هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ناقش الأكاديمي والإعلامي التونسي الناصر المكني مؤخرا بنجاح في كلية الإعلام في الجامعة التونسية، رسالة دكتوراه مميزة اشتغل عليها مطولا حول النظام الإعلامي التونسي بين المرجعيات القانونية والممارسة، من خلال مقارنة بين التشريعات القديمة وتلك التي اعتمدت قبل حوالي 10 أعوام مواكبة لمطالب الثورة التونسية، وعلى رأسها حرية التعبير وإلغاء مؤسسات الرقابة.
على هامش هذا الحدث الذي يتزامن مع الذكرى العاشرة لاندلاع الانتفاضات الشبابية والاجتماعية في محافظة سيدي بوزيد وبقية المحافظات التونسية، التقى الإعلامي كمال بن يونس الباحث في القانون والإعلام الناصر المكني، وأجرى معه الحوار التالي الخاص بـ "عربي21"، حول رسالته وإضافاتها:
س ـ لماذا هذه الرسالة الجامعية الآن عن التشريعات والنظام الإعلامي التونسي؟ وما علاقتها بالاتهامات التي توجهها أطراف في السلطة والمعارضة إلى الإعلام والإعلاميين حول مسؤولية الإعلام في إجهاض الثورة؟
قريبا تكون قد مرت عشر سنوات على الثورة التونسية وعلى صدور تشريعات جديدة في الإعلام، أقرها مشرع "ثوري" في مرحلة متميزة من تاريخ تونس. لكن هذه التشريعات لا تزال تثير جدلا عميقا في الأوساط السياسية والمدنية والقانونية عامة، وفي أوساط الصحفيين والإعلاميين والاتّصاليين بصفة أخص. ولا تزال تمثل أيضا مجالا للبحث والتحليل والنقد في الأوساط الأكاديمية.
وتُعتبر هذه التشريعات في حدّ ذاتها جدّ مهمة؛ لأنّها ـ كما يبدو ـ جاءت تُلبي رغبة عميقة في تغيير قانون قديم، كان يكرس "رؤية تسلطية" ومنظومة وقائية للإعلام، سالبة للحريات الأساسية وفاقدة على أقل تقدير لقابلية الإصلاح. لذلك؛ يُعتبر هذا الملف من أولوية الملفات الجديرة بالمعالجة لما انطوى عليه من أزمة عميقة ومُعقدة ومُوغلة في الزّمن.
إن وضع تشريعات جديدة للإعلام يندرج مبدئيا ضمن مسار إصلاحي شامل، يهدف إلى تفكيك منظومة سياسية وصفت بالاستبداد والتسلط كان الإعلام أحد مُكوناتها الرئيسة، وإلى إعادة بناء منظومة إعلام حُرّ تنسجم وشروط الانتقال الديمقراطي.
تفكيك منظومة الاستبداد
س ـ هناك من يعتبر أن أزمة قطاع الإعلام في الدول العربية وبينها تونس قديمة جدا وأصبحت معقدة ويصعب الخروج منها.
ـ أزمة الإعلام في ذلك السياق، برزت بصفة ملموسة، في القانون القديم للصحافة في تونس، قانون 1975، الذي قلص مجال حرية التعبير وأعاق ممارسة المهنة الصحفية. لذلك؛ كانت الاتجاهات الناقدة للنظام السياسي والإعلامي في تونس تدعو منذ عقود إلى تعديله، كما دعت إلى تطوير بقية القوانين والتشريعات التي كانت تنظم قطاع الإعلام السمعي والبصري والرقمي.
الهدف طبعا التركيز على حرية الرأي والتعبير وحرية بعث المؤسسات الصحفية، والتخفيف من تجريم العمل الصحفي والصحفيين معا.
لكن على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، كان الجدل قائما حول أهمية إصلاح المنظومة التشريعية للإعلام التي كانت تمثّل أحد ركائز المشروعية السياسية، دون المطالبة بتفكيك المنظومة الاستبدادية وبناء مؤسسات تعددية وإعلام حرّ، ودون التفكير في تغيير منظومة الإعلام التي لا يمثل فيها التشريع إلّا الجزء اليسير.
