في شباط/ فبراير عام 1978 حدثت واحدة من أسوأ الاقتحامات على مر التاريخ، وهي حادثة مطار لارنكا القبرصي الشهيرة، حيث قامت مجموعة باغتيال الكاتب
المصري الشهير يوسف السباعي، وبطريقة ما احتجزوا عددا من الرهائن بطائرة في مطار لارنكا. وكانت القوات القبرصية تحاصر الطائرة وتتفاوض مع الخاطفين كما يحدث في كل الحالات المشابهة، إلا أن القيادة المصرية قررت دفع مجموعة من "قوات النخبة" لتحرير الطائرة بدون إذن من الحكومة القبرصية.
هبطت الطائرة التي تحمل ما يقرب من 70 فردا من قوات "النخبة المصرية" في المطار، وتحركت بدون أي سابق إنذار لتنفيذ عملية الاقتحام، مما أدى إلى اشتباك القوات القبرصية معها، فقتلت ما يقرب من 15 من القوات المصرية وأصابت أكثر من 20 بإصابات خطيرة، وأسرت البقية.
هذه الحادثة الغريبة لها بعض المؤشرات، وبالرغم من مرور أكثر من أربعين عاما عليها، إلا أن دلالاتها حول طبيعة تفكير وتنظيم وتدريب الجنود في مصر لا زالت مترسخة في
النظام العسكري المصري.
أولا، الإدارة السينمائية للأحداث: وبدأ هذا التوجه مع عبد الناصر في الملف السياسي، ولكنه كان بعيدا نسبيا عن المجال العسكري، إلا أن السادات الذي كان يريد أن يصبح نجما سنيمائيا نقل هذا الأداء السنيمائي إلى المجال العسكري، وأصبحت العروض والألوان وأصوات الجنود العالية أثناء التدريبات المصورة هي معيار الكفاءة القتالية. وما حدث في لارنكا أحد هذه العروض المسرحية غير المفهومة التي جعلت قوات "النخبة" تهبط على أرض معادية لا تعرفها ويبدأ القتال من اللحظة الأولى وسط ذهول الجميع. وكما ورد في تقارير الحادثة، أن القوات المصرية كانت تتحرك بشكل حماسي استعراضي ليس له علاقة بعمليات الهجوم ولا حتى الدفاع.
وقد ترسخت عقيدة الأداء السنيمائي واحتلت مع الوقت مكان التدريب الحقيقي. فالتدريب يحتاج لتخطيط وعمل
وإمكانات وعقيدة حقيقية، أما الأداء السينمائي فلا يحتاج غير ألوان وأصوات وكاميرا ومخرج، وهذا أسهل بكثير. ولا ننسى الأداء المبهر للإعلام الرسمي في هذا الوقت حول تفسيراته للعملية الفاشلة والساذجة، وهو لا يختلف كثيرا عن الوقت الحالي.
ثانيا، انعدام قواعد وأساسيات الدخول في معركة: فبعد الفريق الشاذلي ورجاله في حرب أكتوبر، تقريبا لم يعد هناك من يستطيع قول لا. فعندما أمر السادات بأن تقتحم الطائرة لم يقل له أحد لا، ولا يهم عدم معرفتك بأرض معركتك القادمة ولا بطبيعة العدو ولا بالقوة اللازمة لتقوم بذلك، إذا فلا داعي للتخطيط ولا التريث ولا حتى الدراسة السريعة للموقف، فقط "شدوا حيلكم يا رجالة" وليفعل الله ما يشاء، ومن يمت فهو "شهيد". ومع موسيقى حماسية لتنشيط "الأورجازم" الوطني؛ يصبح كل شيء سهلا.
