أفكَار

النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (9)

أبو يعرب المرزوقي: هذا هو معنى الاستخلاف الإنساني في الأرض  (فيسبوك)
أبو يعرب المرزوقي: هذا هو معنى الاستخلاف الإنساني في الأرض (فيسبوك)

يقدم الفيلسوف التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي، في هذه الأوراق التي تنشرها"عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور أبو يعرب على صفحته الرسمية، قراءة علمية لواقع النخب في العالم العربي، وعلاقتها بالتغيير المنشود. 


ومعلوم أن أولى خطوات العلاج أو الحكم على الشيء تبدأ أولا من التشخيص، وهذا ما انطلق منه الدكتور أبو يعرب؛ في محاولة لتفكيك مفهوم النخبة وعلاقته بالمجتمع في مختلف مكوناته المعرفية والدينية والاقتصادية والسياسية. 

وإذ تنشر "عربي21" هذه الورقة في حلقات كل يوم جمعة من الأسبوع، فإنها تسعى لتوسيع النقاش بين المنشغلين بقضايا الفكر العربي حول دور النخب في صناعة التغيير الجاد، وإنجاز مطالب الشعوب في التنمية على جميع المستويات.


غاية لا أداة

كيف تكون الجماعة أسرة كبرى هي كل الإنسانية، وكيف يكون التحرير من دين العجل هو الحدود التي ينبغي ألا تتجاوزها الحضارة، لئلا تتحول إلى تدجين الإنسان ليصبح أداة بدلا من أن يكون غاية؟ 

من هنا، حل الأخوة البشرية والمساواة بين البشر ومنع الدولة الحاضنة التي تكون وظيفتها قيمة على الوظائف التي هي تابعة للمجتمع المدني، وليس للمجتمع السياسي المسؤول عن القوامة لا غير. وكما أسلفت، فقد حلل ابن خلدون الظاهرة من وجهيها هذين؛ أي علل فساد معاني الإنسانية في التربية والحكم وبين معركة سد الحاجات بين الممسكين ببعدي العدل أو أداة التبادل وأداة التواصل، حتى وإن لم يربط بينهما، مع الإشارة إلى ما يمكن أن يوصلنا إلى الربط.

ولعله أضمره لكون الإحالة المضاعفة إلى حقيقة الإنسان وإلى ما يفسد معانيه، التي تصل إلى غاية هي ما يسميه الخرج ـ أي قمة التحيل والخبث الذي يستمله المسيطرون على سلطان ربا الأموال وربا الأقوال ـ تعني أنه أدرك العلاقة بين فساد معاني الإنسانية وحب التأله أو انقلاب عقد النقص إلى عقد تكبر مرضيّ، وصل إلى حد القول بفكرة شعب الله المختار واعتبار بقية البشر جوهيم.
 
سأعالج المسألة ببيان مراحل وصول الإنسان إلى دين العجل، اعتمادا على فلسفة العمران البشري والاجتماع الإنساني الخلدونيين في علاقة بنظرية الإنسان أو الأنثروبولوجيا القرآنية التي يعتمدها ابن خلدون. وهي قرآنية بالجوهر كما نحاول بيانه بعد تحديد المنطلق الذي هو ثورة في إعادة تحديد مفهوم الإنسان، وفي التصور الكوني الذي يتعالى على الفروق العرقية والطبقية، اعتمادا على مبدأين هما الأخوة البشرية (النساء 1) والمساواة بين البشر (الحجرات 13).

والمثير في الرؤية الخلدونية، يجعلها تبدو مناظرة للرؤية التي توقفت عندها فلسفة هيغل وماركس: الصراع على الرزق وعلى المنزلة في عالم الشهادة. لكنه يتجاوزها باعتبارها أمرا واقعا درسه في الباب الأول، وبيّن أن الإنسانية لم تتجاوز الحرب الأهلية الدائمة حتى في أدنى الجماعات، لو لم تفتح أفقا أوسع من عالم الشهادة يجعله هو بدوره خاضعا لسلطان أعلى. ومن ثم، فالحياة في عالم الشهادة صارت أمرا واقعا وراءه أمر واجب يحرر الإنسان منه، فيجعله قادرا على الاجتماع والعيش المشترك وتقاسم ما يسد الحاجة. ويصبح المشكل هو كيف يتوسع مفهوم الجماعة ليشمل الإنسانية كلها؛ حتى تنتهي الحرب الأهلية التي قد تنتج عن التنافس من أجل سد الحاجات.
 
فنكتشف الفرق بين رؤية ابن خلدون والرؤيتين الهيغلية والماركسية، اللتين تحولان دون علاج إشكالية الصراع على سد الحاجات والحرب الأهلية الكونية، التي تترتب عليها إذا حصرنا الوجود في عالم الشهادة بل هما تؤبدانها؛ إذ إن الصراع بين السيد والعبد الذي يبنيان عليه معركة الرزقين المادي (في العمران) والروحي (في الاجتماع)، لن يتوقف بل يتعمق إذا بقي عالم الشهادة هو أفق الوجود الإنساني الأسمى.

