هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالا للأستاذ خليل الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، قال فيه إن تداعيات هذه الجولة من المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلية والمقاومة الفلسطينية ستكون طويلة الأمد وعميقة. وفوق كل شيء، سيعزز الشعور بين الإسرائيليين والفلسطينيين ومعظم المجتمع الدولي بأن البحث عن حل سلمي قد انتهى في المستقبل المنظور.
العدوان الذي بدأ في أوائل أيار/ مايو لم يكن مخططا له، لقد كانت تتويجا لخطوات متنوعة صغيرة، لكنها مهمة، على الرغم من ارتباطها ببعضها البعض، إلا أنها لم تجعل العنف أمرا لا مفر منه. ومع ذلك، فإن مزيجا من الديناميكيات السياسية المحلية الإسرائيلية والفلسطينية، والإخفاقات الدولية، والعلاقات المتدهورة بين الجانبين، خلقت الظروف المناسبة لإراقة الدماء.
ومع ذلك، بغض النظر عن نوعيتها العرضية، فإن جولة العنف الأخيرة ستكون لها عواقب دائمة، ستخرج حماس من الصراع أقوى، والسلطة الفلسطينية ورئيسها أضعف. سوف يتراجع العنف بين فلسطينيي 48 واليهود في نهاية المطاف، لكن تصورات العرب عن التمييز المنهجي سوف تنمو، وكذلك الاعتقاد بأن البحث عن المساواة داخل إسرائيل غير مجد بطبيعته.
كما سيتوسع دور القدس الرمزي، ما يعمق الأبعاد الدينية للصراع بين العديد من الإسرائيليين والفلسطينيين، تشير هذه التطورات إلى العودة إلى مرحلة قديمة من الصراع. لقد عزز الأسبوعان الماضيان الاعتقاد بأن علاقتهما مرة أخرى وجودية، وأن الدبلوماسية لحل النزاع لا طائل من ورائها، والعنف أمر لا مفر منه.
المواجهة الحالية تتكشف عبر أربعة مسارح. دمر القصف العسكري بين غزة وإسرائيل البنية التحتية المدنية، وقتل أكثر من 200 فلسطيني، 30% منهم أطفال، وعشرة إسرائيليين.
وهناك مواجهة في القدس بين الفلسطينيين من جهة والشرطة الإسرائيلية والجماعات القومية اليهودية المتطرفة والمستوطنين من جهة، بشأن الوصول إلى الأماكن المقدسة الإسلامية وعمليات الإجلاء المخطط لها للعائلات العربية من حي الشيخ جراح.
وفي الضفة الغربية، تصاعدت التوترات، بعد أن قتلت القوات الإسرائيلية أربعة متظاهرين فلسطينيين، وجرحت العشرات، في 18 أيار/ مايو، وهو يوم احتجاج اجتاح المدن الفلسطينية الكبرى. ومع ذلك، لا تزال التوترات هناك محتواة من خلال الجهود المشتركة للسلطة الفلسطينية والإسرائيلية.
أخذت هذه الديناميكيات تتراكم منذ أن غزت إسرائيل غزة في عام 2014، وكانت تلك الحرب بمثابة نهاية لأي أمل حقيقي في التوصل إلى صفقة لإنهاء الصراع، كما كان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري يعمل على القيام به. بعد عام 2014، ساءت العلاقات بين الجانبين، وتضاءلت احتمالات حل الدولتين تدريجيا.
مع إدراك أن النتيجة السلمية كانت مستحيلة على المدى القصير إلى المتوسط ، بدأ اليمين الإسرائيلي في تأكيد نفسه، خاصة بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا في عام 2016. شجعت سياسات ترامب العديد من المحافظين الإسرائيليين، ومهدت الطريق لسياسات شديدة المناهضة للفلسطينيين. وبدأ المستوطنون الإسرائيليون بالتوسع في مناطق جديدة من الضفة الغربية، وبدأت إسرائيل بشكل روتيني في مصادرة الأراضي الفلسطينية وهدم المنازل.
