عند الاطلاع على الأدبيات التي تشرح فكر
الشعبوية كتحد للديمقراطية أو مساند لها، تراودنا فكرة أثر الفئة الشعبوية في صفوف المعارضة على الحركة الثورية بالمجمل، وإسهاماتها في موضوع التحول الفكري والإبداعي الديمقراطي في خدمة قضايا الشعوب الثائرة والمعارضة لأنظمة القمع.
في كتاب "مقدمة مختصرة في الشعبوية"، وهو كتاب صدرت ترجمته مؤخراً ضمن سلسلة "ترجمان" التي يصدرها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وهو تحليل للشعبوية ببعديها النظري والعملي أجراه الباحثان كاس مودّه وكريستوبل روفيرا كالتواسر، وترجمه سعيد بكار ومحمد بكار، نستطيع الخروج بتعريف واضح حول من هو القائد الشعبوي النمطي، فوفقا لهذا الكتاب فإن القائد الشعبوي هو الرجل الكاريزمي القوي.
يتبادر إلى الذهن حينها أثر القيادات الشعبوية الإبداعية والسياسية في صفوف المعارضة على طبع المعارضة بطابع شعبوي بشقيه السلبي والإيجابي. فهل من الممكن أن تكون الشعبوية في صفوف قيادات المعارضة خطرا على الحركة الثورية وآمال التحول للديمقراطية؟ وكيف تؤثر تلك القوى الشعبوية في
الديمقراطية بنيويا وفكريا؟ وما مقدار صقلها أو تشويهها للحركة الديمقراطية؟
ما إن انطلقت
الثورة السورية حتى برزت هنالك شخصيات إبداعية لها كاريزما قوية بين الجمهور المعارض. والمدقق في النشاط الإبداعي أو الفكري أو الاجتماعي لبعض تلك الشخصيات التي تصنف نفسها أنها معارضة، يصيبه عدة تساؤلات حول أدوات تأثيرها:
أولا: تأثيرها في النطاق الإبداعي المحلي سواء بالرسم الكاريكاتوري أو كتابة الرواية أو الثورة الإلكترونية على النظام الديكتاتوري القمعي. من الملفت في بعض التجارب لتلك الشخصيات التي تلقى رواجا شعبويا أنها تستخدم الأداة الإبداعية، كالريشة أو القلم أو المحاججة الفكرية بطريقة شعبوية، وتعكس في مجملها عدم إدراك للصف الذي تقاتل فيه، وفي هذا النطاق يمكننا تسجيل عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: هي تبني تلك الفئة الإبداعية في حربها لغة شبيهة بلغة الفئة التي تتم معارضتها، كاستعانتها بمصطلحات فيها عنف جنسي أو لغة سوق أو عنف نفسي أو فكري.
الملاحظة الثانية: تلك الشخصيات وهي لا تعي الجهة التي تقاتل في صفها، فهي تعيد إنتاج نفس أدوات التواصل ضمن النظام
الاستبدادي القمعي في المعتقلات وفي الحياة العامة في مخاطبة جمهور الموالاة أو من يخالفهم الرأي في أدق تفصيل من صفوف المعارضة.
الملاحظة الثالثة: أن تلك الشخصيات الكاريزماتية بنشاطها الشعبوي السلبي على مستوى التواصل ضمن الثورة الإلكترونية؛ تضع أسسا سالبة لفكر منسوخ عن فكر "الشبيحة" وسلوكهم لكن ضمن صفوف المعارضة. وهذا يشكل عدة تحديات ومخاطر على المسار الإبداعي الذي يصطف في صفوف الثورة:
أولها الخطر الأخلاقي: تشكل تلك الفئة الشعبوية السالبة التي تردد خطاب وأساليب الشخصيات القمعية مع معتقليهم في المعتقلات؛ خطراً أخلاقياً كبيراً على مسار الثورة، حيث لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تنسب تلك الشخصيات الإبداعية والكاريزماتية الشعبوية نفسها لصفوف الثورة، وهي تكرس في أدواتها نفس الأدوات التي يستخدمها القمعيون سواء بالتحرش اللفظي أو الفكري أو المعنوي لمخالفيهم. كيف يمكن لشخصية تصطف في صفوف الثورة أن تكون أداة استمرار، وتريد لنفس أساليب التواصل القمعية التي فيها تجرد أخلاقي تام عن مهام الشخصية الإبداعية أن تكون في صف الثورة؟ وكيف يمكن لتلك الشخصيات أن تساهم في ثورة ثقافية وفكرية وإبداعية ملهمة في التحول الديمقراطي على كافة المستويات؟
ثانيها الخطر الحركي: تشكل تلك الشخصيات الشعبوية خطرا كبيرا على مسار الثورة، وعلى المسار الثقافي الذي ينبغي أن يكون خادما وميسرا ذهنيا وسلوكيا ومعنوي لها، تلك الشعبوية السالبة التي تردد كلمات قمعية وسوقية وتتصرف بشكل غوغائي لا يمكن أن تشكل إلهاما أو بذورا ثورية إصلاحية في المجتمعات، حيث أنها تساهم في تكريس حالة التعدي على مسار التحول الديمقراطي الاجتماعي، والذي من أدواته التخلي عن ثقافة السوق والهجوم اللا أخلاقي على المخالفين أو المختلفين.
