هل ماتت ثورة يناير، وماتت معها مبادئها؟ وهل انتهى جيل يناير، وانتهت معه روح
الثورة؟ وهل حققت الثورة مكاسب؟ وهل بقي منها شيء بعد مرور عشر سنوات على اندلاعها؟
يحاول نظام الثورة المضادة الحاكم في
مصر الآن أن يروج لفكرة موت الثورة، وعدم السماح بتكرارها مجددا حسبما أعلن السيسي مرارا، ويصدق أنصاره هذا الوهم، كما يستسلم نفر ممن انتموا يوما للثورة لهذا الهراء، فيعيشون حالة من اليأس والإحباط دفعت البعض منهم للتركيز على عملهم فقط، ودفعت البعض للكفر بالعمل السياسي، ودفعت البعض للارتماء في أحضان النظام، وتبوؤ مواقع نيابية أو تنفيذية مقابل المشاركة في تشويه الثورة النبيلة، وكل هؤلاء من خَبَث الثورة الذي نفته السنوات الماضية، ليبقى فقط الأوفياء المخلصون لها.
لم تكن ثورة يناير عملا ترفيا لشباب مراهقين، ولكنها كانت بحق ثورة على ظلم وفساد واستبداد عسكري حكم مصر لمدة ستين عاما، وقد عادت هذه المظالم لتتصاعد مجددا متجاوزة عهد مبارك والسادات.
لم تكن ثورة يناير عملا ترفيا لشباب مراهقين، ولكنها كانت بحق ثورة على ظلم وفساد واستبداد عسكري حكم مصر لمدة ستين عاما، وقد عادت هذه المظالم لتتصاعد مجددا متجاوزة عهد مبارك والسادات
ولم تكن الثورة وليدة يوم 25 أو 28 كانون الثاني/ يناير 2011 وإن كانا هما اليومين الحاسمين للثورة، بل إن التحضير لها سبق ذلك بسنوات عبر مسارات نضالية وميدانية وتضحيات كبيرة دفعتها الكثير من القوى الحية (شبابا وشيوخا ونساء) التي واجهت نظام مبارك؛ مظاهرات، ومواجهات في لجان الانتخابات، واستجوابات برلمانية، وحملات صحفية، وحراك طلابي وعمالي، وصولا إلى تأسيس حركة كفاية وبعدها الجمعية الوطنية للتغيير كمظلتين شملتا كل القوى الحية من إسلامية وليبرالية ويسارية ومستقلة في ذلك الوقت.
كانت بوصلة الثورة واضحة، ومطالبها بسيطة (عيش، حرية، عدالة إجتماعية، كرامة إنسانية)، وقد نجحت الثورة في توفير
الحرية بشكل لم يسبق له مثيل، كما حققت الكرامة للمصريين في الداخل والخارج، وقطعت شوطا في تحقيق العيش والعدالة الاجتماعية، لكن الثورة المضادة قطعت عليها الطريق بانقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لم يكن منطقيا أو متوقعا أن تحقق الثورة كل أهدافها ومبادئها خلال عام أو عامين، فالثورات الكبرى لم تحقق تلك النتيجة إلا بعد سنوات طويلة من انتصارها وتمكنها. ومع ذلك يمكننا بالمقاييس البسيطة أن نقول إن الثورة حققت أكثر من 50 في المئة من أهدافها ومبادئها خلال فترتها المحدودة (30 شهرا)، لكن النجاح لا يقاس فقط بما حققته الثورة فعلا، بل باستمرار التمسك بمبادئها حسب المستشار طارق البشري.
وهنا يمكن القول إن القسم الأكبر من أبناء يناير (على عكس الفئة المتخاذلة والمحبطة) لا يزالون يتمسكون بمبادئ الثورة، ويتحينون كل فرصة للعودة إلى الميادين لاستكمال تحقيق أهدافها. وقد وجدنا هتافات يناير تعود مجددا في موجتي أيلول/ سبتمبر 2019-2020 على ألسنة فتية صغار لم يشاركوا من قبل في الثورة، لحداثة سنهم في ذلك الوقت، وهو ما يعني أن روح الثورة لا تزال كامنة في النفوس، وكيف لا وكل مسببات ومقدمات ثورة يناير تتجمع مجددا وبصورة أكبر من ذي قبل؟ فالغضب الشعبي يتصاعد بقوة بسبب الغلاء، ونتيجة الرسوم والأتاوات التي يفرضها النظام على المواطنين لتمويل العجر في ميزانيته المرهقة بسبب مشاريعه الوهمية والفاشلة، وديونه الخارجية التي لامست 130 مليار دولار تطوق أعناق أجيال وراء أجيال.
