كتب

إخفاق الديمقراطية المفروضة تحت قصف القنابل (2من3)

كتاب يسلط الضوء على احتلال العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل ونشر الديمقراطية  (عربي21)
كتاب يسلط الضوء على احتلال العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل ونشر الديمقراطية (عربي21)

الكتاب: أعداء الديمقراطية الحميميون
الكاتب: تزفيتان تودوروف ، ترجمة د.مناف عبّاس، مراجعة د. جمال شحيّد
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب،دمشق، الطبعة الأولى 2019.
(عدد الصفحات 255 من القطع الكبير)

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الحلقة الثانية من عرضه لكتاب "أعداء الديمقراطية الحميميون"، للكاتب والباحث البلغاري تزفيتان تودوروف، تسليط الضوء على الرؤية الأمريكية والغربية للديمقراطية في العالم، ويأخذ من الحالة العراقية نموذجا.. 
 
الإمبراطوريات التي تمتلك العمومية

في عودة إلى تاريخ الإمبريالية الرومانية، التي تلت انتصارها الحاسم على قرطاجة في نهاية ثاني حرب بين الجانبين، انتشر سلطان روما تجاه الشرق بسرعة، وأصبحت تسيطر على كامل البحر الأبيض المتوسط، وصارت بذلك تمتلك موارد لا حصر لها من المال والأرض والعبيد. وخلال التاريخ، كانت الإمبراطوريات الحقيقية (الرومانية والعربية الإسلامية) تتسم بخاصيتين اثنتين، ترتبط الواحدة منهما بالأخرى بعلاقات وظيفية. تتمثل الخاصية الأولى في أنَّ الإمبراطورية تولد تحت الضغط العسكري، وهذا الضغط يسمح باستخراج جزية تغذي المركز، بينما تتمثل الثانية في أنَّ المركز ينتهي بأن يعامل الشعوب المغلوبة مثل معاملته للمواطنين العاديين، ويعامل المواطنين العاديين مثل معاملته للشعوب المغلوبة.

إنَّ واحدا من المقولات الأساسية للإمبراطوريات ـ المبدأ الذي يضمن الدينامية والاستقرار معا ـ هو العمومية، أي القدرة على التعامل بالمساواة مع الأفراد والشعوب. ويسمح ذلك بالتمدد المتصل لنظام السلطة عن طريق اندماج الشعوب والأفراد المحتلة بالنواة المركزية. يجب تجاوز القاعدة الإثنية عند البداية، ويتسع حجم المجموعة البشرية التي تتماهى مع النظام من دون توقف؛ لأن النظام يسمح للمغلوبين بأن يعتبروا أنفسهم غالبين. و في هذه الشعوب المقهورة، يتحول العنف الذي مارسه المنتصر، في البداية، إلى نوع من الكرم.

إن نجاح روما وفشل أثينا، لا تفسرهما المواقف العسكرية المتباينة بقدر ما يفسرهما الانفتاح المتصاعد لحق المواطنة الرومانية والانغلاق المتعاظم لحق المواطنة في أثينا. والأمر عينه ينطبق على الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ البشري، وتبنت مبدأ العمومية مثل الصينية، والعربية الإسلامية، والفرنسية في عهد انتصار الثورة الفرنسية، وكذلك السوفييتية في عهد المد الشيوعي. فالصين تجمع تحت حكمها أكبر تجمع بشري خضع لسلطة حكومة واحدة في التاريخ، والإمبراطورية العربية الأولى يفسر توسعها الفائق بمبدأ المساواة الذي يعتمده الدين الإسلامي من جهة، وبالقوة العسكرية للفاتحين أو تفكك الدولة الرومانية من جهة أخرى. وكانت الإمبراطورية السوفييتية في العصر الحديث، تعتمد في تعاملها مع الشعوب على المساواة التي تشكل خاصية لدى الشعب الروسي، أكثر مما تعتمد على البنية الإيديولوجية للشيوعية. وفرنسا التي كانت قبل تراجعها الديمغرافي النسبي، امبراطورية حقيقية على مستوى أوروبا، كانت أيضا تعتمد مبدأ العمومية.

