هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ينتظر أبو سبع قطش (54 عاما) موسم قطف الزيتون بفارغ الصبر في كل عام، فهو اعتاد منذ صغره على ملازمة والديه وأجداده في عملية القطف حتى كبر وبات يعلم أبناءه أهمية ذلك، رغم اختلاف الكثير من التفاصيل بين الماضي والحاضر.
وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام يتوجه المزارعون الفلسطينيون إلى أراضيهم لقطف ثمار الزيتون وعصرها للحصول على الزيت الذهبي المعروف عالميا بجودته، بسبب قدم الأشجار الرومية وطبيعة تربة فلسطين الجبلية والغنية بالمعادن.
ويحرص أبو سبع دائما على العمل في أرضه في قرية يبرود شرق مدينة رام الله على مدار العام، وهو ما يضمن له موسما جيدا من الزيتون كما يقول، ولكنه يشعر بحزن كبير لتقاليد وعادات باتت مفقودة في هذا الموسم.
ويقول لـ"عربي21" إن موسم الزيتون كان يعتبر عرسا شعبيا فلسطينيا يشارك فيه كل أفراد العائلة بصغارها وكبارها، حيث يذكر أنه كان يتوجه مع والديه إلى الأشجار وهو طفل صغير ما نمّى بداخله حب الموسم والتعلق بأرضه.
ويوضح بأن عادات الفلسطينيين قديما كانت ترتكز كلها على موسم قطف الزيتون الذي يعتبر من أشهر المواسم والأحداث التي تمر عليهم، فالزيت ثمنه باهظ ولا يستطيع شراءه الكثيرون، فالكل كان يملك أشجار زيتون ويعتني بها من أجل الحصول على هذا الزيت في المحصلة.
ودخل الزيتون في معظم الأغاني الشعبية المتوارثة لما له من أهمية في الحياة الفلسطينية، بل يعتبر الزيت بأنه ركيزة كل منزل والذي يعتمد وجوده على القطاف والمشاركة فيه، ما جعل الأهمية الكبيرة لقطف الزيتون تجتاح كل منزل ولا يختلف عليها أحد.
ولكن الاهتمام الكبير بموسم قطف الزيتون بات يضعف تدريجيا؛ حيث تحوّل عمل معظم الفلسطينيين من الزراعة إلى التجارة والصناعة وباتت الوظائف تقيدهم وتمنعهم من التوجه يوميا خلال موسم القطف، وأصبح القطف أمرا لا بد منه بدلا من أن يكون أمرا محببا، إلا أن ذلك ليس حجة مقنعة أمام من يتمسك بأشجاره ويحرص على قطافها وحصد إنتاجها، وفقا لقطش.
اقرأ أيضا: تقرير إسرائيلي: الجيش يواصل تغطية جرائم المستوطنين بالضفة
ونتجت قلة الاهتمام مع مرور السنوات عن أمور عدة؛ أبرزها تقيد المواطنين بالوظائف والأشغال الأخرى، ولكن ذلك يجب ألا يمنعهم من الاستمتاع بالموسم وما يصاحبه من تقاليد تجعله أجمل وفق قوله، كما أن تحسن الوضع المعيشي للفلسطينيين بسبب العمل في الصناعة والتجارة يجعلهم يتمكنون من شراء الزيت بدلا من المشاركة في القطف، وكذلك باتوا يرسلون عمالا مأجورين لقطف الثمار بدلا منهم.
ويقول قطش: "في أيامنا وأنا طفل صغير كنا نتوجه إلى أرضنا لقطف الزيتون ويقوم البعض بقضاء ليلته في أرضه حتى يستغل الوقت من شروق الشمس إلى غروبها دون تأخير فيقطف ثماره بسرعة، وكان الموسم كأنه عرس ننتظره بفارغ الصبر ولا نشعر بالتعب والإرهاق بل كأننا ذاهبون في نزهة".
تلك النزهة التي يتحدث عنها أبو سبع كانت حقيقية؛ فالفلسطينيون ورغم الإرهاق الذي يصاحب عملية القطف وعدم استقرار درجات الحرارة إلا أنهم كانوا يحرصون على أن يحولوه إلى موسم جميل وممتع، فاشتهرت بينهم الأهازيج التي يرددونها خلال القطاف والتي تشجعهم على مواصلة العمل، كما تحضّر النساء أطيب المأكولات على النار مثل قلاية البندورة والمقلوبة والقهوة والشاي، وهو ما يزيد من تحمّس المتواجدين للعمل.
وخلال مواسم الزيتون قديما كانت فكرة "العونة" تسهّل على المواطنين كثيرا، وهي توجه عدد من القاطفين إلى عائلة أخرى لمساعدتها في القطف كي ينتهي الجميع من الموسم في الوقت ذاته، وتطور الأمر ليصبح "فزعة" وهي مساعدة جماعية لعائلة تأخرت في القطاف ما ساعد آنذاك على تقوية الروابط الاجتماعية وإضفاء طابع مميز لهذا الموسم.
ومن الأهازيج التي كان يرددها الأهالي خلال عملية القطف:
يا زيتون الحواري.. صبح جدادك ساري
يا زيتون اقلب ليمون.. اقلب مسفن بالطابون
بجدّك بالجدادة.. وبدرسك في البدادة
ويشير قطش إلى أن أفراد العائلة كانوا يقسمون أنفسهم في عملية القطاف، فهناك من يقطف الزيتون لينزل كله على الأرض فتجلس النساء ليلتقطن حبات الزيتون من تحت الشجرة فوق التراب ويضعنه في الأكياس، كما أن الصغار يقومون بإزالة الأعشاب والأشواك من محيط الشجرة ويساعدون في فصل حبات الزيتون عن أوراقها، وهناك من يفضل تولي مهمة الطهي لمن يعملون.