و بحلول 2019-20، بدأ العديد من الإسرائيليين في المطالبة بضم مساحات واسعة من الأراضي الجديدة، دون منح حقوق متساوية للمواطنين الفلسطينيين. وما زاد الطين بلة، أن العديد من الدول العربية بدأت أيضا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأبرمت في نهاية المطاف ما يسمى اتفاقات إبراهيم في عام 2020.
ومع انحسار تضامن الدول العربية مع القضية الفلسطينية، شعر الفلسطينيون بالخذلان بشكل متزايد.
كانت هذه الضغوط واضحة بشكل خاص في القدس. بعد اعتراف واشنطن عام 2017 بالمدينة كعاصمة لإسرائيل، زادت إسرائيل من وتيرة الضم غير القانوني، وكثفت جهودها لتغيير الوضع الراهن في الأماكن المقدسة في المدينة القديمة. قامت الشرطة الإسرائيلية بتقييد وصول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى، وحاولت إسكات الأذان، وبدأت في منح الوصول إلى أعداد أكبر من اليهود الإسرائيليين. كما تحركت السلطات لإجلاء عرب القدس الشرقية من منازلهم، وبدأت في تأكيد وجود أجندة يهودية قومية دينية مهيمنة في جميع أنحاء المدينة.
داخل إسرائيل نفسها، اتخذ الجناح اليميني الجريء أيضا خطوات لتهميش فلسطينيي 48، الذين رأوا ما يسمى قانون الدولة القومية لعام 2018 -الذي يعلن إسرائيل كوطن تاريخي للشعب اليهودي، ويؤسس اللغة العبرية كلغة رسمية فقط، ويؤكد أن المستوطنات اليهودية هي "قيمة قومية"- على أنه مثال آخر على التمييز.
بعد ذلك بعامين، تم التصويت على تعديل كان من شأنه أن يضيف المساواة للأقليات إلى القانون، ويقلل من فرصة استخدامه لإضفاء الشرعية على التمييز القانوني ضد عرب إسرائيل، في الكنيست. السياسيون اليمينيون، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يحرضون بشكل روتيني على الكراهية والخوف ضد عرب إسرائيل وممثليهم في الكنيست. علاوة على ذلك، يؤدي الارتفاع الهائل في معدلات الجريمة في المجتمعات العربية إلى تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة بالفعل.
لقد ابتليت السياسة الفلسطينية بسلسلة من الانتكاسات الخاصة بها. على مدى السنوات العديدة الماضية، قوضت السلطة الفلسطينية بشدة ثقة الجمهور في قدرتها على الحكم. بعد عدم إجراء أي انتخابات عامة منذ عام 2006، أضرت السلطة الفلسطينية بسيادة القانون، وأضعفت القضاء، وقلصت الحريات الإعلامية، وقلصت مساحة المجتمع المدني، حيث فقدت المنظمات الكثير من استقلالها عن الحكومة. والنتيجة هي زيادة السخط العام، والمطالبات الساحقة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بالاستقالة. لم يكن سلوك حماس في قطاع غزة أفضل. وبسبب عدم تأثره بالمبادئ الدستورية والأعراف وسيادة القانون، فقد أصبح قاسيا على نحو متزايد.
قبل أسبوعين، اصطدمت أخيرا هذه الديناميكيات المتضاربة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وداخل الفلسطينيين. كان السبب الأول والأكثر وضوحا هو سياسات إسرائيل تجاه الأماكن المقدسة الإسلامية في البلدة القديمة بالقدس، ومعركتها الديمغرافية ضد الفلسطينيين في بقية القدس المحتلة. مهد هذا الطريق لمواجهات صغيرة خلال شهر رمضان بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية والمتطرفين اليمينيين في البلدة القديمة حول التغييرات في الحرم الشريف، والوصول إلى باب العامود.