إنَّ العمومية الروسية واضحة ونقية، فالشيوعية هي بالتأكيد الإيديولوجيا الأكثر عمومية منذ الثورة الفرنسية التي نادت بمبدأ الحرّية للجميع. ومهما تكن عيوب الشيوعية، فلا يمكن نكران أنها عاملت بالتساوي جميع الشعوب المغلوبة. لكنّ هذا الأمر لا ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية، التي من الصعب أن تتحول إلى امبراطورية على غرار الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ البشري، لأنَّها لا تمتلك العمومية، وتعبر الحالة الأمريكية بصورة حادة عن الازدواجية الأنغلوساكسونية، إزاء المبدأين المتنافسين: التمييز والعمومية. إنَّها عبارة عن تجمع ناتج عن اندماج المهاجرين الذين قدمتهم جميع الشعوب الأوروبية. وقد أظهرت النواة الإنجليزية الأولى قدرة مطلقة على امتصاص أفراد من إثنيات مختلفة.

إنَّ النظام الأمريكي الذي تأسس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وخلال مرحلة الحرب الباردة، ظهر في الخارج عن طريق ضم الدول المتقدمة الحليفة إلى فضاء الاقتصاد الرأسمالي الحر المتجانس، كما ظهر عن طريق تشجيع التخلي عن الاستعمار في سائر أنحاء العالم الغربي. لكنْ مع انهيار الإمبراطورية السوفييتية، تراجعت العمومية الأمريكية، وجرى كل شيء وكأن ضغط النظام الشيوعي المنافس، قاد الولايات المتحدة إلى أبعد مما كانت ترغب في الوصول إليه في مجال العمومية.

وينكشف تراجع العمومية الخارجية الأمريكية في الانحياز المطلق لإسرائيل. وإنّه لأمر غريب أن يرى المرء أهمية العلاقة مع إسرائيل إلى جانب علاقة معادية شاملة للولايات المتحدة مع العالم العربي، وبصورة أوسع مع العالم الإسلامي، حيث إنَّ عقلانية هذه العلاقة ومنفعتها أمر عسير على الشرح. فأطروحة التعاون بين الديمقراطيات غير مقنعة، والظلم الذي يرتكب ضد الشعب الفلسطيني كل يوم من جانب الاحتلال الصهيوني لما تبقى له من الأرض، حين تحولت أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر إلى كسور عشرية، في ظل تنامي الاستيطان الصهيوني وانتشاره، هو بحد ذاته نفي لمبدأ المساواة الذي هو أساس الديمقراطية.

تصدير الديمقراطية بواسطة الحروب
 
كانت الخلاصة السياسية الأولى، تمثلت في انبثاق الثورة الفرنسية عام 1789، حيث إنَّ مشروع هذه الثورة انتقل إلى جيوشها التي ستتكفّل بحَمله إلى ما وراء الحدود عبر تصدير هذه الثورة إلى كامل بلدان القارة الأوروبية. وحين وصل نابليون إلى السلطة، تبنى الفكرة عينها التي سارت عليها الثورة الفرنسية، فعرفت فرنسا خلال عهده فترة من الحروب المتواصلة، التي فرضتها أيضا على باقي دول أوروبا، دامت ثلاثة وعشرين عاما (1792 ـ 1815) وكانت مسؤولة عن سقوط ملايين من الضحايا. وكان نابليون يقدم نفسه بانتظام، على الصعيد الدولي، كوريث لعصر الأنوارو الثورة معتمدا على قوة جاذبية أفكارهما.

وجاءت الخلاصة السياسية الثانية، التي كانت من خلال المشروع الشيوعي، أي الثورة الاشتراكية التي فجرتها وقادتها روسيا السوفياتية. أما الخلاصة الثالثة، فقد جاءت في عصر النظام الأمريكي أحادي القطبية لفرض الديمقراطية عبر القنابل. فقد شهدنا منذ سقوط الإمبراطورية الشيوعية في أوروبا، في السنوات 1989 ـ 1991، تكوّن شكل ثالث من الخلاصة السياسية، وهو الأكثر توافقا مع الديمقراطيات الحديثة. تتعارض هذه الخلاصة من نواح عدة مع المشاريع الشمولية التي سبقتها، لكنها تحافظ على عدد من نقاط التشابه مع الموجة الأولى التي قامت على الحروب الثورية والاستعمارية.

 

للحرب الأمريكية على العراق، لم تكن أبداً من أجل نشر الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان ، بل هي في جوهرها تدخل في سياق الحرب الاستباقية التي نظّر لها المحافظون الجدد، بوصفها الفصل الكبير الأول من عملية إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية العالمية، والدور الذي تنوي الولايات المتحدة أن تؤديه فيها

 



يقول الكاتب تزفيتان تودوروف: "تقوم هذه السياسة إذا على فرض النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان بالقوة، وهو ما من شأنه أنْ يخلق تهديدا داخليا في البلدان الديمقراطية نفسها. وتقدم الدول الغربية التي تجسد هذا المشروع الأمرَ على أنه إتمامٌ للديمقراطية وليس على الإطلاق تجاوزا لمبادئها، وهو ما أراد المشروع الشيوعي أنْ يكون عليه. بيد أنَّه يمكن ملاحظة شيء من الاستمرارية القائمة بين خلاصية الموجتين الثانية والثالثة، التي يبرزها أيضا تقارب الفاعلين في هذا التيار هنا وهناك. ويمكن لهذا التأهيل أنْ يدوم فترة جيل كامل أحيانا. 

