كتاب عربي 21

المواطنة بين الشعب والشعبوية.. المواطنة من جديد (38)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
في جمعة الغضب، أحد أيام ثورة يناير المجيدة، كانت هناك جملة شهيرة لأحد عناصر الشرطة لقياداته في مكالمة يعطي وصفا بليغا لما يحدث في هذا اليوم.. يوم من أهم أيام ثورة يناير، بل يعتبره البعض أنه يوم الثورة الحقيقية الذي واجه فيه الشعب المؤسسة الأمنية بكل جبروتها وكسر اعتداءات الشرطة، فما كان من الشرطي هذا إلا أن يبلغ رسالة لها دلالة ورمزية غاية في الأهمية: "الشعب ركب يا باشا".

يبدو أن الضابط لم يكن ليعلم أن مصر كلها ستستمع إلى تسجيله هذا، وإلى هذه الجملة الدالة التي قالها وهو مرعوب، وأنها ستبقى خالدة في وعي الجماهير المصرية. وفي هذا السياق من الأهمية أن نؤكد على الدلالة الرمزية والسياسية لهذه الجملة في عالم الأحداث آنذاك. فرغم الاعتداءات على الشعب إلا أن الجموع التي فاضت وأحاطت بالميدان عبرت عن حالة من الاصرار والصمود، ما جعل هذا الضابط يعبر عن حال القوات الأمنية يومها بتلك الجملة، والتي تعني أن الشعب صار في موقف المتمكن والرافض لعنفوان سلطة أمنية باطشة.. أقر الضابط بسلطة شعب صار هو الأعلى وعبّر عن إرادته.. كانت هذه الجملة التي تعبر عن تمكين الشعب ضمن إطار يعبر عن لحظة السلطة التي أصبحت مركوبة لا راكبة.

عبّر الشعب في هذا السياق عن نفسه بكونه سلطة حقيقية في مواجهة سلطة باطشة، وعبّر عن إرادته. يترجم هذا الحال شطر بيت يحمل معنى قاله تميم البرغوثي "السلطان ليس إلا في خيالك"، وأن السلطة الباطشة تحولت إلى حالة هشة أمام طوفان شعب جارف تمكن من الموقف وعبّر عن الإرادة. لم يكن ذلك في حقيقة الأمر إلا ركوبا وتعبيرا حقيقيا من الشعب عن سلطانه وسيادته.. عن إرادته التي غالبا ما انتزعت واغتصبت من جانب سلطان مستبد؛ حينما يتحدث عن إرادة الشعب وإرادة الجماهير يلوك تلك العبارة في خطاباته باعتبار أن قوله وسياساته هي تعبير عنها، ضمن حالة اختطاف لتلك الإرادة واغتصاب لها والحديث باسمها، وهو في واقع الأمر يحاول من كل طريق خنقها أو إزهاقها أو تزييفها بضمها إلى جملة سلطانه وتأميمها لمصلحة استبداده، فيعبر في خطاباته عن إرادة الشعب وهو يزهقها، وعن رضا الجماهير وهو يغتصبها إذعانا آنا وتشكيلا للرضا الكاذب آونة أخرى، إنها مقولة الشعب التي ظلت محل تنازع خطير، واستمرأ البعض واصفا الشعب بأوصاف سلبية واتهامه بالخنوع، وأنه شعب لا يستحق الثورة ولا التغيير، من غير وعي من هؤلاء بأن هذا الشعب هو مادة الثورة وظهيرها الحقيقي، حاضنا لها ومعبرا عن إرادتها وآمالها.

بين المستبد الذي يجعل من نفسه بديلا لإرادة الشعب، وبين الشعب الذي يجعل من إرداته أصلا، لا يمكن أن يتنازل عنها أو يجعلها نهبا لكل مستبد طاغية أو أن تزيف إرادة هذا الشعب وتزور حقيقته؛ مثّل الشعب طاقة إرادة حقيقية، وعبّر فعل الثورات عن حالة معينة أعادت فيها تعريف السياسي، وجعلت من السياسة علما لإرادة الشعوب والتعبير عنها، وقدمت درسا للمستبد الذي تمثل في مبارك المخلوع وسلطاته الأمنية الفارة من الميدان حينما ركب الشعب ورفض أن يكون مركوبا، وحينما نزلت السلطة عن ظهره وبدت مذعورة مطرودة.

هذا الفهم لحقيقة الشعب عبّر عن إعادة تعريف الشعب، لا وفقا للمقاربات التقليدية في مختلف المدارس السياسية، بالإشارة إلى أن هذا المفهوم ينقسم إلى شقين سياسي واجتماعي.. السياسي يتحدد بوجوب توافر شروط تنظيمية كالتمتع بالحقوق السياسية بكل تفريعاتها، والاجتماعي يأخذ بعدا أوسع، إذ يشمل كل الأفراد الذين يعيشون في إقليم واحد تحت سيادة نظام معين.

