"إذا بدك تحيْره، خيْره".. في عصرٍ غابر، عندما كنت مديرة للتسويق في شركة للمعارض، وفي حفل تكريم للشركات على أفضل تصميم دعائي خارجي، كانت فحوى هذه الرسالة الدعائية لماكدونالدز، مطعم الوجبات السريعة الأمريكي، أنه كلما كانت خيارات الإنسان أوسع، وحريته أكبر، كلما زاد قلقه. ومع هذا يسعى الإنسان دوما إلى توسيع قاعدة خياراته، تارة بزيادة إمكانياته، وتارة أخرى بانقشاع الغشاوة عن عينيه ليبصرها وهي منتصبة أمامه، وهذه إمكانية بحد ذاتها.
نصّت منظمة الصحة العالمية في تعريفها لرفاهية الفرد وصحته النفسية على أنها "تشمل القدرة على إدراك القدرات والإمكانيات". وإنه بدون إدراكنا لإمكانياتنا تكون خياراتنا شحيحة فقيرة، لهذا يظهر
القلق أيضا عند شعورنا بوجود إمكانيات معطلة، لأن التوق للحرية يتعثر بدونها. وعند إدراك الإمكانيات تبرز الخيارات ومعها
الحرية، التي من أهم استحقاقاتها: المسؤولية، لذا قد يكون مفهوما ذلك الخوف الذي تورثنا إياه الحرية، ذلك القلق النابع من وفرة الخيارات.
إن كان "القلق أعظم قاتل للحب" كما قالت الكاتبة أناييز نين، فقد أكد كيركيجارد الفيلسوف الدنماركي على أهمية العلاقة بين القلق والإبداع عندما شبه القلق بالدوار الناتج عن الحرية وتعدد الإمكانيات الذي يؤدي إلى شلل الاختيار، وكينونة الإنسان اللا محدودة. فالإنسان الذي يحدّق في الهاوية مستشرفا الفراغ الرهيب، لا بد وأن يصاب بالدوار. وسبب ذلك موجود في عينيه مبتدأ قبل أن يكون حقيقة في الذي يراه، ويكفي أن نفترض أنه لم ينظر إلى الهاوية بعد.
القلق هو الدوار الناتج عن الحرية، والذي يظهر عندما تنظر الحرية إلى الأسفل بسبب إمكانياتها بينما هي مستندة متمسكة بالحدود، قبل أن تستسلم، ثم تعلو الحرية مرة أخرى وتدرك أنها مذنبة. وبين هاتين اللحظتين تكمن تلك القفزة، التي لم ولن يستطيع العلم تفسيرها؛ لأن الإنسان المقترف للقلق يكون مذنبا في أكثر الصور إبهاما والتباسا. وهنا يمكن للقلق أن يعبر عن نفسه في موضع ما هناك، بين الخرس والصراخ!
يمكّن القلق الإنسان من أن ينحت هويته ويخلقها ويكوّن نفسه مرارا. ويعتري الإنسان القلق عند إدراكه أن إبداعه ممكن، وتفرده كذلك، سواء في أن ينحت هويته ويخلقها ويكوّن نفسه، أو في الإبداع في الأنشطة اليومية التي لا حصر لها، وهما مرحلتان في نفس العملية. وهو لن يكون قلقا إذا لم تكن لديه أية إمكانية إطلاقا، وهنا يكون الخلق وتحقيق الإنسان لإمكانياته سلبي وإيجابي في ذات الوقت. فهو منطو على تدمير الوضع الراهن وهدم ثوابت بنيوية صلبة داخل النفس، مع التقويض التدريجي لما تعلق به منذ الطفولة، ومن ثم خلق أساليب مبتكرة وأصيلة للعيش، وإلا فيكون الإنسان رافضا للنمو والتطور، ممتنعا عن الانتفاع بإمكانياته، ومتنصلا من مسؤوليته اتجاه نفسه. وبالتالي فإن إحجام الإنسان أو تنصله عن تحقيق إمكانيته يكون سببا لأن يجتاحه الشعور بالذنب إزاء ذاته.