سطحية.. وشعارات
س ـ من خلال قراءتك لتحركات النخب والسياسيين التونسيين والعرب، هل اقترنت الدعوة إلى الحريات برؤية ومشروع أم كانت "شعاراتية" و"سطحية"؟
ـ في الخطاب السياسي والإعلامي السائد، غابت مناقشة لُبّ المسألة المتمثلة في الاتفاق حول فلسفة تشريع إعلام يستجيب لمتطلبات المرحلة. لذلك؛ أخذت المطالب والانتقادات منحى سطحيا ومنشطرا، لا يرسم لنفسه الأنموذج الأمثل الضامن للإصلاح وتحقيق حرية الرأي والتعبير وحرية النشر وحرية تلقي المعلومة.
والنتيجة أن كانت الدعوة للإصلاح فوقية صورية تنظر بعين واحدة إلى نصّ تشريعي مُجزئٍ، وغاب عنها أنه يُخفي فلسفة ورؤية كاملة لمنظومة تشريعية في أسسها وشروط تشكلها ومبررات وجودها وغاياتها.
إذن، لا غرابة أن كانت دعوى إصلاح منظومة الإعلام في حد ذاتها متهافتة، غاب عنها البعد النظري والرؤية الاستشرافية عن كل التعديلات التي طرأت على المدونة القانونية القديمة للصحافة.
قوانين ما بعد ثورة 2011
س ـ السؤال الذي يطرح اليوم في ظل عودة الجدل حول ما يعرف بمنشوري 115 و116 اللذين صدرا بعد حل وزارة الإعلام مطلع 2011: هل نجحت النخب التونسية في إنقاذ الموقف بعد الثورة من خلال تقديم مشروع نظام إعلامي جديد، تحميه رؤية قانونية تتماشى وشعارات الثورات العربية؟
ـ بعد ثورة 2011، برزت بوادر تأسيس منظومة الإعلام في زمن تميّز باستشراء روح ثورية ونزعة جارفة للقطع مع منظومة الاستبداد.
من بين تلك البوادر صدور المرسومين الأول عدد 115 في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 المتعلق بـ"حرية الصحافة والطباعة والنشر"(1)، والثاني عدد 116 بنفس التاريخ المتعلق بـ"حرية الاتصال السمعي البصري، وإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري"، والقانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة.
أصبحت مدونة التشريع الجديد واقعا وأصبحت تمثل الإطار القانوني الذي ينظم العمل الإعلامي برمته في تونس.
تغيير في طبيعة الدولة
س ـ بعد 10 أعوام على الثورة التونسية والثورات العربية، هل تعتبر أن التغييرات القانونية لقطاع الإعلام وللمؤسسات السياسية كانت سطحية أم عميقة؟ ما هي الاستنتاجات التي توصلت إليها؟
ـ يتنزل بحثنا الجامعي في سياق الانتقال الديمقراطي الذي يمثل ـ في تقديرنا ـ أعمق تغيير سياسي شهدته تونس على مدى تاريخها المعاصر على الأقل.
هذا التغيير لم يبدل شكل نظام الحكم فقط، ولكن أدخل تغييرا على جوهر الدولة وطبيعتها التقليدية المتسلطة التي استلهمت إرث نابليون بونابرت في مركزية نظم الحكم والإدارة، ثم نماذج أنظمة الحكم الاشتراكية والفاشية الحديثة، واستبطنت روح الاستبداد الشرقي الضارب في أعماق الذهنية العربية والآسيوية.
وبحسب دراسات "علم الانتقال"، تمثل الثورة التونسية نموذجا غير مسبوق في تجارب التحولات الديمقراطية في العالم، وحازت اهتماما أكاديميا بالغا، ومثلت منوالا لانتقال ديمقراطي عبر التعبئة السلمية".
أساس فلسفي ورؤية
س ـ ما أبرز الأهداف التي حققتها من خلال هذا البحث الأكاديمي وتونس تستعد لإحياء الذكرى العاشرة لثورتها؟
ـ هدفي هو المساهمة في بناء أساس نظري لحرية التعبير والصحافة في تونس، وإلى تعميق النقاش حول شروط وضع منظومة إعلام حر دائمة يستحيل معها الرجوع إلى الاستبداد.
