قضايا وآراء

الشهيد كمال أبو وعر والشرشف الأبيض.. هل بمدفن الأحياء من ينتظر أيضا؟!

وليد الهودلي
1300x600
1300x600
لي قصة كشاهد حيّ على مدفن الأحياء، وأودّ أن أدلي بشهادتي في هذه العجالة، فالغارقون في بحر الألم والمدفونون في مدفن الأحياء، لا يمكن أن نرسم صورتهم أو ننقل للناس صوت آلامهم وآمالهم، بحروف الكلم مهما وصلت درجة بلاغته.

كانت بداية قصتي عندما ظفرت بصورة أشعة بعد سنتين من الانتظار، حمّلوني كبضاعة بشرية في بوسطة العذاب إلى مدفن الأحياء المسمّى ظلما وزورا مشفى الرملة. توقّعت أن أرى مشفيا ولو بالشكل ولكني صُدمت عندما وجدت سجنا بكلّ أركانه، غرفا ضيقة مكتظة مغلقة، أغلالا وإيقاعا بطيئا للحركة، وتفتيشات وممارسة عادة العدد سيئ الصيت والسمعة، وإجراءات أمنية مشدّدة وقاسية حسب متطلبات هوسهم الأمني القاتل.

والأدهى والأمرّ أن هذا الذي يقدّم حبّة الدواء هو ذاته الذي يأتي مدججا بأدوات القمع من غاز وعصي كهربائية، وهو الذي يُدعى "حوفيش" (سجّان محترف عادة ما يجمع بين دور الاستخبارات ومهمة الممرّض معا)، في حينها شكى لي سكان هذا المدفن من أن ما تكتبه الصحافة عنهم من معلومات وأخبار مجرّدة من أن يشعر من يقرؤها بأن صاحبها إنسان يمتلك مشاعر وطموحا وآمالا وله عائلة وأبناء وأم وزوجة، أو ينبض قلبه مع قلب ابنه أو ابنته المريض أو المريضة في السجون.

فكتبتُ كتابا أسميته مدفن الأحياء وقد شكّل صدمة في حينها.. أن يعلم الناس أن هناك بشرا بكل هذه القسوة يتعاملون مع مرضى بعيدا عن كل الإنسانيات وأخلاق المهنة، من خلال شواهد حية كانت في حينها هناك، تكلمت باسمها، بلحمها ودمها وبعض مشاعرها التي تمكّنت من اصطيادها بقلمي الصغير.

كان ذلك قبل 21 عاما سنة 1999، وكان الشاهد الاوّل هو المعتقل المؤبد الذي سار إلى شهادته من هناك، الشهيد محمد أبو هدوان. ومن غرائب الأمور أني فيما بعد وبعد أن أطلق سراحي عام 2002، وفي أوّل زيارة تمكنت فيها من الوصول الى المسجد الأقصى في أول رمضان بعد حبسة قوامها 12 سنة، كنت أغذّ السير وأشواقي تسابقني بعد هذا الحرمان الطويل من هذا المسجد العشيق، صدمتني صورة بوستر معلّق على الجدران في طريق باب الواد، أمعنت النظر في الصورة فإذا بها صورة الشاهد الأول من مدفن الأحياء محمد أبو هدوان.

ظننت أنهم قد أطلقوا سراحه ليعانق الموت خارج السجن بين بنيه من كثرة الأمراض المستوطنة في جسده المنهك، اقتربت من البوستر فإذا به الإعلان عن الشهادة لأسير قد عانق الشهادة داخل السجن. توقّفت وقطعت مشاعر أشواقي للمسجد الأقصى وعرّجت على بيتهم القريب من المسجد، سلّمت وجلست، وكانت المفاجأة الثانية أن وجدت كتاب مدفن الأحياء بين أيدي الناس وعلى الطاولات في بيت العزاء. عرفّت على نفسي ككاتب لهذا الكتاب وكأخ وصديق ورفيق السجن للشهيد رحمه الله.

انهالت الأسئلة عليّ لأدرك كم هو مهم أن يقف الناس على حجم الجريمة التي يمارسها السجان الصهيوني على أسرانا بكل أبعادها. ومن ثم قمنا بتحويل هذا الكتاب إلى فيلم سينمائي قصير (فاز في مسابقة جائزة الحرية عام 2016). وقد تُرجم إلى الإنجليزية ليعرض في دول كثيرة وليسهم في إيصال رسالة الأسرى المرضى وحقيقة معاناتهم، وأن له أن يزن ولو قليلا من وزن آلامهم الثقيلة.

