أخبار ثقافية

كافكا: قسوة الحياة والرؤية السوداويّة

على الرغم من حالة السوداويّة المفرطة والغموض الكبير في أعمال كافكا إلا أنّ مكانته الأدبيّة كانت عالمية واسعة- جيتي
على الرغم من حالة السوداويّة المفرطة والغموض الكبير في أعمال كافكا إلا أنّ مكانته الأدبيّة كانت عالمية واسعة- جيتي

تمثّل أعمال الكاتب التشيكيّ فرانز كافكا (1883- 1924) المكتوبة باللغة الألمانيّة حالة كابوسيّة لصورة الاغتراب الإنسانيّ في الوجود، فمعظم الشخصيّات في أعماله الروائيّة والقصصيّة تواجه ظروفا غامضة تضعها في مآزق هائلة أشبه بالطلاسم وتنهي في نهاية المطاف وجودها.

 

وأخذ هذا الطابع في الكتابة مدى واسعا في التأثير في الأدباء على مستوى العالم، حيث انتشر توظيف شخصيّاتٍ تقع في ظروف سرياليّة وفي مشاكل تبدو بسيطة، لكنّها تؤدّي إلى نتائج مفجعة ومخيفة. 

وأصبح اسم "كافكا" إشارة إلى صورة الحياة الرهيبة الطاحنة للإرادة والمحطّمة لقدرة الإنسان على الاختيار وامتلاك البصيرة للرؤية والوصول في نهاية المطاف إلى تشكيل الهويّة الإنسانيّة بشكل طبيعيّ.

 

وصار هذا الطابع في الأعمال الأدبية يُدعى بـ "الكافكاوية"،  فتطلق على الكتّاب الذين أخذوا المناخ العام لأعمال كافكا وثيماته صفة كاتب "كافكوي". 

ومن المشاهير الذين وقعوا تحت تأثير كافكا ألبير كامو في "الطاعون" و"الغريب"، وجراهام جرين في "وزارة الخوف"، وسوزان سونتاج في قصّة "صندوق الموت"، وسواهم كثير.

 

ومن الأدباء العرب المتأثّرين بكافكا صنع الله إبراهيم في العديد من أعماله، وعزيز محمد في رواية "الحالة الحرجة للمدعو ك"، وجبرا إبراهيم جبرا في رواية "الغرف الأخرى"، وتتبّع الدكتور خليل الشيخ معالم هذا التأثّر عند جبرا في كتابه "دوائر المقارنة"، وقدّم لبحثه بتتبع ظهور كافكا في الأدب العربي الحديث عموما وعند جبرا خصوصا.   

وللتمثيل على ما يُعرف بـ "الكافكاويّة" أو الموقف "الكافكاوي"، يمكن تناول ثيمة الوصول إلى نتائج كارثيّة بسبب حادثة بسيطة قد تمرّ في العادة دون أيّ اعتبار، لكنّها قد تؤدّي إلى تحطيم بعض الأشخاص وتغيير مجرى حياتهم، كما يظهر على سبيل المثال في قصّة "المفتش" لوليم سانسوم المتأثّرة إلى حدّ كبير برواية "المحاكمة" لكافكا.

 

يظهر في قصّة المفتش راكب يمنعه مفتش التذاكر من مغادرة الحافلة ويتمّ إيقافه لفترة طويلة لأنه لا يملك تذكرة.

 

اقرأ أيضا: بنات آوى والعرب.. كيف رأى كافكا العلاقة بين اليهود والعرب؟

 

هذه الحادثة البسيطة والتافهة توصل الشخصيّة في القصّة إلى مواجهات كبيرة وأجواء غامضة، فتتغيّر مسيرة حياتها بأكملها. 

وعلى الرغم من حالة السوداويّة المفرطة والغموض الكبير في أعمال كافكا، إلا أنّ مكانته الأدبيّة، مع أنّ معظم أعماله نُشِرت بعد وفاته على يد صديقه ماكس برود، لا تقارن إلا بالأدباء الأكثر تأثيرا في العالم، فقلّة من الكتاب يقاربه في المكانة والتأثير بسبب قدرته على التعبير عن روح العصر الحديث وصورة الإنسان فيه.

 

يقول أودن (W. H. Auden) وهو أحد نقاد كافكا "لو طُلِلبَ من أحدِنا أن يذكر اسم الكاتب الذي ارتبط بعصرنا بنفس العلاقة التي ربطت دانتي وشكسبير وجوته بعصرهم فإنّ كافكا هو أوّل من نفكّر فيه". 

