هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أعلن وزير الري الإثيوبي البدء في عملية تخزين المياه والبدء بملء سد النهضة.. وبالتوازي أكدت السودان انخفاض ما يصلها من مياه النيل وعزت ذلك لإجراءات إثيوبية لتجميع المياه لديها باعتبارها بلد المنبع.
المتابع لتطورات الأحداث لا يجد أي منطق سياسي وعقلاني في التعاطي المصري الرسمي مع المستجدات والتي سيكون لها تداعيات كبيرة على حياة المصريين وأمنهم المائي والغذائي والبيئي.
أمران أثارا تخوفاتي وانشغالي وأنا أتابع تحليلات الساسة من عرب وغربيين حول ردود الفعل المصرية، ومصر هي المتضرر الرئيسي من الخطة الإثيوبية.
الأمر الأول وهو إيحاء مصر عبر إعلامها بأنها ستذهب لمجلس الأمن وتطلب من فرنسا وألمانيا دعمها في ذلك. موقف ربما الهدف منه تهدئة الشارع المصري وربح بعض الوقت ومقياس درجة التفاعل الدولي، ولكنه يعطي ورقة إضافية للخصم ويعتبر تأكيدا آخر على أن السلطات المصرية تدير الملف بطريقة عاطفية وغير جدية بل وبعيدة عن الدبلوماسية وفقه السياسة الخارجية.
من البديهي أن هذه الخطوة ليس لها أي تأثير على مجريات الملف بل ستزيد من عزلة مصر وذلك لعددة أسباب منها:
ـ من المعلوم أن جنوب إفريقيا هي حاليا رئيسة الدورة الحالية في الاتحاد الإفريقي وهي التي تقود المفاوضات على المستوى الإقليمي وهي في نفس الوقت عضو في مجلس الأمن وتجاهلها في الخطة المصرية خطأ فادح وغير مفهوم.
ـ عدم الأخذ في الاعتبار الحساسية الكبيرة لدول الاتحاد الإفريقي من التدخلات الخارجية في ملفات القارة غير مفهوم خاصة وقد عبرت كل من إثيوبيا والسودان وجنوب إفريقيا والدول الفاعلة في الاتحاد عن رفضهم لأي خطوة من خارج المنظومة الإفريقية وبأن حل سد النهضة يمر عبر التفاوض السياسي تحت إشراف الاتحاد.
ـ نجدد التذكير بأن إثيوبيا هي مقر الاتحاد الإفريقي ودولة لها وزنها الاقتصادي والسياسي الكبير في القارة وقد ربحت من خلال الخطوط الجوية الإثيوبية نقاطا إضافية خلال أزمة كورونا وإيصال المساعدات الطبية لعدد من البلدان أعطاها رمزية عالية ومميزة ومحاولة الذهاب لمجلس الأمن هو إعطاء أوراق إضافية لأديس أبابا ويزيد من عزلة القاهرة على المستوى الإقليمي.
ـ عمليا لا يمكن لمجلس الأمن القيام بأي تحرك أو حتى نقاش لهذا الملف في الوقت الحالي لأسباب فنية نظرا لأن الملف مازال في طور المفاوضات وأيضا بسبب التوازنات السياسية، فأغلب الدول مصالحها مع إثيوبيا وليست مع مصر، فالصين هي من أهم المستثمرين في بناء السد وكذلك بريطانيا وفرنسا ولا مصلحة لهذه البلدان في تعطيل التشغيل أو التأجيل.
ـ طلب الدعم من ألمانيا في هذه الظروف لا معنى له، لا سيما بعد أسبوع واحد من اكتشاف عملية التخابر المصرية داخل ديوان رئيسة الحكومة ميركل والتمشي لسحب وإلغاء عديد العقود والامتيازات وفي ظل الهجمة الإعلامية الكبيرة على نظام عبد الفتاح السيسي، ولا يمكن لحكومة ميركل أن تدعم نظام عبد الفتاح السيسي في الظروف الراهنة.
ـ سياسيا طلب الدعم من فرنسا في ملف سد النهضة يعتبر انتحارا سياسيا وتجديفا ضد الحقوق المصرية لأن الفرنسيين مستثمرون وداعمون رئيسيون لبناء السد ويعتبرون هذا المشروع أحد أهم حصونهم وقلاعهم في إفريقيا مع التمدد الصيني والماليزي والتركي في المنطقة هذا فضلا عن حساسية التدخل الفرنسي في الشؤون الإفريقية لدى عديد بلدان القارة السمراء.
ـ إن عدم إعلام المعنيين والشركاء والأعضاء عبر القنوات الدبلوماسية قبل التسريب الإعلامي فيه إهانة للدبلوماسية المصرية ورجال السياسة في هذا البلد العريق وهو يعني غياب المؤسسات والتمشي السياسي العقلاني في البلاد.
ـ إضافة لكل هذا فإنه وبالتوازي مع الإعلان عن الذهاب لمجلس الأمن يتحدث الإعلام المصري الموجه من السلطات عن خطط لضربة عسكرية للسد وهذا يدلل على غياب كامل للمنطق والعقل السياسي والاستراتيجي فجميع العوامل الجيوستراتيجة ليست في صالح مصر وميزان القوى أيضا.
