هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ننطلق في هذه القراءة من مقولةٍ عامة كثيرة التداول في الشارع العربي وهي تقوم على اعتبار الشعوب العربية شعوبا عاطفية وجدانية أساسا. يبدو هذا الحكم للوهلة الأولى حكما ذاتيا يفتقر للأدلة الموضوعية والبيانات العلمية والحجج الكمية التي يجب أن ترافق كل قراءة علمية لكنه من ناحية أخرى حكمٌ مداره مجال الإنسان وعلومه التي تستعصي على القراءة الكميّة الخاصة بالظواهر الفيزيائية والطبيعية.
تمثّل الثورات العربية التي لا تزال مساراتها تتفاعل مجالا خصبا للقراءة النفسية الباحثة عن تبيّن العناصر غير الكميّة المساهمة في تحديد مسارات التغيير واتجاهها، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء البعد النفسي الوجداني أو العاطفي من هذه الحركة سواء تعلّق ذلك بالفرد أو بالجماعة.
المزالق المنهجية
مقولة الشعوب العاطفية تصنيفٌ خارجي يحدد أصنافا من الشعوب باعتبارها أقرب إلى العاطفة في سلوكها وردود أفعالها وحتى في وعيها الباطن أو السطحي المحدّد لهذه السلوكات ولبنية الشخصية بشكل عام. وهو ضمنيا يصنّف شعوبا أخرى باعتبارها شعوبا عقلانية أقلّ عاطفية وهي بذلك تعتمد على المنطق وعلى الأحكام الموضوعية في سلوكاتها اليومية وفي بناء شخصيتها وتحديد ردود فعلها.
يستبطن هذا الحكم نوعا من العنصرية أو المركزية الإثنية التي تتضمّن الإقرار بعلوية شعب أو مجموعة بشرية على أخرى ويغدو بذلك حكما خطيرا على المستوى الإجرائي وعلى الاستتباعات الممكنة التي تترتب عنه. لكنّه رغم ذلك لا يُعفي من إمكان سؤال التصنيف باعتباره حقا تحليليا خاضعا لمبدأ الحجة والحجة المضادة.
أخطر المزالق المنهجية في التعاطي مع هذا الحكم التصنيفي الجمعي هي ما يستبطنه التصنيف عاطفي/ عقلاني من مضامين تنسحب على تصنيف الأمم والشعوب باعتبارها شعوبا متقدمة أو متحضرة وأخرى متخلفة أو نامية. وهو التصنيف الخطير الذي كان مبررا للحملات الاستعمارية الكبرى في التاريخ ولأعظم عمليات الإبادة التي عرفها تاريخ البشرية الحديث منذ إبادة الهنود الحمر وصولا إلى الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
كان الفكر الاستشراقي الغربي سباقا إلى وضع الأسس الفكرية والتصنيفية التي قسّمت الشعوب والأمم إلى شعوب متحضرة وأخرى متخلفة أو حتى همجية وهو الأساس الذي قامت عليه عملية "تحضير الشعوب" أو أنسَنَتِها. فكانت الحملات العسكرية والخطط الاستعمارية تسير تحت غطاء نشر الحضارة وقيم التمدّن والديمقراطية وهي الخطط التي بقيت فاعلة حتى غزو العراق من قبل الإمبراطورية الأمريكية بدعوى تحرير العراقيين من الاستبداد ونشر الديمقراطية في المنطقة العربية.
الشعوب العاطفية
رغم هذه المزالق التحليلية والمطبّات المنهجية فإننا نلتزم بالتصنيف العاطفي للشعوب العربية مدخلا لقراءة التحولات الاجتماعية التي عرفتها المنطقة مؤخرا في محاولة لفهم حجم الدور الوظيفي الذي لعبته الخصائص النفسية الفردية والجماعية في تحديد مسارات التغيرات الأخيرة.
لا يمكن أن نغفل بدءا أنّ شرارة الربيع العربي كانت شرارة عاطفية ولا يمكنها أن تكون إلا كذلك. في تونس كان إحراق محمد البوعزيزي لجسده في حركة احتجاجية نادرة تعبيرا عن حالة غضب ويأس بلغت أقصى مستوياتها وانتهت به إلى الانفجار. كما أنّ تجمع أهالي قريته في الريف التونسي الفقير كان تعبيرا نفسيا غاضبا عن تهميش الدولة وعن قمع قوات الأمن وكذلك كانت معظم المظاهرات التي نزلت إلى الشوارع والميادين في البلاد العربية مطالبة بإسقاط النظام.