ولذلك؛ فالبداية هي الأنثروبولوجيا الخلدونية التي هي كما أسلفت قرآنية، ثم تعليل فساد معاني الإنسانية بالحكم والتربية اللذين يقسمان الإنسانية إلى سادة وعبيد، بتحول أداة التبادل إلى سلطان على المتبادلين (العملة رمز الاقتصاد والحكم من حيث هو سيطرة على الثروة والقوة المادية التي تسد حاجات المائدة والسرير بتحريف الاستعمار والاستخلاف)، وأداة التواصل إلى أداة سلطان على المتواصلين (الكلمة رمز الثقافة والتربية من حيث هي سيطرة على التراث والقوة الروحية، التي تسد حاجات فني المائدة والسرير بتحريف ما يتعالى عليهما).

ولا أنوي في هذا الفصل أكثر من التذكير بالإشكاليات وجمعها بصورة نسقية؛ لأني عالجتها سابقا واحدة واحدة؛ بمعنى أنها عولجت منفصلة في إطار عام اقتضى الكلام فيها كل واحدة منها من منظور ذلك الإطار. والآن سأكتفي بجمعها وبيان علاقتها بدين العجل وبعلاجه في آن.

وفيها الأساس وهو الأنثروبولوجيا الخلدونية، وقد درستها سابقا وبينت قطيعتها مع الأنثروبولوجيا الفلسفية وحتى الكلامية المتقدمة عليه، بالاستناد إلى رفضه القول بالمطابقتين والالتزام شبه الحرفي بالأنثروبولوجيا القرآنية، التي تحدد مفهوم الإنسان باعتباره مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها. ومن ثم فهي مبنية على علاقته بالطبعية والضرورة الشرطية التي تحكمها وتحكم كيانه العضوي، وعلى علاقته بالتاريخ والحرية الشرطية التي تحكمه وتحكم كيانه الروحي.

وعنها يترتب وصل الداء بالعلاقة بين الضرورة الشرطية والحرية الشرطية مع تقديم الثانية على الأولى؛ لأنها تكون مخلصة من الإخلاد إلى الأرض إذا صار الاستعمار في الأرض تابعا للاستخلاف فيها؛ أي محكوما بقيمه؛ لأن المرض الذي ينتج عن دين العجل هو العكس تماما؛ أي تقديم الاستعمار في الأرض إلى حد نفي الحاجة إلى قيم الاستخلاف، بجعل السياسة تربية وحكما طغيانا، من خلال تحويل أداة التبادل إلى سلطان على المتبادلين، وأداة التواصل إلى سلطان على المتواصلين، وذلك هو تحريف مهمة الاقتصاد والثقافة.

تعريف الإنسان

الأنثروبولوجيا الخلدونية وأصلها القرآني

نص تعريف مفهوم الإنسان: "وفيه (في فناء الأمم) والله أعلم، سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه، تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده، وهو موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة، وإنها لا تسافد إذا كانت في مَلَكَة الآدميين. فلا يزال هذا القبيل المملوك أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء". المقدمة الباب الثاني الفصل 24 بعنوان في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها  الفناء.

نص حب التأله: "ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكم؛ "ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"، فتجدع أنوف العصبيات وتفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم، وتقرع عصبيتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع، حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا.

فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته. وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة وقد لا يتم للثاني والثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها. إلا أنه أمر لا بد منه في الدول". المقدمة الباب الثالث الفصل 10 بعنوان في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد.

المرحلة الثانية

علل فقدان معاني الإنسانية ودور حب التأله أو فسد البأس

فما الذي يفقد الإنسان معاني الإنسانية فيزيل منه حب التأله الذي يكون بعمومه حائلا دون انقسام الجماعة إلى سادة وعبيد، ومن ثم ينتهي حب التأله إلى الوعي بالاستخلاف فيتخلى عن التأله، وتنشأ دولة الإسلام بتربيتها وحكمها كما مارسهما الرسول، وكما تحددها سيرته التي هي عين استراتيجية سياسته التي هي أفعال تناظر الحديث الذي هو بعد الأقوال في السياسة الشاملة للوجود الإنساني حفاظا على معاني الإنسانية:

النص المعلل لفقدان حب التأله: في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم (الفصل 6 من الباب الثاني)؛ "وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء والأمراء والمالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم. فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره ولا بد. فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة، لا يعاني منها حكم ولا مع وصد كان من تحت يدها مُدلِين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الإدلال جبلة لا يعرفون سواها.
 
أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة، فتكسر حينئذ من صورة بأسهم وتذهب المناعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه (........). وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب، فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر صورة بأسه بلا شك. وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا، إثرت في ذلك بعض الشيء، لمرباه على المخافة والانقياد، فلا يكون مدلا ببأسه.

ولهذا؛ نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأسا ممن تأخذه الأحكام. ونجد أيضا الذين يعانون  الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا، ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشائخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة، فيهم هذه الأحوال، وذهابها بالمنعة والبأس.

ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة، ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم، كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا، يأخذون أنفسهم بها بما وسمه فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخضدها أظفار التأديب والحكم".

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (1)

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (2)

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (3)

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (4)

 

إقرأ أيضا: النخب واشكالية مناعة الأمة العضوية والحصانة الروحية (5)

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (6)

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (7)

 

اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (8)

التعليقات (0)