نقطة صدام أخرى كانت حي الشيخ جراح في القدس المحتلة. في نمط يتكرر في جميع أنحاء المدينة المحتلة، واجه العديد من السكان الفلسطينيين إخلاء وشيكا من منازلهم من قبل المستوطنين اليهود. واحتشد سكان القدس المحتلة وفلسطينيون آخرون والعديد من عرب إسرائيل ردا على ذلك، وأطلقوا سلسلة من الاحتجاجات المحدودة وغير العنيفة أساسا.
كان الدافع المنفصل هو القرار الإسرائيلي بمنع إجراء الانتخابات الفلسطينية، المقرر إجراؤها في 22 أيار/ مايو، في القدس المحتلة، على الرغم من التزامها بتسهيلها بموجب شروط اتفاقيات أوسلو التي تم التوصل إليها في عام 1993. يبدو أن القرار الإسرائيلي لا علاقة له بالانتخابات نفسها (أعلنت إسرائيل أنها لا تنوي التدخل في العملية كلها). وبدلا من ذلك، نُظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لإنكار مطالبة الفلسطينيين بالقدس الشرقية المحتلة، على الرغم من أن إسرائيل قد اعترفت بالفعل بذلك في ثلاث انتخابات سابقة. كانت هذه الخطوة الإسرائيلية هي الأكثر صلة بتوقيت المواجهة الحالية.
وبحجة قرار إسرائيل، قرر عباس إلغاء انتخابات السلطة الفلسطينية في أيار/ مايو تماما، ووعد بإجراء هذه الانتخابات بمجرد موافقة إسرائيل على التراجع. لكن هذا أدى فقط إلى مضاعفة التوترات الفلسطينية الداخلية. رفضت جميع القوائم الانتخابية الفلسطينية والمرشحون الآخرون تقريبا القرار، بما في ذلك حماس. اشتبهت معظم الأحزاب في أن الدافع الحقيقي هو إدراك عباس أنه سيخسر السباق، وسيضطر لتقاسم السيطرة على البرلمان مع ثلاثة منشقين بارزين عن فتح: محمد دحلان ومروان البرغوثي وناصر القدوة.
جادل معارضو عباس بأن على الفلسطينيين ألا يمنحوا إسرائيل حق النقض على انتخاباتهم. وبدلا من ذلك، فضلوا إجبار إسرائيل على قبول التصويت في القدس المحتلة، من خلال الحملات الانتخابية غير العنيفة، وحملات التصويت في الأقصى، وغيرها من المساجد والكنائس، وبعثات الأمم المتحدة، والبعثات الدبلوماسية.
وكان المحفز الأخير لجولة العنف الحالية هو عجز حماس عن تشكيل تحالف مشترك ضد إلغاء عباس للانتخابات، على الرغم من المعارضة الواسعة له. على الرغم من أن المجموعة قد مدت يدها إلى قوائم انتخابية أخرى للحصول على دعمها، إلا أنه لم يرغب أي منهم في أن يُنظر إليه على أنه حليف لحماس. وقد وجه ذلك ضربة قوية لاستراتيجية حماس على المدى الطويل. من خلال إعادة دمج نفسها في العملية السياسية للسلطة الفلسطينية من خلال الانتخابات، سعت الجماعة إلى استعادة شرعيتها، وتحرير نفسها من عبء حكم قطاع غزة.
مع أن هذه الاستراتيجية في حالة يرثى لها، تولت قيادة حماس الأكثر تشددا الدفة. أتاح تصعيد الشرطة الإسرائيلية في الأقصى وعمليات الإخلاء الوشيك في الشيخ جراح الفرصة لتحقيق هدفين: الأول هو معاقبة عباس بإلغاء أهميته السياسة، والثاني هو معاقبة إسرائيل على سياساتها المعادية للفلسطينيين في القدس المحتلة وقرارها ووقف الانتخابات في المدينة. في تحقيق هذين الهدفين، سعت حماس إلى أن تثبت للفلسطينيين ولآخرين أنه بينما يهرب عباس من معركة على القدس، فإن حماس ستقف مع سكانها.