ولأن القلق هو مؤهل الروح الحالمة، فحقيقة الروح تتجلى في هيئة تغري بإمكانية تحققها، غير أنها تتلاشى بمجرد محاولة الإمساك بها، في خواء مرعب لا يجلب سوى القلق. إن الخلق يوجب رفض الواقع وتحطيمه، في كسر للقوالب القديمة، ليعلن ولادة شيء جديد وأصيل في العلاقات الإنسانية والأشكال الثقافية، تماما كالإبداع عند الفنان. وبالتالي فإن أي تجربة إبداعية تحمل في باطنها احتمال العداء أو الإنكار، سواء تجاه الآخرين في البنية المشتركة أو في الأنماط المتأصلة في الذات. وهنا نستطيع القول إن "في كل تجربة إبداعية يُقتل شيء في الماضي لأجل أن يولد شيء في الحاضر".
ومن هنا كان الشعور بالذنب مصاحبا للقلق عند كيركجارد، فكلاهما جانبان من معايشة وتحقيق الإمكانيات، وكلما كان الإنسان أكثر إبداعا، كلما زاد احتمال شعوره بالذنب والقلق.
من هذا المنطلق نجد أن ثنائية القلق والشعور بالذنب دوامة متتالية، كل منهما يؤدي إلى الآخر. ففي حياة الإنسان قد تكون هناك إمكانيات معطلة تشعره بالقلق لأنه لم يستغلها في ذاته، مما يجعله يشعر بالذنب في أنه ظلم نفسه، وكلما شعر بالذنب زاد قلقه. وهذه الدوامة تكون أكثر حدة وتسبب دوارا أعتى عندما يكون الإنسان جاهلا بإمكاناته المعطلة، ولكنه شاعر بوجودها من خلال الشعور بالذنب حتى لو لم يكن واعيا لسببه.
وهو لن يستطيع الخروج من هذه المنظومة إلا بكسر حاد لتلك المرآة المشوِّهة، فيزول شعوره بالذنب لأنه فعل شيئا لذاته الأصيلة، مما يجعل قلقه يتلاشى مرحليا، قبل أن يدخل في دوامة جديدة من خيارات جديدة وحرية على مستوى أعلى من الوعي بالذات والإمكانيات، وبالتالي دوارا جديدا.
ويجدر بالذكر أن هذه العملية لا تتم في كل مرة على ذات البُعد، بل إن الإنسان ليرتقي مع كل كسر، إلى بُعد أعلى. وهذا لا ينفي وجود تلك اللحظات من القلق الوجودي التي تمثل الخوف المطلق من الضرورات التي لا تقهر، تلك التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها، لأنه محكوم بجسد فيزيائي، ولأن العقل قد يفقد توازنه وسيطرته، ليبدو الإنسان فيها وكأنه متورط في تفرده، لدرجة أن يتمنى لو أنه يستطيع العيش كما تستطيع باقي الكائنات أن تعيش لحظاتها بهدوء.
فإن كنت كثيرا ما تشعر بالقلق ودوار الحرية ممزوجا مع شعور منهك بالذنب المزمن، فهذا يعني أن لديك إمكانيات معطلة، عليك كسر قيودها لتكون نفسك الأصيلة، لأنك متغرب عن كينونتك في هذا العالم اليومي العادي، ولأنك عجزت أن تكون ذاتك. أنت تقلق لأنك لست متحققا، ولأن هناك تفاوتا بين ما أنت عليه وما تستطيع أن تكون.
خيارك الحر للخروج من دوار الحرية يتجلى في أن تعبّر عن نفسك في موضع ما هناك، بين الخرس (استسلاما للقلق والشعور بالذنب) أو الصراخ (في ثورة عظيمة تبدؤها على نفسك)!