ويلعب التطور التكنولوجي دورا كبيرا في تسهيل عملية القطاف، فأصبحت القطافة الإلكترونية هي البديل عن استخدام الأيدي ووفرت الجهد والوقت، ولكنها بالنسبة لكبار السن آلة غير محببة بسبب صوتها المرتفع وتسببها في ضياع أجواء الموسم الهادئة.
ومع غروب الشمس كل يوم يعود المواطنون محملين بأكياس ثمار الزيتون التي تُنسيهم تعبهم خلال النهار، وعلى الفور يتوجهون بها إلى معصرة الزيتون في كل قرية، وهناك يشاهدون سيل الزيت الذهبي الناتج عن عملية العصر والذي يقيسون من خلاله جودة أشجارهم.
ويضيف قطش: "حين نرى الزيت في المعصرة نشعر بأننا قد رزقنا بطفل جديد، هذا هو الشعور حقا بعد التعب، وكأن الله أهدانا ابناً بعد كل تعبنا، وننسى كل ما تعرضنا له خلال اليوم ونشعر بقوة وحماس للتوجه في اليوم التالي لمواصلة القطف".
وتعتمد فترة قطف الزيتون على عدد الأشجار والعاملين في القطف، فأحيانا يستمر الموسم لشهر كامل، وفي بعض السنوات تكون الأشجار مفتقرة للثمار لظروف تتعلق بالجو وطبيعة التربة، أما في الغالب فيعتبر الزيتون ركيزة أساسية في حياة الفلسطينيين.
ويختتم قطش قائلا: "الزيت عماد كل بيت، هذا ما تعلمناه من أجدادنا وهذا ما نسعى لتعليمه لأبنائنا، فشجرة الزيتون مباركة ورد ذكرها في القرآن؛ وهي ذات أهمية كبيرة لنا كفلسطينيين في وجه الاحتلال الذي يحاول اقتلاعنا من أرضنا، أرضنا عقيدة ربانية وهذه الشجرة هي رمز لثباتنا فيها فلا نتخلى عنها ولا نهجرها وهذا ما يجب على الجميع اتباعه".
الاستيطان
ولكن قاطفي الزيتون يتعرضون في الضفة المحتلة لاعتداءات كبيرة على يد الاحتلال والمستوطنين، حيث يتعرضون للمزارعين بشكل متعمد ويمارسون انتهاكات عديدة تبدأ بمنعهم من دخول أراضيهم وصولا إلى سرقة محصول الزيتون.
ويقول عدنان بركات رئيس مجلس قروي برقة شرق رام الله لـ"عربي21" إن أهاليها يتعرضون دائما لاعتداءات المستوطنين التي تزداد بشكل كبير خلال موسم قطف الزيتون، فيمنعونهم من الوصول إلى أراضيهم ويجبرونهم على مغادرتها.
اقرأ أيضا: هآرتس: لماذا يتصاعد عدوان المستوطنين بموسم الزيتون؟
ويوضح بأن موسم قطف الزيتون هذا العام لم يختلف عن الأعوام السابقة من حيث اعتداءات الاحتلال والمستوطنين، فقبل 12 عاما أقاموا بؤرة استيطانية على الأراضي الشمالية للقرية تسمى "جفعات أساف" والتي تحتوي على خمسة مساكن متنقلة، وكلما حاول الأهالي الوصول إلى أراضيهم في تلك المنطقة يتم الاعتداء عليهم.
ويشير إلى أن جنود الاحتلال المتواجدين في المنطقة يقومون بحماية المستوطنين ومساعدتهم على قمع المزارعين، حيث يلقون القنابل الغازية صوبهم ويمنعونهم من الاستمرار في البقاء داخل أراضيهم.
وبسبب الاعتداءات المتكررة قام نشطاء بالتوجه إلى قرية برقة ومساعدة أهاليها في قطف الزيتون، ضمن ما سمي بحملة "فزعة"، ولكن الجنود والمستوطنين تعرضوا لهم أيضا ومنعوهم من إكمال العمل، ما حدا بالأهالي لتحديد مواعيد معينة لقطف الزيتون، وفي تلك الأيام يتحول الموسم إلى مواجهات واشتباكات بين الأهالي الذين يصرون على الوصول إلى أراضيهم والمستوطنين الذين ينغصون عليهم ذلك.
ويبين بركات بأن حوالي 200 دونم من الأراضي تقع في المنطقة الشمالية للقرية والتي تتعرض لاعتداءات المستوطنين؛ والتي تتنوع ما بين سرقة المحصول وحرق الأشجار أو تكسيرها وطرد المزارعين وضربهم، لافتا إلى أن هذه الاعتداءات تتكرر على مدار العام ولكنها تكون أكثر تركيزا في موسم الزيتون.
وإلى جانب تواجد المستوطنين بشكل دائم يغلق الاحتلال مدخل القرية الرئيسي منذ 20 عاما؛ ما يضطر أهاليها إلى سلوك طرق أطول لدخولها، كما أن الشارع الاستيطاني المقام بمحاذاتها سلب من أراضيها عشرات الدونمات.
ويضيف قائلا: "مهما تكررت الاعتداءات فالأهالي مصرون على دخول أراضيهم ولن يتركوها، هذه أرضنا وهذا زيتوننا وسنحافظ عليه مهما حدث".