في الواقع، كانت الجماعة مستعدة للمخاطرة بالحرب في غزة للدفاع عن المدينة والمسجد الأقصى. في نهاية المطاف، في 10 أيار/ مايو، أصدرت حماس إنذارا نهائيا: إذا لم تسحب إسرائيل أفراد الشرطة والجيش من المسجد والشيخ جراح، فإن الجماعة ستهاجم. بعد دقائق من انتهاء المهلة، بدأت حماس في استهداف البلدات الإسرائيلية بصواريخ أطلقت من قطاع غزة، ما أدى إلى غارات جوية إسرائيلية انتقامية.
حماس لم تطلق العنان للمواجهة الحالية، لقد استفادت فقط من التوترات المتصاعدة؛ لإثبات ضرورة استبدال عباس. أدى قرار إسرائيل بإلغاء الانتخابات في القدس المحتلة، وخطوة عباس اللاحقة لإلغاء العملية برمتها، إلى سلسلة من ردود الفعل لم يتوقعها أي من الطرفين. لو جرت الانتخابات كما هو مخطط له، لكانت المواجهات في القدس الشرقية قد اشتدت، ولكن من المرجح أن تظل سلمية. حماس وفتح وقوائم انتخابية أخرى كانت ستنشغل أكثر من اللازم بتعبئة ناخبيها ضد الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين المتطرفين. لم تكن حماس لتخاطر بشن حرب في غزة كان من الممكن أن توقف الاستعدادات الانتخابية، وبالتالي تقضي على فرصتها في إعادة الاندماج في العملية السياسية الرسمية. لكن من دون انتخابات، كانت الساحة مهيأة للعنف.
كيف ستؤثر المواجهة الحالية على آفاق سلام طويل الأمد؟ على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية، ربما تلقى حل الدولتين ضربة قاتلة. بالنظر إلى الجهود الإسرائيلية لتهميش عباس والسلطة الفلسطينية، لن يكون من السهل إبعاد الضفة الغربية عن الصراع القادم أو حتى الصراع الحالي. لن يكون التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية كافيا لاحتواء النيران المتصاعدة. وبالنظر إلى الخطاب الدائر حول الضم، لن تكون أي حكومة يمينية إسرائيلية مستعدة أو قادرة على تجديد عملية سياسية تتطلب مفاوضات مع قيادة السلطة الفلسطينية، حتى بالنسبة لخطوات تدريجية صغيرة.
في الداخل، لن يتمكن عباس من البقاء في منصبه إلا إذا كان قادرا على منع إجراء الانتخابات. ولكن مع تزايد السخط الشعبي، تتضاءل قدرة أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على الحفاظ على السيطرة وتهدئة السخط. قد تجد السلطة الفلسطينية نفسها هدفا لجمهور غاضب. سيخسر عباس والسلطة الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية الثقة القليلة التي ما زالوا يحتفظون بها. الانتخابات والإصلاحات السياسية هي الوسيلة الوحيدة لجعل النظام شرعيا وخاضعا للمساءلة مرة أخرى. أولئك الذين يرفضون الانتخابات لأن عباس سيخسر، أو لأن العملية قد تضفي الشرعية على حماس، يجب أن يأخذوا العواقب في الاعتبار. تجاهل المشكلة وإبقاء حماس محاصرة في قطاع غزة ليس بالحل.
يجب ألا يكون هناك أي وهم حول دور المجتمع الدولي هنا. في أحسن الأحوال، يمكن للدول العربية وغيرها، بما في ذلك واشنطن، المساعدة في إدارة الصراع فقط من خلال جعل الوضع الراهن مستداما. ومع ذلك، ليس لديهم القدرة أو الإرادة السياسية لإجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي، أو على عباس والسلطة الفلسطينية احترام معايير الحكم الرشيد. على الرغم من صعوبة الأمر، يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين القيام بذلك بأنفسهم.