ثالثهما الخطر الوجودي: تهدد تلك الشخصيات الكاريزماتية التي تستعين بأدوات تواصل قمعية مع مخالفيها مشاعر المنتمين والمنتميات لصفوف الثورة، وتشيع حالة من الارتباك السلوكي والتناقض المعرفي فيها. فالذين يصطفون في صفوف الثورة وقد خسروا في سبيل ذلك كل ما لديهم؛ حين يخرج عليهم قادة شعبويون في صفهم تتملكهم مشاعر الغبن والخيبة. فرغم الانتشار الواسع لتلك الشخصيات، إلا أنها بإعلانها الاصطفاف لجانب الثورة هذا لا يطهرها من أخطائها أو يمنحها شرعية تكريس نفس الممارسات السلوكية والأخلاقية القمعية البائسة؛ التي تشيع في صفوف موالي الديكتاتور وعملائه في السجون القمعية.
رابعهما الخطر المعرفي والثقافي: تشكل الشخصيات الشعبوية السالبة حالة من الخطر في ما تقدمه على أنه إسهام إبداعي يضاف لحصيلة الإسهامات الإبداعية التي تسير مع الثورة على نفس الخط، لكن حين يتم تكريس لغة وأدوات القمع في ذلك الإسهام، فإنها حتماً ستشوش على مسار الثورة والنظرة الجماعية الأخلاقية لمن هم في صفوفها، ومن الشائع ترديد كلمة أنهم مرآة للديكتاتور عند الحديث عن تلك الإسهامات والشخصيات.
في النقطة الخامسة نجد خطر العداء للذات وللمشروع الثوري برمته. عند إجراء دراسة اجتماعية نفسية على تلك الشخصيات سيتبين لنا من لغتها العنيفة أنها تعرضت لنفس تلك اللغة من نظام القمع والديكتاتور، فراحت ترددها كطريقة دفاعية استباقية للجانب الآخر دون أو مع وعي بتلك العواقب، وراحت تكرس فنها أو نتاجها الإبداعي ليكون سلة لتلك الإفرازات القمعية من لغة سوق وسباب وشتائم، وراحت تخطف صف الثورة لتكرسها فيه، فكانوا بذلك أشد خطراً على الثورة من أعدائها أنفسهم.
ثانياً: تأثيرها على النطاق الإبداعي العالمي: تمثل تلك الشخصيات الواجهة الثقافية والإبداعية والفكرية للثورة وصفوفها أمام العالم الذي يراقب كافة جوانبها. تتسم تلك الشخصيات الشعبوية السالبة بتكريس نظرة أنها ليست على مستوى التحدي السياسي لخوض دفة التغيير، بسبب إغراقها في مشكلاتها الأخلاقية والنفسية والاجتماعية التي تخرج في نتاجها وإسهامها الثقافي، وبذلك تكون عاملا مساعدا في تكريس نظرة استهلاكية للصف الثقافي المكرس لمساندة الثورة، وخسارته لحليفه الثقافي الثوري في باقي العالم؛ لأنه يتنافر معرفياً وثقافياً ووجودياً مع الخط الثقافي الفكري العالمي الذي يضخ نتاجاته ويكرسها في خدمة الشعوب الثائرة.
تمثل الشخصيات الشعبوية الإبداعية والسياسية والثقافية السالبة والتي تنسب نفسها لصف المعارضة؛ أكبر أخطار وتحديات الحراك الثوري والمعارض، حيث تقف في مواجهة حركة التغيير الفعلي بالأدوات الثورية الثقافية؛ لأنهم يعدون أن استهلاك لغة سوق القمعيات حالة من الثورة، كون من كان يوظفها في مواجهتهم يوظفها من منطلق القوة القمعية، فهم يعدون من حقهم توظيف نفس لغة السوق من منطلق قوة ثورية، وهذا غير منطقي ويشي بتكلس للموروث القمعي وترسبه في سلوكهم وخطابهم وإسهامهم.
المطلوب على مستوى الثورة الإلكترونية وعلى أرض الواقع أن تلزم تلك الشخصيات بعمليات مراجعة ذاتية وتقييم لنتاجاتها وسلوكها الثوري، طالما هي تنسب نفسها لقيادات التغيير والإصلاح، فمن باب أولى أن تسيطر على نزوعها اللا أخلاقي في تواصلها الثقافي وتخرج من النطق بلسان الشبيحة ورجال السوق.