ثالثا، صناعة فقدان الذاكرة الجماعي: لا يعلم أحد منا أسماء ضحايا موقعة لارنكا الذين قتلهم السادات ومن حوله بلا شك، ولم يمجدهم الإعلام "كأساطير" كمنسي الأسطورة.. هؤلاء ذهبوا للمذبحة بقرار أحمق من قادة حمقى، وذكرهم وتمجيدهم يذكر الشعب بحماقة قادته، أما "منسي الأسطورة" فهو نجم المعركة الجديدة التي لا يفهمها أحد، وهو محرك من محركات الهياج الوطني. فنحن ننسى سريعا ما دام لا يذكرنا أحد، فقد نسينا حرب اليمن و67، وحتى كامب ديفيد، والجندي والضابط المصري كواحد من الشعب المصري يفقد ذاكرته أيضا تحت ضغط الأسطورة منسي والهياج الوطني المصاحب.
رابعا، المركزية المفرطة في اتخاذِ القرار: وهي في حالة
الحرب انتحار جماعي، فالكل ينتظر القرار من المركز، وصلاحيات اتخاذ القرار للمنفذين على الأرض منعدمة تقريبا. ونستشهد بالقول التالي لأحد الكتاب الأمريكيين، كينيث بولاك، في كتابه "العرب في الحروب" حول "حرب تحرير الكويت"، حيث يقول كينيث بولاك: "القوات المصرية لم تكن مستعدة لبدء التحرك في الساعة المحددة، وبدلا من أن تبدأ تحركاتها مع ضوء الفجر تأخرت حتى الثالثة عصرا. وكانت تحركاتها تتسم بالبطء الشديد، ما تسبب في إحداث فجوة بين القوات المتقدمة".
كما لم تسيطر الوحدات المصرية على قاعدة الأبرق في الوقت المطلوب، لذلك تم سحب مهمة القاعدة منها. وكانت قرارات قيادة القوات المصرية تتخذ ببطء وبيروقراطية شديدة، إذ كان يتوجب عليها مراجعة قيادتها السياسية في القاهرة قبل أي تحرك حتى لو بسيط. وخلص بولاك إلى أن "القوات المصرية اتسمت بالفقر الشديد في الأداء والمرونة والفكر والإبداع التكتيكي أثناء المعركة".
ونتذكر جميعا
الهجوم على الكمائن في شمال سيناء، والتي تبعد بأقصى تقدير عشر دقائق عن أي قاعدة جوية، إلا أن الدعم الجوي لا يأتي إلا بعد فترات طويلة عقب انتهاء كل شيء.
عندما تسقط هذه النقاط الأربع على الواقع الحالي وتسمع أهازيج الحرب، فلا بد أن تتساءل: هل ما زالت مفاهيم لارنكا حاضرة؟
فلنجب سويا..
الجيش المصري يعاني من مشاكل هيكلية فضلا عن الاستبداد والفساد الهائل، وهذه المشاكل مترسخة منذ نشأته، ولم يحل مرحليا إلا قبل حرب 73، ولكن الطبع يغلب التطبع وبالقول المصري: "رجعت ريما لعادتها القديمة".
ويمكن إجمال هذه المشاكل الهيكلية كالتالي:
أولا، انهيار لمنظومة التدريب القتالي: فالحرب لا يمكن أن تعتمد على قوات النخبة، وخاصة إذا كانت حربا واسعة النطاق على امتداد جغرافي واسع. وإذا فرضنا جدلا امتلاك قوات نخبة مدربة (على عكس ما حدث في لارنكا وكذلك في الواحات وما يحدث في سيناء)، فهذه القوات لا يمكنها خوض حرب واسعة النطاق، هي فقط تستطيع القيام بعمليات محددة (إذا افترضنا وجودها).
فالحرب عملية شديدة التعقيد، ويزداد تعقيدها عندما تحارب خارج أرضك بدون دفاعات سابقة، وتزداد خطورة عندما تكون حربا هجومية، ومع ازدياد درجات الخطورة تزداد حاجتك لتدريب فائق على القتال (ليس منه بالمناسبة ذر التراب في عيون المجندين وبملابسهم، فهذه التدريبات هي تدريبات الأسير وليس تدريبات المقاتل).