مثّل الشعب ضمن هذا الموقف في هذا اليوم وجودا حقيقيا لا تخطئه عين، ليعبر عن إرادة سياسية ومجتمعية؛ وانجلت كل الأمور التي تتعلق بغموض مقولة الشعب والتباسها، إلى واقع تتجسد فيه إرادة شعب ومطالب ثورة وكيان أمة حملت الشعار واستندت إلى إرادة لتطالب بأعلى صوت بإسقاط النظام وتحديد مطالبها التأسيسية: "عيش كريم وحرية أساسية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية".

المواطن وفق هذه الرؤية للشعب صار سيدا يعبر مع غيره من المواطنين عن إرداة شعب ومطالب أمة، وعبر عن نفسه من دون وساطة، رافضا ابتلاعه انطلاقا من احتكار لفظة الشعب والتلفظ بها من غيره. والشعب لم يعد في حسبانه أن يمرر احتكار تمثيله من قبل أنظمة استبدادية التفت عليه بطرق متعددة، وانتهكت واغتصبت إرادته في كثير من سياساتها الطاغية الباطشة.

صار الوعي عن المواطن في هذه اللحظة وعيا بالمواطنة وجوهرها، نقطة البدء الأساسية فيها تشكيل نظرة الفرد إلى نفسه وكذا باعتباره عضوا في جماعته الوطنية ويمثل حقيقة هذا الوطن. أفلح الجميع والجمع الحاشد في استخلاص حقوق الوطن والمواطن، فعبرت المواطنة بذلك عن حقيقتها التامة في ذلك الجمع الوطني للتعبير عن شخصية الجماعة وإرادتها المستقلة، كل ذلك مثل الدلالات الحقيقية لمقولة أن "الشعب ركب يا باشا"، تلك المقولة التي عبرت عن حقيقة هذا الشعب وأين يجب أن يكون موضعه ومقامه؛ فيمثل حالة من الإرادة والسيادة معا تعبر عن معاني "السلطة الأعلى"، محققا للوطن مكانته وللمواطن كرامته.

وهنا قد لا ننسى جملة الخطابات الأخرى التي لم تتوقف عند اغتصاب مفهوم الشعب وإرادته، ولكن اقترن بذلك خطاب احترفته المنظومة الانقلابية؛ والتي صدرت منها مفردات تتعلق بشيطنة أحد التكوينات التي تمثل حركة اجتماعية وشعبية، وتحاول من كل طريق صناعة الكراهية في هذا المقام، وتصنيف تلك التكوينات داخل الجماعة الوطنية على نحو سلبي انقساميّ (أنتم شعب وإحنا شعب).

وهي حالة من خطاب يخرج إلى إطار يحدث التفكيك، مبررا النيل من لحمة الجماعة الوطنية في صور مختلفة من خطاب يستخف بكل القيم التي تتعلق بالكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية وحقوق المواطنة، هذا الخطاب المسكون بالعنصرية مثّل حالة خطاب شعبوي لم يتوان بأي حال من الأحوال عن تسويغ مذابح ومجازر ومطاردات واعتقالات، واستطاع ذلك النظام المستبد أن ينال من الجميع؛ من مؤيديه قبل الذين صاروا خصوما، وكذلك الذين وضعهم كخصوم ضمن عملية الشيطنة الكبرى وصناعة الكراهية، وأسند كل ذلك بحالة وحملات إعلامية شرسة صارت تستهلك هذا الخطاب ضمن حالة شعبوية مفعمة بالكراهية، وشكلت تلك النظرة الشعبوية تهديدا خطيرا لحقوق الإنسان والمواطنة، ونالت من تماسك المجتمع بحيث صدرت سلوكا ومواقف تستغل بيئة الاستقطاب العفنة، والتي أحدثت قدرا من التنازع والفرقة بما يمس عصب الجماعة الوطنية ويصيبها في مقتل.

إن أول معايير النظام الشعبوي هو تبني رؤية ثنائية للعالم حيث الـ"نحن" والـ"هم"؛ ولا بأس أن يستند في ذلك إلى رؤية عنصرية صانعة للكراهية ومسكونة بالعداوة. وثاني معايير النظام الشعبوي هو توصيفه لطبيعة النزاع بينه وبين من يعتبرهم الخصوم أو الآخرين بأنهم أهل الشر الذين يجب على الجميع أن يُستنفر لمواجهتهم.

هذه المفردات الشعبوية نالت في حقيقة الأمر من مفهوم المواطنة وأخذت في تقويضه في أساسه؛ حينما يستخدم من قبل نظام طاغية مستبد لا يعرف إلا لغة الفرقة والكراهية، ولا ينظر إلا لتمكين نفسه على كرسيه وحال طغيانه واستبداده مهما راحت من رقاب وسالت من دماء أو اعتقل الآلاف في سجونه، وأُهدرت موارد وغيبت إرادة شعب واستقلال أمة وسيادة وطن.. خطاب زائف تتحرك فيه مفردات مزيفة عن الوطنية الكاذبة والفرقة القاتلة والكراهية المتصاعدة؛ وتقوض فيه المواطنة.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)