وفي سياق الحديث عن الشهرة الواسعة لكافكا، لا بدّ من التأكيد على أنّ هذه الشهرة تبقى مقيّدة أكثر بأصحاب الثقافة الرفيعة من جمهور القرّاء، ذلك أنّه من الكتاب الذين يهتمون بدائرة معيّنة من الخبرة الإنسانيّة، تبحث عن حقيقة الإرادة الإنسانيّة والبؤس الذي يخنق الوجود بفعل انتفاء الحريّة الفرديّة في ظلّ هيمنة النظام المؤسسيّ والقانونيّ القاتل.  

وكان للصعوبات الفعليّة التي عاشها كافكا في حياته أثر كبير على خلق أجواء أعماله، فمستوى التعاسة التي عاشها تجعل فهم أفكاره أمرا عسيرا، والأكثر غرابة من الأمور التي تجعل أعمال كافكا ذات صعوبة خاصّة أنّه يكتب عن ضائقة الوجود والصعوبات والعذاب باعتبارها أمرا عاديّا، ودون اتّخاذ أيّ موقف سلبيّ منها، فكأنّه يَعدّ ذلك أمرا طبيعيّا، بل ومرغوبا فيه، وهذا ما جعل بعض الدارسين يصفونه بـ "المازوشيّة"، أي التلذذ بتلقي العذاب والإذلال.

وتظهر اللغة المحايدة والخالية من أيّ انفعال في وصف أحداث مرعبة في مواضع كثيرة من أعمال كافكا، فمثلا في رواية "الانمساخ" يصف كافكا تحول غريغور المفاجئ إلى حشرة وكأنه أمر عاديّ لا يستدعي انفعالا، ولا يضعه في دائرة المساءلة عن حقيقة مرجعيّته أو مصداقيّته؛ "حين أفاق غريغور ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه قد تحول من فراشه إلى حشرة كبيرة".

 

ويأتي الفعل ربما الأكثر رعبا وإثارة للفزع في أعمال كافكا في قصّة "في مستعمرة العقاب" التي كُتِبت بعد بداية الحرب العالمية الأولى، فتصف القصة آلة مخيفة صُممت لتعذيب البشر، وهي في ذات الوقت تصوير مجازيّ للقيم الروحية والتصوّرات الذهنية لأولئك الذين كابدوا أهوالا لا توصف في تلك الظروف.

 

تأتي هذه الأحداث في ضمن أجواء لا تبرز أيّ انفعال أو تعاطف؛ فكأنّ تلك الأهوال جزء طبيعيّ من الحياة الإنسانيّة.

وبالمقابل، يقول العديد من دارسي كافكا إنّ هذا هو أسلوبه لفضح حقيقة العالم، لا سيّما عالم العمل في العصر الحديث، حيث يُطحن الإنسان ويُقنن بشكل مرعب، ولا يُسمح له إلا بأوقات استراحة مقيّدة، وبتعاقب العمال بشكل يجعلهم لا يختلفون عن الآلات التي يشغّلونها.

 

وتُعدّ روايته الأولى "المفقود" علامة في الأدب العالميّ الذي يبرز الطبيعة الطاحنة للمجتمع الصناعيّ، ويفضح العواقب الاجتماعيّة والنفسيّة لهذا النمط من الحياة. 

ومما له دورٌ مهمّ في تشكيل أسلوب كافكا المجرّد من العاطفة والتفاعل مع الشرّ والأحداث العصيبة على أنّها عاديّة في الحياة أنّه كان قد نشأ في براغ، في وقتٍ تتصاعد فيه النزعات القوميّة، فكانت التيارات الانفصالية مثل القوميين التشيك الذين يحاولون الانفصال عن فينا قادرة على إثارة الكثير من الرعب والقلق في نفوس الناس، ولم يكن كافكا من الطبقة المتوسطة التي يتمتع أفرادها الناطقون بالألمانيّة بالقوة والهيمنة.

 

وفي محاولة من والده لإعداده بشكل يؤهّله ليكون مقبولا في الحياة الاجتماعيّة، أرسله إلى مدرسة تعلّم اللغة الألمانيّة – بعد أن سُمِح لليهود مؤخّرا بالإقامة في المدينة، ثم وضعه في الجامعة الألمانيّة في براغ.