وقد ثبت بأدلّة قاطعة أن هناك شركات أدوية إسرائيلية تجعل من أسرانا المرضى مختبر تجارب لأدويتها. وقد شرعنت ذلك محكمتهم التي تسمّى عليا، ضاربة بعرض الحائط كلّ القوانين الدولية التي لا تسمح بإجراء أية تجربة إلّا بمواقفة المجرّب عليه، وطالبت عضوة حزب العمل "داليا ايتسيك" في الكنيست بإجراء تحقيق بهذا الخصوص، وثبت أيضا أن تشخيص المرض في السجون يستغرق وقتا طويلا مما يسمح بتفشّيه واستعصائه على العلاج، وكذلك فإن الأوضاع المعيشية بيئة خصبة لانتشار الأوبئة والأمراض منها:

- الاكتظاظ والحرمان من التهوية المناسبة.

- الحرمان من الأكل الصحي من حيث النوع والكمّ، حيث يأتون بزبالة الخضروات واللحوم المجمّدة الفاسدة، وكثير منها ما يصل السجون والعفن ظاهر عليه.

- الحجز في أماكن تتعرض للبرد الشديد في الشتاء دون وجود وسائل تدفئة، كما في نفحة والنقب، والحرارة الشديدة في الصيف.

- ما يتعرض إليه الأسرى من قمع يستخدم فيه الغاز بكميات مبالغ فيها، عدا عن النوع القاتل منها مما ولّد أمراضا صدرية مزمنة.

- كذلك أجهزة التشويش المنتشرة في السجون والتي ضاعفت مرضى السرطان.

- وكذلك الإهمال المتعمّد بخصوص الإجراءات الأخيرة لوباء كورونا، مما أدى الى إصابة كمال أبو وعر رغم أنه مريض بالسرطان والمفترض أن تكون لديه الاحتياطات اللازمة، وعلى الرغم أيضا من أنه والأسرى الآخرين في مكان محصور ومحجور أصلا بحكم الوجود في السجن.

- وهناك أيضا من تسبّب قمعهم بأمراض وعاهات مزمنة نتيجة التوحش والإفراط في التنكيل وإفراغ الأحقاد في أسرى عزّل ومقيّدي الأيدي والأرجل، والذي تجلّى على صعيد المثال في قمع "قسم 3" في النقب عام 2019، حيث سالت الدماء غزيرة في ساحة السجن، وفُتحت الأخاديد في رؤوس المعتقلين، وأحدث السجانون تشوهات في الوجوه وكسروا الأسنان بطريقة غير مسبوقة.

- هذا كله مقدمات تضرب كل شكل من أشكال الوقاية أو المناعة للأمراض. أما إذا وقع الأسير في مرض فعندها تبدأ رحلة الآلام المرّة؛ من بطء شديد في التشخيص ثم تجربة عدة أدوية قبل الوصول إلى الدواء المناسب. وهنا نذكر مرارة من يحتاج مرضهم إلى عمليات جراحية وفتح غرفة عمليات كساحة تدريب، وهناك شهادة موثقة بعملية دودة زائدة من غير تخدير.

- وهنا لا بدّ وأن نذكر كيف تستخدم المخابرات الضغط على آلام الأسير الجريح وابتزازه بمبادلة العلاج، وإعطاء مسكنات الألم مقابل الاعتراف.

- كذلك من يقع ضحية التعذيب القاسي في أقبية التحقيق ثم لا يسعفه العلاج في السجن فيرتقي شهيدا، مثل خالد الشيخ وعبد الصمد حريزات والقائمة طويلة.

- وهناك من استشهدوا في الإضراب المفتوح عن الطعام بالقتل المتعمد بإدخال الطعام القسري وتركهم يموتون دون علاج، مثل راسم أبو حلاوة وعلي الجعفري.

