لا يزال النضال الفلسطيني اللاهب في مسيره الملحميّ غير المتوقف منذ أكثر من مائة عام، يقدّم نماذجه وأمثولاته الفردية والجماعية؛ الإنسانية والروحية، الجهادية والثورية، وهو ما يعكس خميرة هذا الشعب الحي، وهذه الأرض المباركة التي لا تزيدها الحوادث إلا صقلا ومضاء وألقا وتأثيرا.
آخر نسخة من هذه الأمثولات والنماذج، كان الأخ المرحوم عمر صالح البرغوثي "أبو عاصف" الذي انتقل إلى جوار ربه يوم الخميس 25 آذار/ مارس 2021، وكان ممن طالتهم جائحة كورونا.
كان "أبو عاصف" - رحمه الله - نبع معنويات لم تؤثّر فيه؛ لا المآسي العامة -وما أكثرها - ولا المآسي الشخصية الخاصة. حديثه العادي كان يزوّد المستمع بطاقة تعيد ترتيب خلاياه العصبية، ويمنح جهاز مناعته تطعيما وترياقاً يعيد إليه الاستقرار والطمأنينة، ويعيده إلى توازنه وعاديّاته، وينزع عنه وحشة الاغتراب التي أحدثتها الهزائم الثقيلة، سواء تلك التي سبقت أوسلو أو تلك التي جاءت كالطوفان بعد أوسلو.
كانت عبارة "الجيل" فعلا الكلمة ذات الدلالة على المعنى الذي مثّله ويمثله "أبو عاصف" في وجه الطوفان الذي يجرف كل شيء في وجهه، ما عدا الجبل الراسخ الثابت الأوتاد الذي لا تزعزعه الرياح ولا العواصف ولا الأعاصير ولا السيول
كانت عبارة "الجيل" فعلا الكلمة ذات الدلالة على المعنى الذي مثّله ويمثله "أبو عاصف" في وجه الطوفان الذي يجرف كل شيء في وجهه، ما عدا الجبل الراسخ الثابت الأوتاد الذي لا تزعزعه الرياح ولا العواصف ولا الأعاصير ولا السيول.
عندما وقع احتلال الجزء الثاني لفلسطين عام 1967، كان عمر البرغوثي في الثالثة عشر من عمره، وكان لديه الوعي الفطري بالوطنية، هذا الوعي الذي ظل محتفظا "بطزاجته" حتى آخر لحظة في حياته، الوطنية البريئة العفوية التي هي امتداد طبيعي للأرض ولأهلها.
كانت وطنية عمر في أكثر صورها وضوحا وأبسطها: لا تعامل مع
الاحتلال الغاصب إلا بالمقاومة، والمقاومة فقط. فامتشق عمر - الفتى - الحجارة، كما كان السلوك الدائم لأطفال ورجال الأرض المحتلة. وعندما بلغ مبلغ الرجال، وتفتّح وعيه على حكايات الفدائيين، سافر إلى شرق النهر ثم إلى لبنان في سبعينيات القرن الماضي، باحثا عن زاد وإعداد قتالي، وعاد ليقود مجموعة فدائية، كانت عناصرها من أهل بيته ومحيطه الأقرب: شقيقه الأصغر نائل، وابن عمه فخري، وآخرون كان منهم مروان. وتُعتقل المجموعة عام 1978، ويُحكم على عمر ونائل وفخري بالمؤبد بتهمة قتل مستوطن، ويُحكم على آخرين ببضع سنين.
كانت وطنية عمر في أكثر صورها وضوحا وأبسطها: لا تعامل مع الاحتلال الغاصب إلا بالمقاومة، والمقاومة فقط
كانت مقاومة الاحتلال بالنسبة لعمر هي المهنة الدائمة، وأما ما عدا ذلك فهي شواغل أخرى على هامشها.. وعندما التحق منذ نعومة أظافره بهذه المهنة ذهب وتحسّس باحثا عن أولئك الذين يمارسون المهنة، ليأخذ عنهم أصولها وفنونها، فانخرط في حركة فتح، كأهمّ عنوان حينه لهذه المهنة. ولكن عندما خرجت البندقية الفلسطينية من بيروت عام 1982، وغادرت المنظمات الفلسطينية ممارسة الكفاح المسلح، واتجهت نحو الحلول السلمية. لم يسلّم عمر بهذا الواقع، وأصرّ على البقاء في المناوبة التي لا يتصور نفسه خارجها، رغم مغادرة الآخرين لها.