 

وهذا جعل كافكا يشعر بغربة كبيرة، فهو تشيكيّ الأصل يتحدّث باللغة الألمانيّة في مدينة يعدّ الناطقون بتلك اللغة أقليّة أجنبية، فبقي معزولا عن التشيكيين على أنّه ألمانيّ، ومختلفا عن الألمان على أنّه يهوديّ، ومختلفا عن اليهود المتشددين بعقتليّته المستقلّة عن تراثهم الدينيّ وتوجهاتهم السياسيّة، بالإضافة إلى أنّه أصيب بمرض السلّ وعانى منه بشدّة في ظروف عمله في شركة تأمين، ومات في سنّ مبكّرة من حياته وهو في الأربعين من عمره عام 1924. 

وأحد أهمّ المؤثّرات في تكوين كافكا الغامض والمعقّد كان علاقته المضطربة مع والده، وقد ذكر ذلك الخلاف المستحكم معه بأشكال مختلفة في أعماله، كما هو الحال في قصّة "الحكم" التي يبرز فيها الخضوع المطلق لسلطة الأب على الرغم من كلّ المحاولات للتحرر منها، إلا أنّها تبقى تحفر في دوافع الفعل الإنسانيّ، ليجد المرء نفسه في العمق مجرّدا من حريّته وفرديّته أمام سلطة الأب التي لا خلاص منها في التكوين البشريّ.

 

لذلك، يجد بطل القصّة واسمه "جيورج" نفسه منصاعا لتنفيذ حكم الأب عليه بالموت غرقا، فيركض إلى طريق تعلو نهرا ويلقي نفسه فيه.

 

إنّ الصراع بين "جيورج" وأبيه هو صراع حول امتلاك إرادة الفعل والقوّة؛ فحين يلاطف "جيورج" أباه العاجز، يفهم الأب أنّ ابنه يريد أن يُظهر قدرته على معاملته كأنّه طفلٌ صغير أو كما كان هو نفسه يعامل "جيورج" في طفولته، فتكون هذه الملاطفة معكوسة الدلالة تماما.

وتظهر العديد من الأمور التي تدلّ على نقيضها في القصّة، ففي الوقت الذي يقول الأب لجيورج: "إنك لا تملك صديقا في بطرسبورغ"، نكتشف لاحقا أنّ هذه العبارة لا تنفي وجود الصديق بالمطلق، وإنما تنفي فقط نسبة هذا الصديق إلى "جيورج"، فيذكر الأب لاحقا أنّه كتب مرارا الرسائل لذلك الصديق، فيكون الصراع على نسبة الصداقة إلى أحدهما وليس على وجودها، في إشارة مهمّة إلى صراع المركزيّة بينهما. 

الصراع في هذه القصّة يمثّل تصوّر كافكا لعلاقته بأبيه ومدى الحدّة التي كان ينظر فيها إلى تلك العلاقة، وظلّ هذا التصوّر للسطلة الأبويّة مهيمنا عليه في أشكال عديدة من أفكاره، فيقول: "إنّ الأسرة المحدودة بالسلطة الأبويّة لا تتسع إلا لكائنات محددة، كائنات منصاعة لمطالب محددة؛ فإن لم تستجب هذه الكائنات لهذه المطالب كان مصيرها اللعنة أو الالتهام، أو الشيئين كليهما. وليت جسمها هو وحده الذي يُلتهم، مثلما فعل كرونوس، النموذج الأوّل للآباء في الميتولوجيا الإغريقيّة، حين التهم أبناءه". 

