تتذبذب مطالب الدول والمجتمعات نحو الوحدة والانفصال تاريخيا، تماما مثل حركة باندول الساعة؛ تارة إلى هؤلاء وتارة إلى هؤلاء. العامل الحاكم هو اقتصادي أحيانا، وسياسي وديني في أحيان أخرى.
وفي عالم اليوم مثلا، سنجد من يدافع عن النفوذ الروسي في أوكرانيا ويتحدثون الروسية في شرق البلاد، وستجد من يدافع عن الارتباط بأوروبا ويتحدثون اللغة الأوكرانية غرب البلاد. يدفع هؤلاء روابط اللغة والثقافة والتاريخ والحنين، ويدفع أولئك الطموح الاقتصادي واللحاق بقطار
الاتحاد الأوروبي وأحلام الاستقلال.
الأمر ذاته ينطبق على
أسكتلندا التي صوتت للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وإنجلترا التي صوتت للخروج منه. يقول الأسكتلنديون إنه تاريخهم ومصالحهم الاستراتيجية مع الاتحاد، ويقول الإنجليز عكس ذلك.
ويبرر هؤلاء وأولئك مطالبهم بطبيعة العلاقة التي تربطهم مع الاتحاد. فهناك من يرى أن الأموال التي يأخذها الاتحاد تحصل البلاد في مقابلها على خدمات ويتمتع مواطنوها بامتيازات عابرة للحدود، ويرى آخرون أنها أموال جباية، وأن الخروج من هذه المنظومة هو الأفضل وأننا قادرون على الاعتماد على أنفسنا.
المفارقة أن الحزب الحاكم في حكومة أسكتلندا المحلية يدعو للاستقلال أو الانفصال عن المملكة المتحدة، وفي نفس الوقت يدعو للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي ويسوق الأسباب نفسها لتبرير الموقفين. لم يتهم طرف آخر بالخيانة وتبرير الاستعمار لأن المبررات واضحة.
المنطق ذاته كان يحكم شعوبنا العربية والإسلامية مطلع القرن العشرين وما قبله. كانت النخب السياسية والفكرية ومعظم الشعوب ترى في الرابطة الإسلامية متمثلة في الخلافة العثمانية؛ رابطة سياسية تتيح امتيازات كثير لمواطنيها ودولها.
لم يكن مصطفى كامل باشا في مصر مثلا خائنا، وهو يدعو للجامعة الإسلامية والحفاظ على التبعية المصرية للباب العالي في كفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي للبلاد. كان يعلم بالطبع أن هذا النفوذ بدأ أصلا بالسماح العثماني للجيش البريطاني بدخول البلاد على يد الخديوي توفيق لإخماد ثورة عرابي عام 1882. لم يكن هذا مبررا وقتها ليطالب بالانفصال عن الدولة العثمانية، وقتها كان هناك تيار آخر يدعو للارتباط بأوروبا، لكنه لم يكن تيارا كبيرا حينها، ولم ينعت أي من هؤلاء الآخر بأنه خائن وقابل للاستعمار.
ربما لا يدري كثيرون أن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، هاجر من بولونيا التي كانت تحت الإمبراطورية الروسية إلى سالونيك اليونانية التي كانت تحت الحكم العثماني مطلع القرن العشرين، وقضى فيها سنة كاملة قبل أن ينتقل لإسطنبول عام 1912 ويتعلم التركية ويلتحق بجامعتها. وكان يكتب مدافعا عن الدولة العثمانية في مواجهة الأخبار التي تنتشر عنها في الصحف الروسية. وكان بن غوريون مجرد حالة ضمن كثير من اليهود في أوروبا، وتحديدا أوروبا الشرقية وروسيا، الذين وجدوا في الدولة العثمانية أمانا من الاضطهاد الذي يعانون منه.
لا أدري من أين أتت عديد من الأصوات اليوم في العالم العربي التي تريد إعادة تقييم التاريخ العربي والإسلامي الحديث لخدمة أجندات سياسية. فالنفوذ التركي حقيقة واقعة لا يمكن تغييرها في عالم اليوم، وهو ذو تأثير ناعم وصلب شئنا أم أبينا. يمكن تقييم المسألة من ناحية مصالح الدول العربية الاقتصادية والسياسية على مستوى الدول والأفراد والاختلاف حولها. كل هذا مقبول. لكن القول بأن أي تحرك تركي استراتيجي في المنطقة هو استعمار فلا يقبله المنطق والعقل والتاريخ.
الخيارات السياسية وتحديدا في السياسة الدولية ليست واسعة، فليس المفاضلة بين الحسن والأحسن ولكن بين السيئ والأسوأ، وليس معنى تفضيل طرف على آخر أنه تسليم مطلق بنزاهة كل تحركات هذا الطرف السياسية. سجل
تركيا مثلا في حقوق الإنسان ليس ناصع البياض، لكنه قطعا أنظف من سجل إيران وروسيا والإمارات. وإذا أردنا أن نكون منصفين وموضوعيين، فعلينا أن نقيم نموذجا وحدويا مثل الاتحاد الأوروبي اليوم بكل مزاياه ومشاكله بالمعايير نفسها التي نقيم بها الخلافة العثمانية، مع الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي.
twitter.com/hanybeshr