هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في ظل أزمة سد النهضة
والتي اشتدت مؤخرا بين مصر وإثيوبيا، ظهر التحفظ الصومالي (الغريب بالنسبة لمصر)
على البند الخامس من البنود التسعة، من قرارات الجامعة العربية على مستوى الوزاري
بتاريخ 23 حزيران/ يونيو 2020، وهو ما أدى لغضب الإعلام شبه الرسمي الصاخب (توك
شو)، ونعت التحفظ الصومالي بالخيانة، وطعن العرب من الخلف، وإن كان الصومال قد برر
بأنه تحفظ من أجل إمساك العصا من الوسط، وتقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا.
ولكن مع كل هذا الصياح والعويل زار وفد مصري صومالي لاند
(أرض الصومال) قبل أسابيع، وذكرت بعض الصحف العالمية أن مصر تنوي إنشاء قاعدة
عسكرية في صومالي لاند، ما دفع إلى تحذير إثيوبيا تحذير
إثيوبيا بلسان المتحدث باسم
وزارة الخارجية دينا مفتي من بناء هكذا قواعد تكون مضرة لأمن إثيوبيا، كما ذكر ذلك
في مؤتمر صحفي عقده في أديس أبابا قبل أيام.
فهل يقبل الصومال إنشاء هذه القواعد في أراضيه؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا
بد أن نرجع قليلا إلى الماضي لنؤكد أن العلاقة بين مصر والصومال كانت قديمة وضاربة
في جذور التاريخ بسبب الجغرافيا والتجارة، كما أن الصومال لا يزال يقع على ممر
مائي هام للدول العربية عامة، ولمصر خاصة، والذي يربط بين البحر الهندي والبحر
الأحمر وصولا لقناة السويس.
وشهدت العلاقات بين البلدين تقاربا سياسيا
ودينيا منذ عام 1332م، حين طلب سلطان جمال الدين، ملك مماليك زيلع، أو
ما تسمى سلطنة "إفات" (في المفهوم القديم تشمل مماليك زيلع، الصومال،
وجيبوتي، وإرتيريا، وبعض الأراضي الإثيوبية إلى حدود هرر) من ملك المماليك البحرية
آنذاك ناصر الدين محمد قلاوون، النصرة لمواجهة الغزو الحبشي للسلطنة، بمساعدة
الروم عن طريق الساحل، وقد لبى قلاوون الطلب وأرسل جنودا وأسلحة إلى أن دحرت
السلطنة العدو الصائل.
ومع ذلك ظل الصراع الصومالي الإثيوبي متواصلا،
إلى أن اشتد أكثر بزمن خلافة العثمانيين الذين حكموا العالم الإسلامي بعد
المماليك، ووقعت الحرب العدلية الحبشية المعروفة، وقُتل الصومالي السلطان أحمد
الغازي المعروف بأحمد جري، علما أن كل هذه الصراعات كانت تشبه الحروب الصليبية، أي
حروب دينية.
ثم بعد تضعضع الخلافة العثمانية، جاء
الاستعمار واحتل الإنجليز شمال الصومال 1883م، وسلموا إقليم أوجادين إلى إثيوبيا
في عام 1954م، ما سبب توترا جديدا بين إثيوبيا والصومال وغضبا شعبيا ضد الاحتلال
الإنجليزي، وأدى إلى ثورة الستينيات ضد الاستعمارين الإنجليزي والإيطالي، والتي
بسببها قتل الدبلوماسي المصري المحنك كمال الدين صلاح، في محاولة إفشال الاستعمار
الإيطالي جهوده نحو دعم الصومال وإنهاء الوصاية.
ودخل في هذه الثورة بقوة الرئيس جمال عبد
الناصر عن طريق تهييج الشعب الصومالي ضد الإنجليز الاستعماري، مستخدما إذاعة صوت
العرب بصوت أحمد سعيد باللغة العربية وأحمد شيخ موسى باللغة الصومالية، حتى جاء
نصر التحرير ضد الاستعمار وأصبح محفورا في وجدان كلا الشعبين.