هذا هو حال عددٍ من "المحافظين الجدد" الأمريكيين (وهو مصطلح محبط لأنه لا يخصّ المحافظين)، المنظرين لشرعية التدخل العسكري في سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان، والذين هم نتاج أوساط النخبة الفكرية (الإنتلجنسيا) الموالية للشيوعية سابقاً، التي تحولت بمرور الوقت إلى معاداة الستالينية (بمنظور تروتسكوي بداية ومن ثمَّ ديمقراطي). أما في فرنسا، فيمكن أحيانا للأشخاص أنفسهم أن يعرفوا المراحل الثلاث: أنصارٌ للديانة الشيوعية قبل عام 1968 وبعده بقليل، عبر انضوائهم غالبا ضمن إحدى صيَغه المكوِّنة لأقصى اليسار، أصبحوا بعد سنوات عدة مناهضين راديكاليين للشيوعية وللشمولية، نتيجة انتشار معلومات أشمل عن واقع الغولاغ (حيث لُقِّبوا بـ "الفلاسفة الجدد")، قبل أنْ يعدوا إلى الظهور في السنوات الأخيرة كأنصار للحرب "الديمقراطية" أو "الإنسانية" في العراق أو أفغانستان أو ليبيا (ص 61 ـ 62 من الكتاب). 

حرب العراق 

لم تُستخدم عبارة "الحق بالتدخل" إبان الظهور التالي للخلاصة السياسية الجديدة التي تمثلّت بالحرب على العراق، التي شنّها تحالف عددٍ من البلدان تحت قيادة الولايات المتحدة. وقد أعفى هذا التحالف نفسه مرة أخرى من الحصول على قرار من قِبَلِ هيئة الأمم المتحدة. شكّل الوجود المزعوم "لأسلحة دمار شامل" في العراق الذريعة للبدء بالعمليات العسكرية هناك في العام 2003، وهو ما تبيّن زُوْرُه بالكامل فيما بعد. بيد أنّ منطق التدخل باسم فعل الخير كان حاضرا بشكلٍ حقيقي.

يحاول المدافعون الغربيون عن التبريرات الأمريكية بشأن نشر ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية "والحرب الإنسانية" في العراق، أن يقدموا صورة عن الولايات المتحدة هي نوع من "امبراطورية مخففة وهيمنة عالمية، أدواتها السوق الحرة وحقوق الإنسان والديموقراطية المفروضة من قبل أعتى قوة عسكرية عرفها العالم"، على حد قول الأستاذ في جامعه هارفارد والاختصاصي في حقوق الإنسان الكندي مايكل إيغناتييف، الذي نشر مقالة في مطلع العام 2003 في ملحق يوم الأحد لصحيفة "نيويورك تايمز"، ولقيت الكثير من الأصداء يمتدح فيها بلهجة تبغي الإقناع من دون حماسة فوائد "الامبراطورية الأمريكية" التي تتحول في سياق تحليله إلى "امبراطورية الخير". ويكمل مايكل إيغناتييف تحليله قائلا؛ "إن ما يعمل لصالح الولايات المتحدة، أنَّها تحولت في مكان مثل العراق إلى الأمل الأخير في تحقيق الديموقراطية والاستقرار".
 
لكن سيرورة الحرب تقدم لنا تكذيبا صريحا لهذا التشخيص، فالحرب الأمريكية على العراق، لم تكن أبدا من أجل نشر الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، بل هي في جوهرها تدخل في سياق الحرب الاستباقية التي نظّر لها المحافظون الجدد، بوصفها الفصل الكبير الأول من عملية إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية العالمية والدور الذي تنوي الولايات المتحدة أن تؤديه فيها، مستغلة في ذلك أحداث 11 أيلول /سبتمبر 2001، التي عبّدت لها الطريق.
 