الأمر الثاني الذي يثير الدهشة والاستغراب من الموقف المصري هو محاولات صرف الأنظار وتلهية الشعب والتجييش الإعلامي من خلال التلويح بالتدخل في ليبيا ومواجهة... تركيا عسكريا ـ هكذا جهارا نهارا وتحت دفع القوى المناهضة لحرية الشعوب العربية في المنطقة.
سيكون انتحارا سياسيا ومحرقة عسكرية لو أقدم النظام المصري بالزج بشكل علني ومباشر بالجيش في ليبيا، أولا بسبب تعريض المصالح المصرية في غرب ليبيا للخطر وثانيا بسبب فتح جبهة عدائية مع دولة عربية ليست عدوا لمصر وشعبها.
وبعيدا عن العبث الإعلامي ووهم القوة وعدم الجدية في التعاطي مع ملفات خطيرة وكبرى فإن مجرد الحديث عن رسم خطوط حمر للليبيين والإيهام بلعب دور عسكري وحاسم فيه مغالطات كبيرة للشعب المصري وتزيد من تعميق الخلافات العربية وتدجين للمؤسسات القائمة.
فالجيش المصري اليوم لا يمكنه خوض معارك خارجية خاصة في مواجهة الأشقاء الليبيين ولا أعتقد أنه تغيب عن صناع القرار في مصر الحقائق الآتية:
ـ لا يمكن تغيير عقيدة الجيش والأولويات بين ليلة وضحاها ومن الصعب إقناع الجندي المصري بأن أعداءه اليوم هم على بعد 600 كلم في الجفرة في ليبيا وأنهم سيواجهون أصحاب الأرض والقضية والسلاح التركي هناك.
ـ من البديهيات في التخطيط تحصين الجبهة الداخلية لمواجهة أي تطورات كبرى. ومعلوم أن التعاطي الأمني مع الأوضاع في مصر غيب بالكامل الأحزاب والمجتمع المدني وقواه الفاعلة وهذا لا يسمح للنظام بخوض أي معارك تحتاج لعقيدة قتالية مدعومة بتوجه وطني واضح.
ـ إن مصر تعيش وضعا اقتصاديا في غاية الصعوبة وجميع المؤشرات سلبية ما دفعها للاقتراض بشروط البنك الدولي المجحفة والتي سترهن البلاد وقرارها السيادي لعشرات السنين.
ـ ما زالت البلاد ترزح تحت وطأة انتشار وباء الكورونا وتقارير منظمة الصحة العالمية وما روج في الإعلام الأمريكي والغربي وحتى شركاء النظام وداعميه من العرب حول تعاطي السلطات مع الوباء ما يجعل الأولوية القصوى هي لإرجاع ثقة المواطن في مسؤوليه وليس لخوض حروب خارجية أو مهمات مدفوعة الأجر تحسب على الجيش المصري.
ـ سيكون انتحارا سياسيا ومحرقة عسكرية لو أقدم النظام المصري على الزج بشكل علني ومباشر بالجيش في ليبيا، أولا بسبب تعريض المصالح المصرية في غرب ليبيا للخطر وثانيا بسبب فتح جبهة عدائية مع دولة عربية ليست عدوا لمصر وشعبها.
ـ إنه يكاد لا يمر يوم دون أن تعلن السلطات المصرية عن قيام الجيش بعمليات في سيناء وتصفية "إرهابيين".. ورغم الوعود المتكررة فإن السلطات العسكرية ما زالت بين كر وفر ولم تقدر على حسم معارك مع قبائل ومجموعات تنشط داخل الأراضي المصرية.
ـ وبالنظر لتعقيدات الملف الليبي وحرص الفاعلين الليبيين على إيجاد حلول داخلية سيكون من شبه المستحيل على جيش نظامي أجنبي أن يقاتل الليبيين على أرضهم ويحقق مكاسب خاصة في ظل وجود مصالح دولية متعددة وفاعلين كبار مثل الروس والأتراك والأمريكان، وهو ما أصبح يستوجب على العقلاء في مصر التسريع بإيجاد مسار سياسي ينقذ البلاد من الانهيار والتبعية لدول صغيرة وقوى وهمية تحمل أجندات مدمرة للثروة والسيادة والأوطان.
يجب على صانع القرار في مصر قراءة الواقع والتوازات والمتغيرات، وأن يدرك أن ما يقوم به في حلايب مع السودان غير ممكن في ليبيا، وأن الأولوية القصوى هي لإرجاع كرامة المواطن المصري وحفظ حقوقه في الداخل والخارج، وتوفير الغذاء والدواء بأيادي مصرية والتركيز على التصنيع والقيمة المضافة والسيادة على الأرض والقرار في بلد عربي غني بالثروات ويعيش فيه أكثر من 100 مليون شخص حاليا أكثر من نصفهم يعيشون الفقر والضياع وغياب الأفق.
أملنا كبير في مصر وشعبها وعقلائها وحكمائها وإن غدا لناظره قريب.
*مستشار الرئيس التونسي الأسبق للشؤون الدولية