بعد التحرر الصومالي من الاستعمار واتحاد
الصومال الشمالي مع الجنوبي، ساعدت مصر الصومال الموحد اقتصاديا بشراء الموز منه
إسنادا له ولاستقلاله الجديد في الحكم. ثم بعد ذلك اتجه الصومال الكبير إلى الصراع
القديم، لتحرير إقليم أوغادين الصومالي من سيطرة إثيوبيا، والتي استمرت طوال
الفترة الممتدة بين عامي 1964 و1967. وكانت مصر مهتمة بهذا الصراع من أجل مصلحتها
(أي أمن مصر القومي) من جانب حماية النيل من سدود تقلل مياهه، ومن جانب آخر يتعلق
بعلاقة الصهاينة مع الحبشة وسماح هجرة الفلاشا إلى إسرائيل لمساعدتها بالاحتلال،
لذا دعمت الصومال في الحرب بمستشارين عسكريين وبالسلاح المعروف بين الصوماليين
"الحكيم".
ثم جاءت فترة الرئيس الأسمر أنور السادات الذي
كان يفتخر بنوبيته أمام الصوماليين وأنهم من سلالة واحدة، وكانت هذه الفترة
الذهبية بين الدولتين الشقيقتين، حيث ساعد الصومالُ مصرَ بالموز واللحم إبان حرب
أكتوبر 1973م، كما وكان الصومال واحدة من ثلاث دول لم تقاطع مصر بسبب اتفاقية كامب
ديفيد عام 1977م.
برحيل أنور السادات جاءت لحظة الفراق بين
البلدين، وهي فترة الانكفاء برئاسة الرئيس المخلوع حسني مبارك، والذي نهج ببراعة
سياسة الانكفاء على الذات وعدم المبالاة بما يخص الأمن القومي المصري، لا سيما حين
سقطت الدولة العسكرية الصومالية، ودخلت البلاد في دوامة العنف، وأصبحت المحروسة مصر
باردة أمام مشاهد إشعال إثيوبيا حروبا أهلية بين الصوماليين، حتى أصبحت الحبشة
رقما صعبا في سياسة الصومال، سواء بسياسة التفريق أو باحتلالها بعض الأقاليم في
أوقات متعددة (1996م و1999م).
وحصلت الطامة الكبرى حين احتلت إثيوبيا مقديشو
ودخلت بدباباتها 2006م، وقال الرئيس حسني مبارك المخلوع آنذاك ما معناه
"أتفهم احتلال إثيوبيا للصومال". لقد كانت سقطة كبيرة أهانت دماء
الصوماليين، وأهانت التاريخ الكبير والتضحيات الجسام. نعم هذه الكلمات كانت خفيفة
في نطقها ولكن كانت خنجرا مسموما في ظهر الشعب الصومالي وقضيته.
مجمل القول أن حكام مصر أخطأوا خطأ شنيعا أمام
إخوانهم الصوماليين طيلة ثلاثين سنة، حينما تركوا البلد يواجه مصيره لوحده، وحينما
تخلوا عنه لصالح إثيوبيا، وتعاملوا مع الصوماليين بمنطق الآية الكريمة التي
تقول: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون".
لذا لا يحق لحكام مصر في هذا الوقت العصيب أن
يطلبوا إقامة قواعد عسكرية لأن إثيوبيا هي التي تساعد الصومال ضد حركة الشباب.
فالأولى بهم أن يستوعبوا الأخطاء الشنيعة، ومعالجتها في مسارها الأخوي.
أما على الإعلام المصري فعليه أن لا ينخرط في
تعميق الجراح ويكف عن صناعة البغضاء والكره، لا سيما البرامج الإعلامية
والمسلسلات والأعمال الدرامية التي اتخذت من الصومال مادة للسخرية والتهكم منذ زمن.
وأملي من الصومال ألّا يتفرج ويترك الشعب
المصري العظيم يعطش، وبإذن الله سيفعل ما يستطيع في أروقة المجالس الأفريقية، وأن
يلعب الوساطة بين مصر وإثيوبيا، وفعلا بدأت كما قال معالي وزير الخارجية الصومالي
السيد أحمد عوض عيسى.