القسم الأكبر من أبناء يناير (على عكس الفئة المتخاذلة والمحبطة) لا يزالون يتمسكون بمبادئ الثورة، ويتحينون كل فرصة للعودة إلى الميادين لاستكمال تحقيق أهدافها
لنعد بالذاكرة قليلا للأيام التالية لثورة يناير وحتى الانقلاب على الرئيس مرسي، ولنتذكر كيف تم إصدار دستور جديد ينتصر للحريات ولكل مبادئ الثورة، ودعك من تخرصات البعض ضد ذلك الدستور فقد جحدوا به واستيقنته أنفسهم ظلما وعلوا، ولنتذكر كيف كانت المظاهرات تتحرك بدون إذن مسبق، وفي أي وقت أو أي مكان تشاء، ولنتذكر حرية المؤتمرات والندوات والبحث العلمي، وانتخاب القيادات الجامعية. وهل ننسى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الشفافة التي جرت تحت إشراف قضائي كامل ورقابة دولية، مع توفير فرص متكافئة لكل المرشحين، وعقد أول مناظرة انتخابية رئاسية في مصر والوطن العربي؟!
ولنتذكر كيف عاشت الصحافة مناخا من الحرية لم تشهده في تاريخها. لقد كان حق النقد مفتوحا بلا سقف، وشمل ذلك الرئيس وأسرته وجماعته، ومع ذلك لم يصب صحفي بسوء. وتدخل الرئيس شخصيا لإنقاذ صحفي من الحبس بعد أن سبّه وسخّر جريدته من أولها لآخرها لتشويهه، وأصدر الرئيس له تعديلا تشريعيا لم يستفد منه غيره (الصحفي إسلام عفيفي رئيس تحرير جريدة الدستور)، كما تدخل الرئيس لإطلاق سراح صحفية مصرية قبضت عليها السلطات السودانية واصطحبها معه في طائرته الرئاسية (الصحفية شيماء عادل)، كما تم إطلاق حرية إصدار الصحف بمجرد الإخطار حتى قبل أن يصدر قانون بذلك.
ولنتذكر كيف استعاد المصريون كرامتهم في أقسام الشرطة والدواوين الرسمية، وامتد ذلك للمصريين في الخارج، الذين شعروا بكرامتهم، والذين مُنحوا حق التصويت لأول مرة في تاريخهم.
أما الهدفان اللذان تعثرت الثورة في تحقيقهما، وهما العيش (بمعنى توفير العيش الكريم للمواطنين) والعدالة الاجتماعية، فالمؤكد أن هذا الأمر يحتاج لوقت أطول، ومع ذلك فقد وضعت الثورة اللبنات الأساسية لتحقيقهما في دستورها الذي صدر في 2012، وهو الدستور الذي جرى تشويهه بتعديلات جديدة في 2014 و2018. كما نجح وزير التموين الأشهر بعد الثورة، باسم عودة، في ضبط منظومة الخبز وضمان وصوله بيسر لكل المواطنين بعد أزمات طاحنة شهدتها مصر.
الهدفان اللذان تعثرت الثورة في تحقيقهما، وهما العيش (بمعنى توفير العيش الكريم للمواطنين) والعدالة الاجتماعية، فالمؤكد أن هذا الأمر يحتاج لوقت أطول، ومع ذلك فقد وضعت الثورة اللبنات الأساسية لتحقيقهما
لقد أنتجت ثورة يناير رئيسا مدنيا لأول مرة في مصر بعد 60 عاما من الحكم العسكري، وأنتجت دستورا لا يزال يحمل الكثير من المكتسبات رغم كل محاولات تشويهه بتعديلات شائهة، وأنتجت برلمانا يضم كل التيارات، وكانت في طريقها لضبط العلاقة المدنية العسكرية، ولإعادة هيكلة المنظومة الشرطية والقضائية، وتطوير الأداء الاقتصادي، وفي المجمل السعي لتحقيق ما تبقى من أهداف قبل أن تتعرض للانقلاب من أعدائها، والغدر من بعض (وأكرر بعض) أبنائها الذين كانوا يتوهمون أنهم صناع الثورة وأنهم الأحق بجني ثمارها، وحين لم يتحقق لهم ذلك تعاونوا مع أعداء الثورة لهدمها، والآن هم يتباكون على اللبن المسكوب، بعد أن نالهم من التنكيل ما نال رفاقهم في الميدان دون أن يحرك لهم ذلك ساكن من قبل. والأنكى أن بعضهم لا يزال يردد مقولة نار العسكر ولا جنة الإخوان، كما أن بعضهم لا يزال يردد ضلالات الثورة المضادة التي ثبت بالدليل كذبها، ويقف حجر عثرة أمام أي جهد لتوحيد القوى الوطنية لإنقاذ مصر من هذا الحكم الاستبدادي.
ثورة يناير كأي ثورة كبرى قد تمرض ولكنها لن تموت، وقد خاضت الثورة العديد من الجولات بين مد وجزر. ومرور عشر سنوات عليها لا يعني نهايتها، فكل الثورات الكبرى احتاجت لسنوات حتى تستقر بشكل كامل وتتمكن من تحقيق كل أهدافها، وطالما ظل في مصر من يحلمون بالتغيير وهم كثير فإن مسعاهم سيكلل بالنصر في النهاية، فإرادة الشعب هي من إرادة الله.
twitter.com/kotbelaraby