والعملية التدريبية تحتاج لكوادر وخطط واضحة، ومراجعات مستمرة، وإرادة وعقيدة قتالية، وموارد ضخمة. وكل المؤشرات تدل أننا بعيدون جدا عن ذلك.
ثانيا، عدم كفاءة نظام الاستدعاء للاحتياط: نظام الاحتياط هو محاولة لتوفير نفقات كبيرة بتقليل عدد القوات العاملة المنتظمة، إلا أنه يحتاج لنظام محكم وبدقة بحيث يعرف كل فرد مستدعى وظيفته بالضبط عند استدعائه.
ففي النظم العسكرية المحترمة يتم استدعاء الجندي أو الضابط فيتوجه لموقعه الذي تدرب عليه ويعرفه تماما، ويجد كل شيء معدا له ليقوم بمهمته أو تدريبه. أما نظام الاحتياط والاستدعاء في مصر فهو لا يمكن وصفه إلا بالكارثة، ولو سألنا المستدعين على مدى العشرين سنة الأخيرة سؤالا بسيطا جدا: هل وجدت زيك الرسمي؟ أو هل استقبلك أحد ليقول لك ماذا ستفعل عند وصولك لوحدتك؟ ستجد إجابات مؤلمة، ولكن لا تنس أن تسأله في السر، لأن الإجابة في العلن ستجد آلاف الأصوات التي تتهمه بالخيانة.
ثالثا، مركزية القرار: في معظم الجيوش يحق لقائد أي عملية مهما كانت رتبته أن يطلب دعما جويا بنفسه، وتكون مهمة الجهة المنفذة الترتيب لذلك دون العودة للقيادة إلا لإخبارها، أما في مصر فلا يمكن أن تتحرك طائرة أو دبابة أو مركبة مدرعة، وربما أقل من ذلك، بغير قرار من هيئة الأركان. وهذه تصلح في الجيوش السينمائية، أما في الحروب الحقيقية فهي عملية انتحار، أو بمعنى أدق قتل جماعي. وقد ذُكر في الأعلى اقتباس يعبر عن تلك المشكلة الكبيرة، ولذلك تتحول حركة القوات إلى معاناة كبيرة وتفقد القدرة على المناورة السريعة وتصبح أهدافا سهلة، وخاصة إذا كانت في أرض لم تعتد عليها.
رابعا، الكرامة المفقودة: لا يمكن أن تنتج مقاتلا إلا إذا كانت كرامته مصانة. وكما ذكرنا، معظم تدريبات الجيش، حتى التي يتباهون بها ويعرضونها على الشاشات بمنتهى الفخر مثل رمي الرمال في الوجوه، هي تدريبات لتحمّل الإهانة وليست لرفع الكفاءة القتالية. ولو سألت أي جندي في الجيش أو أنهى فترة تجنيده ستسمع من الحكايات ما يكفيك ويزيد عن الكرامة المهدرة. ومن الضروري أن نعرف أن من يحارب هم الأحرار، فضلا عن أن ينتصروا.
إذاً، فأزمة لارنكا ما زالت قائمة والجميع يعرفها داخل الجيش وخارجه، ولذلك يكتفون بالحروب السينمائية ويتحاشون الحروب الحقيقية، وسيبقون كذلك، فمن ينتصر في معارك على الشاشات وتضيع منه الأرض والبحر؛ بل ويتنازل عنها، ومن تضيع منه مياه النيل ولا يحميها، ويكتفي بألوان وأعلام وصيحات واستعراضات؛ أبدا لن يحارب، وخاصة إذا كانت انتصاراته المسرحية على الشاشات تنعش الهياج الوطني وتنسي الشعب الكوارث المتلاحقة. وإذا قرر خوض معركة استمرارا للخيانة والتدمير؛ فهي ليست لخوض معركة حقيقية لا يعرف الجنود ولا حتى الكثير من الضباط عنها شيئا؛ ولكنها محرقة جماعية وقتل عمد، وقتل للبشر بعد الماء والأرض وحتى الحجر، ولنا في مقابر المماليك عظة.