المؤمل، هو أن يصل الحوار إلى تحقيق إجماع حول ضمان مجال واسع لحرية الصحافة وحرية التعبير والإعلام.
المطلوب تجاوز التعميم والسعي نحو تطوير أساس فلسفي ورؤية فكرية تحررية توجه عمل المشرع في وضع القوانين الحامية للحقوق والحريات، وتسند اجتهاد القاضي في ضمان حرية التعبير ضد كل ارتداد بدائي إلى إسكات الأصوات الحرة، وتحفز الالتزام الأخلاقي للنخب والقوى الحية في المجتمع، من أجل الدفاع عن قيم الحرية ومواجهة سلوكيات الاستبداد.
في الوقت نفسه، فإني أسعى إلى مزيد تعميق التفكير في مركزية الإعلام الذي نريد له أن يكون وساطة داعمة للنظام الديمقراطي وحارسة له.
استنتاجات
س ـ ما أهم النتائج التي توصلت إليها؟
ـ توصلت إلى أن التشريعات الجديدة للإعلام في تونس استجابت إلى مسيرة طويلة من المطالبة بتأسيس منظومة إعلام حر قامت على توسيع الأبعاد الفردية لحرية الإعلام من جهة، وعلى التضييق في مجالات تدخل السلطة في تنظيم منظومة الإعلام من جهة أخرى. ثم وضع المشرع آليات تحد من هيمنة السلطة وتمنع الانقلاب على المنظومة التحررية.
وقد اعتمد المشرع التونسي معايير دولية معتمدة في أغلب الدول الديمقراطية الليبرالية في عملية تأسيس منظومة إعلام تحرري.
وتتعدد المعايير الدولية التي تعتمد لقياس درجة تحرر منظومة إعلام والاتصال، ولكن نكتفي بأهمها وهي: اعتماد النظام الردعي، وإلغاء تجريم الصحافة، وحرية النفاذ إلى المعلومة، وحماية المصادر الصحفية.
كونية حرية التعبير
س ـ هناك من يعتبر أن من بين نقاط القوة في تجربة الانتقال الديمقراطي وفي المنظومة الإعلامية التونسية، الانفتاح على المرجعيات الكونية والفكر الإنساني.
ـ فعلا يعتبر تكريس المشرع التونسي حرية التعبير حقا كونيا، فتحا تشريعيا جديدا في تونس التي كانت حرية الصحافة فيها تكاد تكون مجرمة لعقود، وقد منحها المؤسسون، أي البرلمان الانتقالي التأسيسي، بنص الدستور ثم المشرع في المرسومين عدد 115 و116 بعدا كونيا، وشدد على تأويل مضامينها وأبعادها، طبقا للمعاهدات الدولية والإقليمية التي صادقت عليها الدولة التونسية، وخاصة المادة 19 من العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية التي ارتقت بحرية التعبير إلى مصاف الحقوق الأساسية التي تخاطب الإنسانية قاطبة.
وقد نبهنا إلى أن انخراط المشرع التونسي في رؤية كونية لحرية التعبير، لا يمكن أن تتحقق فقط بالمصادقة على محاملها العابرة للأوطان (معاهدات ومواثيق دولية)، ولكن بحماية مضامينها التي تشهد تطورا سريعا بفعل تطور تكنولوجيات الاتصال الحديثة، وتشهد توسعا في أشمل معانيه نفاذا ونقلا ومعالجة وتعبيرا وتداولا ونقدا.
هيمنة السلطات على الإعلام مجددا
س ـ بعد 10 أعوام على الثورة، هل من الوارد أن تهيمن السلطات مجددا على قطاع الإعلام؟
ـ تعرضت إلى مجمل الآليات التي وضعها المشرع التونسي للحد من تدخل السلطة السياسية والقوى الضاغطة في مجال الإعلام، أذكر منها إقرار نظام التصريح لدى السلطات القضائية وليس الأمنية، وبعث منظومة تعديل ذاتي للاتصال السمعي البصري، والحرص على شفافية تسيير وتمويل المؤسسة الصحفية.