لقد لَقِيَت اِدِّعَاءَات إدارة بوش حمل الديمقراطية إلى العالم الإسلامي عموما والعراق خصوصا انتقادات حادّة من "الواقعيين". فالسيد آدم غارفنكل، رئيس تحرير The National Interest وهي المجلة النظرية الممثلة لهذا التيار حذر بقوة من السذاجة التي تتسم بها هذه المقاربة وذلك منذ خريف العام 2002.وكان أول اعتراضاته يخص "مفارقة الديمقراطية" التي حددها استاذ آخر من هارفرد هو صموئيل هانتنغتون الذائع الصيت (رحل مؤخرا)، أي إن الديمقراطية في بعض مناطق العالم، يمكن أن تؤدي إلى بروز قوى معادية للغرب الراعي لهذه الديمقراطية. وخير مثال على ذلك هو العالم الإسلامي حيث العداء لأمريكا يبلغ مستويات قصوى.

أما الاعتراض الثاني، فيفترض أن الحملة من أجل الديمقراطية في العالم العربي تمثل "تحولا رئيسيا في موقف الولايات المتحدة من النخب غير الديموقراطية الحاكمة في السعودية ومصر والأردن وغيرها، التي اعتبرناها في عداد الأصدقاء طويلا، وإلا فإننا سندخل حلقة فاضحة من الرياء الديبلوماسي".

وكان الرئيس جورج بوش له فكرة كبيرة لجهة انتظاره نتائج الانتخابات التي جرت في هذا "الشرق الأوسط الكبير" في بداية سنة 2005، والتي أثارت مخيلته السياسية: ولم يكن يشك أن تكون نتائج الانتخابات مغايرة لطموحاته وأمنياته. فالهندسة الديمقراطية، التي كان يجب أن تكمل "الحرب على الإرهاب" من خلال الإفساح في المجال للوصول إلى السلطة نخب عربية ليبرالية موالية للغرب منبثقة من المجتمع المدني، ترجمت، في معظم البلدان التي جرت فيها انتخابات حرَّة، أو نصف حرَّة، إلى تحقيق بعض النجاحات الصغيرة من جهة، إذ جرت أنسنة النظام في المغرب، واستدارت ليبيا نحو توطيد العلاقة مع الغرب. ومن جهة أخرى، قادت إلى فوز الحركات الإسلامية المناهضة للغرب. فهذه النجاحات هي مبررة من قبل رفض الناخبين العرب الموافقة على سياسة أمريكية أحادية، ومؤيدة بصورة مطلقة لإسرائيل. فكان الإخوان المسلمون المستفيدين الرئيسيين من الانتخابات التعددية التي جرت في مصر. أما في حال العراق، فقد كان الوضع دراماتيكيا. فالسكان توجهوا بكثافة لانتخاب برلمان جديد حر وديمقراطي، لأول مرة في تاريخهم، بيد أن هذه الإمكانية التي منحت لهم، لم تكن كافية لكي يتفق الشيعة، والسنة العرب، والسنة الأكراد، على الوسائل الكفيلة لتقاسم السلطة، بل إن العراق غارق اليوم في فتنته الطائفية.

يقول الكاتب تزفيتان تودوروف: "عَرَّض الجيش الأمريكي نفسه للشبهة بشكلٍ جدّي إبان إدارته للاحتلال بتعميمه ممارسة التعذيب في السجون العراقية. لقد ذاع صيت سجن "أبو غريب" في العالم أجمع عقب نشر صورٍ في العام 2004 للمساجين العراقيين المنكّل بهم، لكن عددا من السجون المشابهة الأخرى موجود في العراق وفي دول أخرى. وقد أكدت التحقيقات اللاحقة انتشار هذه الممارسات وطابعها المنتظَم. بناءً على ذلك، أظهرت إحدى نشرات الحكومة الأمريكية الرسمية الصادرة في نيسان 2009، قانونا يلامس التعذيب بشكل لا يُصدق، نجِدُ صياغته الأولية في كتب أل سي آي إيه (وكالة الاستخبارات المركزية) الإرشادية، قبل أنْ يعدّلها المسؤولون القانونيون في الحكومة. أمّا ما تحمله هذه التعديلات فيتلخص بالآتي: لم يَعُدْ التعذيب يمثل خرقا مؤسفا للقاعدة، بل أصبح خرقا يمكن إيجاد الأعذار له، أصبح إذا هو القاعدة. كنّا نتصور قبل ذلك أنّ ممارسات التعذيب كانت تصدر عمّا يمكن تسميته بالأخطاء أو التجاوزات غير المقصودة للحدود التي تفرضها ضرورات اللحظة الراهنة. إلا أننا لاحظنا أنّ الأمر، وعلى العكس من ذلك، عبارة عن إجراءات محددة بأدق تفاصيلها وزمانها ومكانها"(ص 68 من الكتاب).

 

اقرأ أيضا: إخفاق الديمقراطية المفروضة تحت قصف القنابل (1من3)

التعليقات (0)