2
التعليقات (2)
sandokan
السبت، 12-09-2020 05:13 م
أحمد جمعة : أي نحس ثقافي؟! .. رغم تنشيط الكتابة والتأليف بالساحة الخليجية، خاصة والعربية عامة، إلا أن القراءة والنقد بحالة كسل وخمول، وكأني بجسم إنسان مريض ومن الخارج صحي، لا تعكس حركة التأليف والنشر، حالة الكتابة والنقد المتراخية، بل وفي بعض التخوم ميتة سريريًا، رواية بحجم خيالي كرواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ الحاصدة منذ عقود جائزة نوبل ومترجمة لكلِّ لغات العالم النشطة، بدنيا أخرى وبركنٍ مختلف من العالم رائجة ومتداولة بين أيدي القراء بالملايين... هنا وهناك من أرض العرب اليابسة، القحط، قد لا يتجاوز قراءها بضعةِ ألاف وسيكون نجيب محفوظ محظوظًا بقبرهِ إن بلغه ذلك، ففي حياته لم يحظى بهذا الطالع، كأن النحس يطارد الرواية العربية حتى لو حظيت بنوبل فالأصل في هذه الأمكنة المحاطة بالكسل الثقافي أن يكون نصيب القراءة محصورٌ في خانة المئات والمحظوظ بنوبل سيتخطى للآلاف... قراء نجيب محفوظ في دولة أوروبية واحدة يتخطى قراء العالم العربي بأسره، وهذا النحس الذي طارد كاتب بحجم محفوظ ماذا تنتظر منه إلا أن يلاحق كل من فكر وتجرأ وانجرف يكتب رواية، وإذا كان هذا النحس ورائه القراء الذين اختاروا مرغمين بنضوب التمييز، كتب الشعوذة والسحر وعذاب القبر والأبراج وطبخ المعجنات، فما مبرر وحجة النقاد الذين بدا وكأنهم اختطفوا من قبل غزاة فضائيين ليحجبوا الرواية عن أقلامهم؟! ابحث عن السبب وسترى أن ليس الثقافة والأدب وحدهما المصابان بالنحس، فالعلوم والمعارف وتكنولوجيا المعلومات، والهندسة الوراثية، كلها تعاني من هذا النحس، الذي لا مبرر له سوى أن غزاة الكواكب الأخرى غاروا من عالمنا العربي واختطفوا منا القراء والنقاد والعلماء وتركوا لنا صحراء قاحلة!لا ينبتُ فيها سوى ناطحات السحاب التي تعلن عن حضارة عصرية تسابق إيقاع الزمن ولكنها تفتقد للقراء والنقاد والوعي! عندما تزعم أمة أنها برأس هرم الأمم المستنيرة، يستدعي ذلك أن تجد الكتاب والنقاد والقراء، أول علامات هذه الحضارة، خذ مثالاً الهند التي رغم فقر وعوز غالبية سكانها، لكنها الدولة الأولى في القراءة وبعدد المكتبات ودور النشر والنقاد وحركة الفكر وحيوية الجدل وليس الجفاف القسري في الثقافة كالذي نعانيه، رغم الأموال والإمكانيات والثراء والرخاء!!! لكن الواقع لا يقدم سوى مؤسسات رسمية يتولاها موظفون عموميون نصفهم مهمتهم الرقابة على المطبوعات! تقدم الثقافة يعتمد على مثلث، الكاتب، والقارئ والناقد، هنا على الخريطة العربية والخليجية خاصة وبالتحديد القوي! يوجد كتاب ولكن أصاب النحس القراء وانخسف النقاد، لذلك وحده الكتاب يسبح بالفضاء بحالة انعدام الوزن. *** إن عالم فيه علماء!!! الدين أكثر من المتدينين، ماذا تنتظر منه سوى فقدان البوصلة، عالم، تسألني عن حال الثقافة فيه؟ ههههه...الحالة تشبه كوكب فيه السكان حُقِنوا بشرائحٍ وراثية تعود لعصر ما قبل اكتشاف الحروف! ولكن بثوبٍ عصري ومظهرٍ حداثي!! فيه كتاب وفيه قراء وفيه نقاد ولكن أي كتاب وأي قارئ وأي ناقد، وأي حياة ثقافية تشبه المدن المستنيرة من حولنا في العالم التي يقرأ السكان فيها بالملايين وتُنشر الكتب بالملايين وتحقق الثقافة دخلاً ماليًا بالمليارات؟ لأنها أضحت صناعة وتجارة تتفوق فيها الدول على نفسها بحجم ما تحققه الثقافة من دخلٍ مالي، يعكس مستوى هذا القطاع الحضاري. لا تسألني بعد أرجوك فالجواب الذي على لساني لن يرضي البعض وقد يتسبب بتعقيد...!
