائر، عبر غرس "سانتاكروز" في وهران، و"سانت أوغيستان" بعنابة، و"السيدة الإفريقية" بالعاصمة، تجد نفسها أخيرا تخسر معركة الرموز الدينية وقد صار الموقع الذي حلمت أن يضم أكبر كنيسة في إفريقيا، لكونه يتوسط الجزائر الدولة، والجزائر العاصمة بالتمام، تُربةَ "محمدية" أنبتت منارة تراها فرنسا كلها من مارسيليا، وهي تصدح بالله أكبر، إن ذلك أمر لا يحتمل بالنسبة لدولة ينطق تاريخها بالحقد والكراهية للآخر، بل إن هذا التاريخ يخبرنا أن (الكاردينال لافيجرري) كان يقايض الجوعى من الفقراء الجزائريين بالتخلي عن دينهم مقابل الخبز، ومع ذلك صمد الجزائريون وفضل كثير منهم الموت على ترك الدين الإسلامي والدخول في ديانة المستعمر.
تيارات فكرية جزائرية معارضة
وطبيعي أن فرنسا التي استعمرت الجزائر 132 سنة كاملة، تركت خلفها أتباعا هم اليوم لا يتحرجون في تبني ثقافتها ولغتها وجنسيتها وأحيانا حتى دينها، وهؤلاء يرددون بأمانة كبيرة ما تقوله لهم أمهم فرنسا، ومن ذلك أن "الجزائر بحاجة إلى مستشفيات للعلاج وليست بحاجة إلى مساجد للصلاة، ففي كل حي يوجد مسجد"، ومثل هذه الكليشيات التي تتكرر كثيرا، حتى تكاد تتحول إلى "ثقافة شعبية"، يتبناها للأسف معارضون للنظام السياسي الحالي، عبر رفع شعارات أن المسجد الأعظم يمثل استمرارية لمشاريع بوتفليقة الذي ثار ضده الشارع، وأن الرئيس تبون الذي دافع كثيرا عن المشروع كوزير للسكن ثم وزير أول، يمثل اليوم استمرارية هذا النظام وهو في منصب الرئيس.
ولعل عمليات خلط الأوراق هنا بهذا الشكل، هي التي دفعت تبون الوزير قبل الآن، أن يقول متأسفا إن هناك جزائريين "لا يعجبهم أن تكون الجزائر صاحبة منارة إفريقية وعالمية"، وأن تأثير هذا المعلم الحضاري الكبير، في منطقة المتوسط وكذا في إفريقيا وأوربا، جعل الأعداء في الداخل والخارج يتجمعون ضده، ذلك أن عمليات التشويه والتشكيك لم تتوقف عند حدود معينة، فهي مرة تتحدث عن "الغلاف المالي المضخم" للمشروع، ومرة تشكك في صلاحية التربة وعدم ملاءمة قطعة الأرض لبناء بهذا الحجم، على الرغم من تقنيات يابانية أدخلت على المسجد الأعظم، تجعله مقاوما لأشد الزلازل وأعنفها.
والمثير للاستغراب، أن المناوئين للمسجد لا يقتصرون على العلمانيين والملاحدة، بل إن بعض المتدينين أيضا، يرون بدورهم أن بناء مسجد بهذا الحجم، يدخل ضمن دائرة الرياء والإسراف المنهي عنه في الدين، وأن دور العبادة ينبغي أن تقتصر على التعبد، لا أن تتحول الى أماكن سياحية، أو باعتبارها متاحف، بالنظر الى روعة هندستها أو زخارفها، علاوة ان هناك من يتخوف من إمكانية تحويله الى أداة لنشر التصوف على حساب الدين الحضاري، خاصة وأن المنظومة الحاكمة في الجزائر، تراهن على الطرق الصوفية والزوايا كثيرا.
مسجد أم قنبلة نووية؟
والواضح أن الهجوم على المسجد، ليس بوصفه معلما هندسيا بارزا، وإنما لمدلولاته الحضارية، والتي ستؤدي بالضرورة الى غلق أو بالأحرى الى حسم النقاشات حول الهوية ومشروع المجتمع، وعليه كان وزير الشؤون الدينية الجزائري السابق، محمد عيسى قد قال كلمة معبرة (المسجد الأعظم بالنسبة للبعض وكأنك امتلكت قنبلة نووية)، وهو ما يفسر الهجومات والتكالب على المشروع .
لقد ظلت الجزائر بحجمها وعظمة شعبها، البلد العربي الوحيد تقريبا في شمال إفريقيا من دون مرجعية دينية حقيقية، فالتونسيون مرتبطون بجامع الزيتونة، والمغاربة بالقرويين، والمصريين بالأزهر الشريف، وبالتالي فإن انبعاث مشروع كالمسجد الأعظم، ووفق الخطة العملية التي تواكبه، لجعل تنظيم المساجد تنظيما هرميا، يكون المسجد الأعظم في قمتها، فهذا يعني ثورة حقيقية في المجال الديني والعلمي شريطة أن يكون ضمن رؤية إسلامية حقيقية وليس ضمن دائرة التأميم الديني، وهنا من المهم الإشارة إلى تخلي السلطات عن فكرة فرش المسجد الأعظم بالسجاد الإيراني المتميز، رغم وصول السجاد كهدية من أحد الخواص الإيرانيين، وذلك لتحييد المشروع من أي بعد مذهبي أو تأويل سياسي، بعيدا عن الثوابت الحضارية والهوية المحلية.
ومما هو مأمول بحسب تصريحات سابقة للمسؤولين، فإن أحسن الأئمة في ولايات الوطن، هم من سيكونون في مجلس التوجيه الوطني على مستوى جامع الجزائر الأعظم، ومنه ينبثق مجلس التوجيه الفكري الذي سوف يضم أقطاب الفكر للنقاش في إطار أكاديمي بغرض فرز الأفكار الدخيلة، والقيام بعمليات الصد والمثاقفة والتفاعل، ضمن مسعى تخريج "الامام الدكتور"، اين يتكفل المسجد الأعظم بمنح دكتوراه في تخصصات علمية مختلفة، بغرض تحقيق فكرة الاشعاع الثقافي والديني الى أبعد نقطة في العالم وليس في الجزائر وحدها.