بناء عليه فإن العنصر النفسي أو العاطفي كان السبب الأساسي وراء التغيرات والتفاعلات التي تعرفها المنطقة اليوم على مختلف الأصعدة. لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الطابع التفجيري الذي قام به الفاعل النفسي لا يمكنه أن ينسحب على كامل الحركة الاجتماعية والسياسية، بمعنى أنه ليس العنصر الوحيد المتسبب في الموجة الثورية بل هو أحد عناصرها الأساسية باعتباره العنصر المفجر للحركة والقادح الأساسي لها. إن الشعور الجمعي بالغضب واليأس هو الذي أخرج ملايين المحتجين إلى الشوارع وهو الذي صاغ الموجة الثورية الأولى في البلاد العربية.
إنّ الشعوب العربية تعيش اليوم منعرجا حاسما على مستوى وعيها بنفسها وبمحيطها وهو الوعي القادر على إحداث تغيير جذري في واقعها بشكل لا يجعل منها شعوبا عاطفية أو عقلانية بل شعوبا مدركة واعية مهما كانت طبيعة المدخل إلى هذا الوعي السليم: العاطفة أو العقل أو كلاهما.
من جهة أخرى لعب المكوّن النفسي ولا يزال يلعب دورا سلبيا يختلف كلّ الاختلاف عن الدور السابق حيث جعلت منه المنظومات الاستبدادية المتعاقبة سلاحا مركزيا فاعلا في منع كل محاولات التغيير وفي تأبيد الاستبداد. يظهر هذا الفعل في توظيف السلطة العربية للمنوال العاطفي من أجل تدجين الجماهير وتخديرها وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تعطيل عملية التغيير. تحرّك هذا المنوال الموظّف سياسيا عبر قنوات مختلفة منها الديني ومنها السلوكي ومنها الثقافي حيث استثمرت الأنظمة العربية في الوازع الديني بشكل رئيسي ونجحت في التحكم بشكل كبير في العاطفة الدينية للجماهير عبر التأكيد على المبادئ التي تخدم ثبات النظام.
كان مبدأ الطاعة مبدأ مركزيا في السيطرة النفسية على الجماهير من البوابة العقدية وهو المبدأ الذي يقابله مبدأ تحريم الخروج على الحاكم أو نقده أو حتى منازعته في سلطانه كما يقول علماء السلاطين اليوم. في منوالات سياسية أخرى كانت العاطفة معولا من معاول هدم قدرة الجماهير على قراءة الواقع وفهم التحديات الخطيرة التي كان يواجهها وهو الأمر الذي ساهمت فيه الأدوات الإعلامية بشكل كبير. فالنظام المصري الذي أسس له عبد الناصر بعد انقلاب 1952 على الملكية أو أنظمة المقاومة والممانعة هي أفضل مثال على هذا الاستثمار العاطفي في وعي الجماهير من أجل تخديرها.
كانت خطابات الشحن العاطفي والتجييش النفسي والتغني بالشعارات القومية والعروبة والمحاربة الرجعية والإمبريالية عنوان مرحلة كاملة من مراحل التدجين النفسي للمجتمعات.
صحيح أن الفاعل النفسي يعمل في اتجاهين سلبا وإيجابا ولكنه يمثل في نظرنا مرحلة أساسية من مراحل تطوّر وعي الشعوب وهي المرحلة التي تسبق تأسيس وعي أكثر عقلانية وإن كان لا ينفصل عن المكوّن العاطفي. لا يعني الوعي العقلاني بالضرورة القطعَ مع البعد النفسي أو العاطفي لأن الشعوب أفرادا وجماعات ليست آلات أو حواسيب تُبرمج بل هي قبل كل شيء كائنات حية تقوم على جدلية العاطفة والعقل.
بناء على ما تقدّم فإنّه يمكن القول إنّ الشعوب العربية تعيش اليوم منعرجا حاسما على مستوى وعيها بنفسها وبمحيطها وهو الوعي القادر على إحداث تغيير جذري في واقعها بشكل لا يجعل منها شعوبا عاطفية أو عقلانية بل شعوبا مدركة واعية مهما كانت طبيعة المدخل إلى هذا الوعي السليم: العاطفة أو العقل أو كليهما.