sandokan
السبت، 12-09-2020 05:03 م
أحمد جمعة : أي نحس ثقافي؟! .. رغم تنشيط الكتابة والتأليف بالساحة الخليجية، خاصة والعربية عامة، إلا أن القراءة والنقد بحالة كسل وخمول، وكأني بجسم إنسان مريض ومن الخارج صحي، لا تعكس حركة التأليف والنشر، حالة الكتابة والنقد المتراخية، بل وفي بعض التخوم ميتة سريريًا، رواية بحجم خيالي كرواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ الحاصدة منذ عقود جائزة نوبل ومترجمة لكلِّ لغات العالم النشطة، بدنيا أخرى وبركنٍ مختلف من العالم رائجة ومتداولة بين أيدي القراء بالملايين... هنا وهناك من أرض العرب اليابسة، القحط، قد لا يتجاوز قراءها بضعةِ ألاف وسيكون نجيب محفوظ محظوظًا بقبرهِ إن بلغه ذلك، ففي حياته لم يحظى بهذا الطالع، كأن النحس يطارد الرواية العربية حتى لو حظيت بنوبل فالأصل في هذه الأمكنة المحاطة بالكسل الثقافي أن يكون نصيب القراءة محصورٌ في خانة المئات والمحظوظ بنوبل سيتخطى للآلاف... قراء نجيب محفوظ في دولة أوروبية واحدة يتخطى قراء العالم العربي بأسره، وهذا النحس الذي طارد كاتب بحجم محفوظ ماذا تنتظر منه إلا أن يلاحق كل من فكر وتجرأ وانجرف يكتب رواية، وإذا كان هذا النحس ورائه القراء الذين اختاروا مرغمين بنضوب التمييز، كتب الشعوذة والسحر وعذاب القبر والأبراج وطبخ المعجنات، فما مبرر وحجة النقاد الذين بدا وكأنهم اختطفوا من قبل غزاة فضائيين ليحجبوا الرواية عن أقلامهم؟! ابحث عن السبب وسترى أن ليس الثقافة والأدب وحدهما المصابان بالنحس، فالعلوم والمعارف وتكنولوجيا المعلومات، والهندسة الوراثية، كلها تعاني من هذا النحس، الذي لا مبرر له سوى أن غزاة الكواكب الأخرى غاروا من عالمنا العربي واختطفوا منا القراء والنقاد والعلماء وتركوا لنا صحراء قاحلة!لا ينبتُ فيها سوى ناطحات السحاب التي تعلن عن حضارة عصرية تسابق إيقاع الزمن ولكنها تفتقد للقراء والنقاد والوعي! عندما تزعم أمة أنها برأس هرم الأمم المستنيرة، يستدعي ذلك أن تجد الكتاب والنقاد والقراء، أول علامات هذه الحضارة، خذ مثالاً الهند التي رغم فقر وعوز غالبية سكانها، لكنها الدولة الأولى في القراءة وبعدد المكتبات ودور النشر والنقاد وحركة الفكر وحيوية الجدل وليس الجفاف القسري في الثقافة كالذي نعانيه، رغم الأموال والإمكانيات والثراء والرخاء!!! لكن الواقع لا يقدم سوى مؤسسات رسمية يتولاها موظفون عموميون نصفهم مهمتهم الرقابة على المطبوعات! تقدم الثقافة يعتمد على مثلث، الكاتب، والقارئ والناقد، هنا على الخريطة العربية والخليجية خاصة وبالتحديد القوي! يوجد كتاب ولكن أصاب النحس القراء وانخسف النقاد، لذلك وحده الكتاب يسبح بالفضاء بحالة انعدام الوزن. *** إن عالم فيه علماء!!! الدين أكثر من المتدينين، ماذا تنتظر منه سوى فقدان البوصلة، عالم، تسألني عن حال الثقافة فيه؟ ههههه...الحالة تشبه كوكب فيه السكان حُقِنوا بشرائحٍ وراثية تعود لعصر ما قبل اكتشاف الحروف! ولكن بثوبٍ عصري ومظهرٍ حداثي!! فيه كتاب وفيه قراء وفيه نقاد ولكن أي كتاب وأي قارئ وأي ناقد، وأي حياة ثقافية تشبه المدن المستنيرة من حولنا في العالم التي يقرأ السكان فيها بالملايين وتُنشر الكتب بالملايين وتحقق الثقافة دخلاً ماليًا بالمليارات؟ لأنها أضحت صناعة وتجارة تتفوق فيها الدول على نفسها بحجم ما تحققه الثقافة من دخلٍ مالي، يعكس مستوى هذا القطاع الحضاري. لا تسألني بعد أرجوك فالجواب الذي على لساني لن يرضي البعض وقد يتسبب بتعقيد...!