لم تثنه وحشة الطريق ومغادرة المغادرين، ولم يتورط كثيرا في ممارسة التشنيع والتقريع والدخول في طقوس اللوم والعتب والشكوى لتخلّي الرفاق عن المسير في الدرب، وتركه وحيدا أو مع آحاد آخرين من دون غطاء في برد المرحلة. كان لا يهمّه شأن الضعف والتعب والوهن الذي أصاب الآخرين، ولم يؤثّر ذلك لحظة على وعيه وفهمه، ولا على قيامه بالفعل النضالي الصحيح. كان متأكدا من أنه في المناوبة النضالية الدائمة، ويقوم بالمهمات التي تقتضيها تلك المناوبة، ولا يلتفت إلى معارك جانبية هنا وهناك.
كان لا يهمّه شأن الضعف والتعب والوهن الذي أصاب الآخرين، ولم يؤثّر ذلك لحظة على وعيه وفهمه، ولا على قيامه بالفعل النضالي الصحيح
كان فعله النضالي، وفعله فقط، هو ما يمكن أن يردّ به على خَور الخائرين، وتعب المُتعبين، وغدر الغادرين. وفي هذا المجال، كانت كلماته، وبالطريقة التي كانت تخرج منه ويعبّر من خلالها عن سياقه النضاليّ الصادق، هي في حدّ ذاتها فعلا عمليا مؤثرا. صحيح أن الكلمات، خاصة في التجربة الفلسطينية، فقدت الكثير من معناها، ويدرجها كثير من الناس في حالة اللا فعل، لكن الكلمة على لسان "أبو عاصف" كانت فعلا. وهي كذلك عندما تكون صادقة صريحة حرّة، غير خائرة ولا منافقة ولا متصنّعة، بل متطابقة مع الحقيقة.
ولذلك، سنجد أبا عاصف في حالة عالية من الانسجام والوفاء في دوامه الكامل والمستمر في المناوبة، لا يلتفت إلى الجموع الهائلة التي ارتدّت وغادرت، ولم يَهُلهُ نكوص الناكصين، ولا تثبيط المثبطين، مضى في الدرب، ووجد نفسه عضوا موضوعيا مع الذين مثله في خندق
المقاومة.
وهكذا أمضى أكثر من نصف عمره العاقل وهو في السجون، لم تثنه عشرات مرات الاعتقال والمداهمة عن البقاء في خندق المناوبة، لم يثنه تقدمه في السن.. لم تثنه الأمراض، أيضا لم تثنه هزائم المهزومين، بل زاده كل ذلك حرارة وصدقا وعفوية. كذلك كانت كلماته الحرّة الطليقة اللاذعة واللاسعة عندما "دبّ الصوت" في باحات رام الله في الذكرى الأربعين لاعتقال شقيقه نائل.. رام الله التي شوّهتها أوسلو، وأدخلتها في اغترابٍ خانق، كانت كلمات أبي عاصف يومها تعيد وصل الكهرباء الوطنية إلى ليل رام الله الأوسلويّة الطويل. كانت كلماته الحرَّة يومها تنطق بلسان وضمير الصادقين الذين لم تتلوث ضمائرهم ووطنيتهم بالرجس الأوسلوي، وكانت مهمازا يلكز ركام الذل والخنوع، ويميط لثام الاغتراب عن وجه المدينة الصبوح، المدينة التي طالما لقّنت العدو دروسا وفنونا في المقاومة والمواجهة.
بقي "أبو عاصف" بعد تحرره الأول في صفقة التبادل الكبرى عام 1985، يتصرف مناوبا دائما، كمن أعطى الوعود وقطع الأيْمان والنّذور على الاستمرار في طريق المقاومة، كان بحسّه الغريزي يتلمّس أيَّ زاوية فيها نارُ مقاومة، كان لا يضيع فرصة لشراء أدوات المقاومة إلا واغتنمها، كان يفاجئك باقتراحاته وحيله وتحضيراته وترتيباته التي يتمكن من فعلها، ويحث الآخرين على محاكاتها والتفكير في فضاءاتها. حدث ذلك رغم ملاحقاته واعتقالاته المتكررة، وحيث كان آخر إفراج له من المعتقل قبل شهرين فقط من وفاته، وقد استدعته مخابرات العدوّ قبل أسبوع واحدٍ فقط من مرضه الذي توفي فيه، حيث هدّدته بإعادة اعتقاله لو فكر بالمشاركة في الانتخابات القادمة.
مع رحيل الأخ "أبي عاصف" ينتابنا نفس الشعور الذي يحلّ عندما كان يغادرنا الشهداء الكبار الذين يتركون خلفهم فراغا مؤثّرا، فالشّهادة ولقاء الله، هي فوزٌ شخصيّ بالنسبة لهم، أما بالنسبة لنا، نحن الذين في الدرب ونتحرى كل إمكانية، فهي خسارة صافية؛ ندعو الله معها أن يعوّضنا به عوض خير.
رحمك الله "أبا عاصف" رحمة واسعة، ورفع درجاتك وأعلى مقامك، وبارك في جهادك، وأنزلك منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا.