كتاب عربي 21

القتلة..

طارق أوشن
1300x600
1300x600

عندما يسألني الناس المستمعون الجيدون: لماذا أكره كل التوتسيين؟ أقول: اقرأوا تاريخنا. التوتسي كانوا متعاونين مع الاستعمار البلجيكي. استولوا على أرض الهوتو. لقد جلدونا. والآن يعود هؤلاء التوتسي المتمردون. إنهم صراصير.. إنهم قتلة. رواندا أرض الهوتو. نحن الأغلبية وهم أقلية من الخونة والمحتلين. سنسحق الابتلاء. سنبيد ثوار ار بي اف. كنتم مع راديو ار تي ال ام راديو الهوتو القوية. كن يقظا! راقب جيرانك!

المقتطف من فيلم (فندق رواندا ـ 2004) الذي يروي قصة حقيقية وأخرجه تيري جورج. لكنه أيضا نقل أمين لحملة التجييش والتحريض، التي تصدى لها مجموعة من المذيعين الهوتو لدفع أبناء جلدتهم للانتقام من التوتسي، عبر أثير محطات إذاعية محلية بإمكانيات ضعيفة يقابلها تأثير مدمر في عقلية المستمعين. كانوا يستهدفون الأطفال أولا لإبادة الجيل القادم من التوتسي في حملة إبادة و"تطهير" معاصرة تابعها كثيرون عبر الشاشات وقلة متنفذة في كواليس صنع القرار الدولي.

لم يكن لهذا الخطاب أن يتحول إلى واحدة من أكبر المجازر الإنسانية في العصر الحديث لولا تواطؤ فرنسا مع نظام الرئيس جوفينال هابياريمانا في مواجهة ثوار الار بي اف من التوتسي. الفرنسيون كانوا القتلة الحقيقيين وما الهوتو إلا أدوات تنفيذ.

لم يتورع جو بايدن عن وصف فلاديمير بوتين بـ "القاتل". كما لم يراوغ الآخر بالرد عليه أن "القاتل" من يقول ذلك. لكن أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، تحاشى وصف محمد بن سلمان بـ "القاتل" رغم خلاصات تقرير المخابرات المركزية بخصوص جريمة اغتيال جمال خاشقجي. التسريبات عن دونالد ترمب تقول إنه وصف عبد الفتاح السيسي بـ "الوغد القاتل" ذات يوم، لكن ذلك لم يمنعه من تصنيفه بـ"ديكتاتورا مفضلا". 

الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران كان يعلم أن جوفينال هابياريمان قاتل لكنه واصل التغطية عليه بل أمده بالذخيرة والعتاد. وريثه الاشتراكي فرانسوا هولاند فعل الشيء ذاته مع زين العابدين بن علي حين أمده بقنابل تساعده على دحر "ثورة الياسمين". الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون صارت أحضانه الدافئة الملجأ والملاذ للسيسي بعد سقوط ترامب. أما دعمه غير المشروط لخليفة حفتر فلا يقابله إلا اتهامات موجهة، على استحياء، لسلفه نيكولا ساركوزي بإصدار الأمر بقتل العقيد معمر القذافي لعل ذلك يجنبه متاعب قانونية باعتباره الممول الأبرز لحملته الانتخابية الرئاسية.

القتلة بالتنفيذ معروفون دوما بالإسم والصفة، وداعموهم، القتلة الحقيقيون، أيضا معروفون بالإسم والصفة، لكنه النفاق العابر للقارات يمنحهم الحصانة من أن تطولهم يد العدالة ولو إلى حين.

عودة إلى فندق رواندا..

يصل الجنود الأجانب إلى فندق (الألف تلة)، الذي يديره الرواندي من أصل هوتي بول روسيساباجينا، فيهرع المختبئون من الأجانب إلى الباحة للترحيب بهم. كانوا يعتقدون أنهم الأمل الوحيد لإنقاذهم وربما البلد من بعدهم مما يحدث خارجا من ذبح وقتل وتمثيل بالجثث.

صوت: إنهم هنا. نحن بأمان.
صوت: الجنود وصلوا.
صوت: إنهم الفرنسيون!
صوت: شكرا للرب.
صوت: وصلتم في الوقت المناسب أيها السادة.

العقيد الكندي روميو دالير، قائد للقوات الأممية برواندا، في حوار غير مسموع مع مسؤول الجنود الفرنسيين. يبدو أن الأمر غير ما يعتقده الجميع. يدخل إلى حانة الفندق ويلحق به بول.

جورج: مبروك أيها العقيد. لقد أنجزت معجزة.

العقيد: تبارك لي؟ يجب أن تبصق في وجهي. أنت قذر يا بول. نحن نعتقد أنك قذر يا بول.

بول: عفوا سيدي. من "نحن"؟

العقيد: الغرب. القوى العظمى. كل ما تؤمن به يا بول. يعتقدون أنك قذر وأنك عديم القيمة.

بول: لا أفهم ما تريد قوله يا سيدي.

العقيد: هيا! لا تقل كلاما فارغا يا بول. أنت أذكى رجل هنا. جعلتهم جميعا يؤكلون من خيرك. كان بإمكانك امتلاك هذا الفندق العريق لولا أنك أسود. لست حتى زنجيا. أنت افريقي. لن يوقفوا هذه المذبحة يا بول. لن يبقوا هنا.

رحل الجميع تقريبا من المدنيين والعسكريين وتركوا التوتسي يواجهون مصيرهم. رحل الجميع وتركوهم يواجهون الموت قبل أن يستثمروا عبر شاشات التلفزيون وعبر عشرات المنظمات الدولية "الإنسانية"، المتناسلة كالفطر، في صور مسيرات لجوء من استطاعوا منهم الفرار من حمام الدم وسواطير الإخوة الأعداء، وفيما يسمونه بعد أن تضع الحروب أو المذابح أوزارها خطط "إعادة إعمار". الجنود الغربيون مهمتهم في إفريقيا وبقية دول الهامش تدريب القوات الحكومية على القمع لدعم الطغاة والمستبدين ودعم قوات "الثوار" لاستمرار المعارك الوهمية على سلطة مرهونة للخارج أيّا كان صاحبها "العميل المحلي". تلك كانت الخلاصة من مهمة تيركواز الفرنسية التي أقرتها الحكومة دفاعا عن "شرف" المنتظم الدولي كما تدعي.

 

القتلة بالتنفيذ معروفون دوما بالإسم والصفة، وداعموهم، القتلة الحقيقيون، أيضا معروفون بالإسم والصفة، لكنه النفاق العابر للقارات يمنحهم الحصانة من أن تطولهم يد العدالة ولو إلى حين.

 



الكل متواطئ وصور الحروب والمجازر مجرد فرصة لملء فراغ الشاشات والتباكي في أحسن الأحوال على حقوق الإنسان والتنديد بالقتل والتعذيب خارج ما يصطلح على تسميته (القانون) محليا كان أو دوليا. رئيس قوة القبعات الزرق كان في الفيلم، وفي الواقع، يتحدث عن قوة أوربية يتم تشكيلها للتدخل خصوصا وأن رجاله صاروا في مرمى النيران. الحقيقة أنه تُرك وثلاثمائة من قواته متفرجا على مذابح تقع على بعد أمتار من ثكناته، قبل أن ينتهي الأمر به، سنوات بعد ذلك، إلى السقوط بين الحياة والموت بجانب بحيرة بكندا، وهو الذي تحول إلى مدمن خمر من هول ما شاهد وعاش، اكتشف معه العالم حقائق فظيعة ضمها في كتابه (صافحت الشيطان)، حيث يقول: "لقد رأيت الشيطان وجها لوجه، شممت رائحته، لمسته ومددت يدي لمصافحته" معلقا على لقائه زعيم ميليشيا الهوتو.

لم يكن الشيطان مجسدا في زعيم الهوتو وحده، فالشياطين الفعلية والخرساء خلال الإبادة الجماعية برواندا كثر بربطات عنق كانوا وميكروفونات أو أسلحة على الكتف وسواطير.

في الأسبوع الماضي، أصدرت لجنة مكونة من أربعة عشر مؤرخا فرنسيا، كان ايمانويل ماكرون من عينها، تقريرا من ألف صفحة عن دور فرنسا خلال فترة الإبادة الجماعية برواندا. خلص التقرير إلى أن الدولة الفرنسية ظلت "عمياء" في مواجهة إشارات التحضير للمجزرة لأسباب إيديولوجية صرفة عمادها الدفاع عن الفرنكفونية في مواجهة الثوار التوتسي المدعومين من أوغندا الانجلوفونية. 

لأجل ذلك، واصلت دعم القوات الرواندية النظامية دون اكتراث بالتحذيرات وبالحقائق على الأرض. ولأن المصالح تعلو على المبادئ، فقد اعتبر التقرير أن المحدد للتدخل الفرنسي كان علاقة شخصية وطيدة جمعت الرئيس الأسبق ميتران بنظيره الرواندي، في محاولة لتبرئة الدولة الفرنسية عن "التواطئ الفعلي" في المجازر التي لا تزال حتى اليوم تمنع أي تقارب حقيقي بين البلدين لدرجة قطع العلاقات بينهما ثلاث سنوات. فرنسا التي أصرت ولا تزال على تسمية الإبادة الجماعية "حربا أهلية" أو "مجازر إثنية"، هي حتى اليوم المأوى والملاذ لعدد من المتهمين بارتكاب تلك الفظاعات. التوتسي ليسوا هم الأرمن على كل حال.  

الجرائم الاستعمارية لفرنسا أسرار محفوظة في الأرشيف الوطني لا يتم الإفراج عن بعض صفحاته إلا لأهداف سياسية آنية. فمنذ نابليون بونابرت الذي حول دماء شعوب العالم إلى وقود لبناء مجده الشخصي ومعه أسطورة القوة الاستعمارية الفرنسية المتهاوية، توالت الجرائم والفظاعات ولا تزال مستمرة حتى اليوم.

تحقيق أممي صدر قبل أيام أكد أن الطيران الفرنسي قتل ما يربو عن عشرين مدنيا ماليا شهر يناير الماضي في حفل زفاف بدعوى مطاردة "الإرهابيين". وقالت لجنة التحقيق الأممية، إن التقرير يتعارض مع مزاعم فرنسا بأن الضربة لم تصب سوى مسلحين إسلاميين. وزارة الدفاع الفرنسية لم تتأخر في الرد على التقرير الأممي بالقول إنها تعيد التأكيد على أن الضربة استهدفت من وصفتهم بأنهم "إرهابيون مسلحون"، مضيفة أن لها عدة تحفظات على النهج الذي استخدم في وضع التقرير الأممي. فرنسا تريد أن تقتل من تشاء وتصنف من تشاء كما تشاء ثم تصدر تقاريرها لتقديم الرواية التي تشاء.

 

كان الجميع يعلم الحقيقة، وما كان هناك من داع لانتظار تقرير يؤلفه فرنسيون للتغطية على جرائم الدولة الفرنسية التي أودت في رواندا لوحدها بحياة ما يقارب مليون شخص في أقل من مائة يوم ثلاثة عقود بعد الأحداث.

 



في اتصال هاتفي بين السيد تيلينز، رئيس شركة سابينا للطيران المالكة لفندق (المائة تلة) بكيغالي ومديره بول حيث يطلب الأخير من رئيسه التدخل لإنقاذه ومن يوجدون في الفندق من الروانديين من موت محقق بعد حضور قوة عسكرية هناك.

 تيلينز: بمن اتصل ليوقف هذا؟ 

بول: الفرنسيون هم من يقومون بإمداد جيش الهوتو؟

بعد دقائق انسحبت قوة الهوتو.

بول: شكرا سيدي. لقد رحلوا. ماذا فعلت؟

تيلينز: تحدثت مع مكتب الرئيس الفرنسي.

بول: شكرا. لقد أنقذت حياتنا.

تيلينز: انهم جبناء يا بول. الفرنسيون والانجليز والأمريكان.

كان الجميع يعلم الحقيقة، وما كان هناك من داع لانتظار تقرير يؤلفه فرنسيون للتغطية على جرائم الدولة الفرنسية التي أودت في رواندا لوحدها بحياة ما يقارب مليون شخص في أقل من مائة يوم ثلاثة عقود بعد الأحداث.

بول كان مدير فندق الألف تلة (باسمه الفرنسي). تلال رواندا لم تنقذ التوتسي المتخفين وراءها من مصير كان مرسوما لهم من الداخل كما من أطراف من القوى الدولية "المؤثرة" حين تشاء. أنقد بول، وهو فرد معزول، 1268 من الهوتو والتوتسي لكن فرنسا والقوى العظمى سكتت بل ساهمت في مقتل ما يقارب المليون شخص، وفي الأخير لم يجد غير بلجيكا، التي فرقت شعبه بين هوتو وتوتسي وزرعت بذلك حقدا لا يزال تحت الرماد يغلي، ملجئا يأوي إليه وعائلته.
 
أما "المجتمع الدولي" فقد اعتقل الجنرال أوغستان بزيمونغو وزعيم المليشيات جورج روتاغندا وكثيرون آخرون وقدمهم أمام المحاكم الدولية. في المقابل، تجاهل ذات المنتظم الدولي من كانوا يدعمونهم بالمال والسلاح والغطاء السياسي لارتكاب المجازر برواندا.

هؤلاء هم القتلة إن كنتم لا تعلمون.


التعليقات (0)