الشهيد كمال أبو وعر تعرّض لكل هذا كمعتقل، ومن المنطقي جدا (بناء على هذه الخلفية الواقعية) هنا أن تُفتح أسئلة كثيرة حول مرضه بالسرطان أوّلا كيف كان، أسبابه الحقيقية، وعن طريقة تشخيصه ثم السبيل الذي تم اتباعه في علاجه. ثم تأتي الأسئلة حول وصول وباء كورونا إليه، وهو مريض يلفّه الخطر من كل جانب، فلماذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة لوقايته منه؟ إن فتح تحقيق من جهة محايدة سيكشف حجم الجريمة، وسنجد أن كثيرا من مرضى الحركة الأسيرة الشهداء دُفنوا ودفنت أسرارهم معهم:

هناك مشهد جنائزي في غاية الألم ومكرّر، يعهده الأسرى القدامى جيّدا عندما يخرج الأسير إلى العيادة ثم يُطلب منهم شرشفا أبيض، فيعلم الأسرى بذلك أن أسيرهم قد ارتقى شهيدا. شهدتُ ذلك عندما خرج يحيى الناطور إلى العيادة وقد كانوا يشيعون أن آلامه التي يشكو منها هي وهْمٌ وانعكاس لمرض نفسي، ولكنهم في المرّة الأخيرة عادوا ليطلبوا الشرشف الأبيض..

المسن رزق العرعير الذي تبقى من سنوات سجنه السبع والعشرين؛ ستة شهور، فأبوا إلا أن يعملوا له عملية قلب مفتوح بعد سنوات طويلة من المعاناة، عاد وقد نجحت العملية ثم خرج إلى العيادة في اليوم التالي ليطلبوا الشرشف الأبيض بعد دقائق.

هناك 225 أسيرا ارتقوا شهداء وهم في الأسر، وقد ألبسوهم هذا الشرشف، وهناك من ينتظر دوره لاستلام هذا الشرشف.. تلفّهم أسئلة كثيرة لا يستطيع الاحتلال الإجابة عنها سوى التوحّش والانتهاك الصارخ لمعاهدة جنيف الخاصة بالأسرى، والتي تضرب بها دولة الاحتلال عرض الحائط بصورة مستمرة ومتواصلة منذ قام هذا الاحتلال.

ما الحل؟ وكيف يواجه الفلسطينيون هذه المأساة المفتوحة وهذا التوحش الذي يبدو أنه لا حدود له ولا نهاية؟

لقد عُقدت لقاءات ثقافية بهدف تحريك الاهتمام بأسرانا المرضى، وتم عقد ورشات عمل ومؤتمرات، وكانت التوصيات هامة للغاية، منها متابعة هذه الجريمة في الإعلام الدولي الخارجي، وطرق بوابات المحاكم الجنائية الدولية والإنتاج الفني الذي يخترق الفضاء العالمي وعالم الشعور الإنساني. وللأسف لغاية اليوم لم تحدث المتابعة اللازمة إلا في حدود متواضعة لا تبلغ عُشر ما يروّج به أعداؤنا لباطلهم الذي يجعلون منه قضية مركزية عالمية تنال مساحات واسعة من الاهتمام العالمي.

لم تُتابَع لغاية الآن أية حالة وفاة واحدة حتى النهاية نتيجة هذا الإهمال الطبي المتعمد، مما دفع الشهيد ليقول: لا تقولوا أني من ضحايا الإهمال الطبي بل قولوا من ضحايا الإهمال الوطني. لقد علقنا الجرس وبقينا نراوح مكاننا دون أن نخطو خطوات جوهرية نحو عالمية هذا الإجرام؟ فقط نحتاج إلى خطاب عالمي يرتقي لمستوى هذه الجرائم مع جهود حقوقية على الساحة الدولية، وهذا أضعف الإيمان. ونحتاج أيضا إلى ما يجعل لإنساننا وزنا أكثر من وزنهم لإنسانهم في عنصريتهم السوداء.
التعليقات (1)
رائد عبيدو
السبت، 21-11-2020 03:23 م
قد لا يكون إهمالا بقدر ما هو تشتت بين قضايا مزمنة ويومية وعامة وخاصة، وصراع بين رغبة الأسير أو عائلته في نشر المعلومة وبين رغبتهم عن الظهور الإعلامي، ومفاضلة بين السعي لتحقيق الإنجاز والتمسك بالأمل المدفوع بالمحاولات القليلة الناجحة وبين القدرة على متابعة التواصل مع المحاكم والمنظمات الحقوقية والطبية لمحاولة الضغط على العدو رغم الأصوات المتشائمة المثبطة.