ما زال الانسحاب الأمريكي المرتقب من منطقة المشرق العربي وغرب آسيا يشكل الحاكم الرئيسي للحراك السياسي لدول المنطقة عموما. وتأتي خطوة
التطبيع المشؤومة التي أقدم عليها حكام دولة
الإمارات مع كيان الاحتلال ضمن هذا السياق الأشمل.
فصحيح أن توقيت هذه الخطوة أتى ليصب في مصلحة نتنياهو وترامب الانتخابية، وكان هدية مجانية من حكام الإمارات على حساب المسجد الأقصى والحقوق العربية المغتصبة في أرض
فلسطين، كي يقدمها مغتصبو القدس كإنجاز إلى قواعدهم الشعبية بديلا عن فشلهم؛ سواء في
تنفيذ خطة الضم أو تحقيق أي تقدم فعلي في مواجهة إيران على الصعيد الدولي أو أي إنجاز آخر يعتد به على صعيد السياسة الخارجية لكل من كيان الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية، لكن التوقيت وحده لا يكفي لتفسير ما اقترفه حكام الإمارات، لا سيما في ظل تهافت دول خليجية أخرى وربما غير خليجية أيضا على التطبيع المذل مع الكيان الصهيوني في هذه المرحلة من التقلبات الدولية.
يبدو أن حكام تلك الدول التي تدور في الفلك الأمريكي (سواء التي طبعت حديثا أو تلك التي على وشك التطبيع) باتوا
يبحثون عن راع إقليمي آخر للتعويض عن تقليص الولايات المتحدة الأمريكية المرتقب لحضورها المباشر في المنطقة على أقل تقدير، ويبدو أنهم وجدوا ضالتهم في كيان الاحتلال، حليفهم السري القديم. وعوضا عن أن تجد تلك الأنظمة في التراجع الأمريكي فرصة سانحة لإنشاء منظومة إقليمية جديدة؛ يكون عمادها استكمال الاستقلال والتعاون الإقليمي البناء بما فيه مصلحة شعوب المنطقة عموما، تحاول تلك الأنظمة صياغة منظومة إقليمية جديدة يشكل فيها كيان الاحتلال دولة المركز، وتكتفي هي بلعب دور ولايات تابعة (دول الأطراف) لذلك المركز المهيمن، مستنسخة بذلك المنظومة الاستعمارية الرأسمالية القائمة حاليا في العالم. وتكون بهذا قد طبقت الهدف النهائي لِما سمي "
صفقة القرن"، بكل ما تنطوي عليه هذه الصفقة المزعومة من تنازل عن أراض عربية محتلة وتفريط في المقدسات الإسلامية والمسيحية، ناهيك عن الجدار الحاجز الذي سيشكله نشوء هكذا منظومة أمام التنمية الحقيقية لدول الإقليم واستغلال ثرواته. فهل يمكن أن يصب التحالف العلني مع كيان الاحتلال في مصلحة دول تلك الأنظمة وشعوبها، أم على العكس؟
بالنظر إلى موازين القوى الراهنة، نجد أن كيان الاحتلال يعيش أضعف مراحله بالحد الأدنى إقليميا. فهذا الكيان الذي لا يقدر على حماية مغتصباته من صواريخ فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، والذي يضطر إلى تأجيل خطة الضم خوفا من اشتعال الأوضاع في الضفة الغربية والتي لن يكون قادرا على احتواء تبعاتها، وجيش الاحتلال هذا الذي بات عاجزا عن شن حرب على المقاومة الإسلامية في لبنان حزب الله بهدف القضاء عليها أو تحجيم قوتها المتصاعدة على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، فهل سيستطيع تأمين الحماية لتلك الأنظمة المتهافتة على إقامة الأحلاف معه؟ أوَلا تخشى تلك الأنظمة أن تصير أراضيها أهدافا مشروعة في حال وقوع مواجهة مع الكيان الغاصب، بعد أن فتحت له أراضيها عبر ما تجاهر به من تفاهمات أمنية وربما أخرى عسكرية مستقبلا؟
لطالما تلطخت أنظمة ما يسمى "محور الاعتدال العربي" بالواقعية والبراغماتية لتبرير تنازلاتها أمام العدو، فلماذا تتخلى اليوم أنظمة هذا المحور عما أسمته بالواقعية لصالح مغامرات يمكن أن تطال مصير دولها من خلال
الانضمام إلى المعسكر الصهيوني الذي هو إلى زوال عاجلا أم آجلا؟
يظهر أن العقل النمطي وعدم القدرة على قراءة الواقع ولا استشراف المستقبل، بالإضافة إلى طبيعة تكوين بعض تلك الدول، يدفع هذه الأنظمة إلى الإقدام على خطوات غير محسوبة العواقب. فمن المنظور الاستراتيجي، لن يحمي تلك الأنظمة انضمامُها إلى كيان الاحتلال المتأزم، ولن يفيد الكيان كثيرا خروجُ ما كان يحصل سرا إلى العلن، ولن يكون لهذه الاتفاقيات أثر فعلي على موازين القوى القائمة حاليا.
وحري بالقول في هذا المقام إن المخاطر التي يمكن أن تواجه الدول المنضمة حديثا إلى نادي المطبعين، تنسحب بالطبيعة على سائر دول المنطقة المنتمية أصلا لهذا النادي؛ لا فرق في هذا بين عربي وأعجمي، بالضبط كما لا يفرق كيان الاحتلال بين عربي وأعجمي عندما يتعلق الأمر ببسط سيطرته على منطقتنا، واستنزاف قدرات وثروات شعوبنا. فهذه هي طبيعته الوظيفية التي لأجلها خَلَقَه الاستعمار في الأصل، وعليه يجدر بكل دول المنطقة التي لديها
علاقات سرية كانت أم علنية مع كيان الاحتلال أن تبادر إلى قطع هذه العلاقات، وأن لا يقتصر موقفها على إدانات لفظية للتطبيع، فتصير هذه الإدانات عبارة عن توظيف سياسي ومزاودات إعلامية. فهذا لا يُفقد تلك الدول مصداقيتها فحسب، بل قد يُحَوِّل محاربة التطبيع من قضية مبدئية إلى قضية استنسابية، ويفقدها قدسيتها.
وعلى أية حال، تبقى الأرض المحتلة مركز صنع الحدث، والساحة التي يمكن أن تُسقط فيها كل المؤامرات، فكان الإجماع الفلسطيني على توصيف خطوة الإمارات بأنها طعنة بخنجر مسموم في ظهر الشعب الفلسطيني عين الصواب، ولكننا نتمنى أن يُستكمل هذا الخطاب برد عملي في الميدان عبر تسعير كل أشكال المقاومة الشعبية والعصيان المدني في الضفة الغربية، فهذا وحده فقط الذي سيُفشل مؤامرات التطبيع، ويدفن مخططات "صفقة القرن" والضم إلى الأبد، فالكرة الآن في ملعب الشعب الفلسطيني وفصائله وسلطته والأمر لها.