س ـ وماذا عن معضلة التمويل التي تعتبر نقطة الضعف الأكبر بالنسبة للمؤسسات الإعلامية المستقلة والمعارضة؟
ـ أوضحت في بحثي أن شفافية المؤسسة الإعلامية، تمثل أحد المعايير الدولية المعتمدة لضمان منظومة إعلام حر.
وبينت أن المشرع التونسي ركز على شفافية تمويل المؤسسة الإعلامية وشفافية تسييرها، كما فرض قيودا على المسائل المتعلقة بإحالة الصحف والمؤسسات الإعلامية لمنع كل مساهم غير مرغوب فيه قد يعمل على التأثير في السياسات التحريرية للمؤسسة الصحفية، أو يبحث عن تحقيق وضع مهيمن في سوق الإعلام والاتصال.
كما منع المشرع الأموال المتأتية من الهبات والمنافع من جهات داخلية، مخافة أن تؤثر على استقلالية المؤسسة واستقلالية سياسيتها التحريرية. كما منع الأموال والهبات من جهات أجنبية، إلا إذا كانت موجهة إلى التكوين المهني وتنظيم الندوات والملتقيات العلنية والبحثية.
سلطة تعديلية
س ـ وماذا عن صلاحيات "الهيئات التعديلية المستقلة" التي يتهمها بعض خصومها بافتكاك صلاحيات لم يتمتع بها بعض وزراء الإعلام؟
ـ يتفرد المشرع التونسي عن بقية نظرائه في المنطقة العربية، بوضع منظومة تعديل مستقل للمشهد السمعي البصري طبقا للمعايير الأوروبية والدولية بمقتضى "المرسوم عدد116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري، وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري".
هذا النص يمثل لبنة أولى في تحرير الاتصال والإعلام السمعي البصري العمومي والخاص من هيمنة السلطات العمومية.
مفهوم "التعديل المستقل"، بدأ يأخذ مكانه الشرعي ضمن المصطلحات القانونية، وبدأ يقتحم شيئا فشيئا المدونة القانونية التونسية مع بداية عمل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري. ويؤمل أن يطور المشرع نجاعة هذه السلطة التعديلية التي يصفها خبراء القانون بـ"الهيئات الإدارية المستقلة"، وأن يمنحها جميع السلطات الضرورية لضمان استمرار التفاعل بين القانون والواقع، ولتتمكن من تحيين القواعد القانونية ومن ابتكار معايير تحمي حرية التعبير من بعض السلوكيات المنحرفة.
إن انخراط الصحفي في بناء منظومة تعديل ذاتي بعد الثورة، سوف تجعله مسؤولا عن أعماله المنشورة للعموم، خارج إطار المسؤولية القانونية التي تتولاها الدوائر القضائية. وهي مسؤولية أمام محكمة الضمير أولا، ولكنها مسؤولية فعلية خاصة أمام الجمهور الذي يتشكل في رأي عام عبر جمعيات مشاهدين ومستمعين وقراء وجمعيات رصد الانتهاكات الأخلاقية لضوابط العمل الصحفي. ثم هي مسؤولة أمام مصادر أخبارها وأمام مؤسسات الدعاية والاتصال والإعلانات وأمام الهياكل المهنية.
شروط..
س ـ وهل تتوفر شروط تحقيق منظومة جديدة لإعلام وطني تحرري؟
ـ خلص بحثنا إلى أن نجاح مسار تحديث المنظومة القانونية للصحافة والإعلام، يرتبط بضرورة توفر شروط موضوعية يجعل تحققه في مؤسسات ممكنا. ولعل من أهم هذه الشروط: تحرير تفكير الصحفي الإنسان، وتحرير السوق الحرة للأفكار، وتحرير الفضاء العمومي.
لذلك؛ فإن نجاح إصلاح منظومة إعلام حر لا يتحقق، إلا في ظل نظام ديمقراطي تعددي يمثل المجال العمومي المستقل، أو فضاء السوق الحرة للأفكار أحد أهم مكوناته.