لا شك أن الانقلاب الذي قاده الرئيس قيس سعيد في تونس مؤخرا؛ قد أحدث زلزالا مدويا لدى الشعوب العربية التواقة للحرية والديمقراطية، وكانت تستنشق عبيرها من ثورة الياسمين في تونس، مهد الثورات العربية.
لقد تعلقت الجماهير العربية بتونس وبتجربتها الديمقراطية الوليدة ورأت فيها بصيص أمل، بعد نجاح الثورات المضادة في كل من سوريا ومصر واليمن وليبيا، ووأد الربيع العربي. ولكن الإمارات والسعودية اللتين تقودان الثورات المضادة من مركز أبو ظبي بمساعدة من الموساد، أبتا أن تبقي تونس نموذجا للديمقراطية يحتذى به في العالم العربي.
فرياح الديمقراطية عاصفة، ما إن تجتاح بلدا من البلدان العربية، إلا وانتقلت رياحها إلى باقي البلاد. فنحن أمة واحدة وشعب واحد، مهما حاولوا أن يقسمونا إلى أقطار متفرقة.
خشي هؤلاء أن تنتقل عدوى الحرية والديمقراطية إلى بلادهم، وتعصف رياحها بعروشهم، فتهوي وتسقط. ولهذا حاربوا ثورات الربيع العربي بكل ما أوتوا من قوة ومال، وأحدثوا القلاقل والاضطرابات والحروب الأهلية في كل البلدان التي ثارت شعوبها ضد حكامها الطغاه المستبدين
خشي هؤلاء أن تنتقل عدوى الحرية والديمقراطية إلى بلادهم، وتعصف رياحها بعروشهم، فتهوي وتسقط. ولهذا حاربوا ثورات الربيع العربي بكل ما أوتوا من قوة ومال، وأحدثوا القلاقل والاضطرابات والحروب الأهلية في كل البلدان التي ثارت شعوبها ضد حكامها الطغاه المستبدين، لتعود مرة أخرى إلى حظيرة القهر والذل والخوف، وتكون عبرة لكل الشعوب العربية، ولكل مَن تسول له نفسه الانتفاضة والثورة على رئيسه الطاغية، فإما هو وإما الدمار والخراب والقتل!!
وكنا نظن أن تونس قد خرجت من تلك المعادلة، ونجت من مكر عاصمتي الثورة المضادة، ولكن قوى الثورة المضادة لم يرق لها أن ترى الديمقراطية تسير ولو حبْوَا في بلد عربي، فهي تقض مضاجعها، ولهذا لم تكل الثور المضادة ولم تتعب من تدبير المؤامرات ضد الديمقراطية في تونس، لدفن الربيع العربي في البلد نفسه الذي ولد فيه.
فعلى مدار السنوات الماضية، تعيث الثورة المضادة فسادا في أرض تونس الخضراء، من إشعال حرائق هنا وإحداث اضطرابات هناك وصنع أزمات تنتقل من مدينة لأخرى، ونثر بذور الفتنة بين التونسيين وشراء ذمم ساسة وإعلاميين من العهد البائد، كي تنهك التونسيين ويكفروا بالديمقراطية والذين أتوا بها.
كان هناك قرار بألا تستقر الأوضاع في تونس حتى تعود لسيرتها الأولى من الديكتاتورية والفاشية، وقد حاولت الإمارات أكثر من مرة عمل انقلاب في تونس، ليتولى الحكم أزلام زين العابدين بن علي، ولكنها فشلت، إلى أن جاءتها الفرصة سانحة مع قيس سعيد، الذي جاء من المجهول، من خارج عالم السياسة، فلا نسب ولا إرث سياسيا له، ولكن له إرث قانوني. فهو أستاذ القانون الدستوري، وربما هذا ما دفع الشعب التونسي لاختياره وخاصة الشباب، فقد سئموا من الساسة التقليديين الفاسدين المخادعين الذين يتاجرون بآلام الشعب ومعاناته.
ونجح قيس سعيد بنسبة أذهلت كل المتابعين، بلغت 73 في المائة، وسقط مرشح الإمارات التي أغدقت عليه الملايين من الدولارات. ولكن لم يرضخ ابن زايد للهزيمة، وعاد لمؤامراته، ولكن هذه المرة من خلال الرئيس المنتخب، من خلال قيس سعيد نفسه؛ فأستاذ القانون الدستوري ينقلب على الدستور، الذي أعرب منذ ثماني سنوات عن مخاوفه من أن يأكل الحمار الدستور، وها هو سعيد يأكل الدستور بمضغة واحدة!!
في ليلة ظلماء، لم يضئ فيها القمر، قرر أستاذ القانون الدستوري أن ينقلب على الدستور بضربة واحدة، ويستولي على جميع السلطات؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، في قبضة يده، فيقيل الحكومة ويجمد عمل البرلمان
انقلب الرئيس المنتخب على المسار الديمقراطي الذي أوصله إلى سدة الحكم، وعاد بتونس إلى حقبة الاستبداد والتفرد بالسلطة والحكم الفردي
ويرفع الحصانة عن النواب، وينصّب نفسه رئيسا للنيابة العمومية.
باختصار، انقلب الرئيس المنتخب على المسار الديمقراطي الذي أوصله إلى سدة الحكم، وعاد بتونس إلى حقبة الاستبداد والتفرد بالسلطة والحكم الفردي، خاصة أنه حصّن قراراته بالأحكام العرفية وبنزول الجيش والشرطة إلى الشوارع؛ لمنع الناس من التظاهر والوصول إلى مقرات الحكومة والبرلمان التي تعطل العمل فيهما إداريا، وأغلقت أبوابها بالقوة المسلحة!
ومهما حاول سعيد أن يبرر جريمته هذه ضد الديمقراطية، بأنه استعمل حقه الدستوري الذي يخوله له الدستور في مادته الـ80، فإن ما قام به هو انقلاب مكتمل الأركان، وتفسيره لهذه المادة الدستورية تفسير أعوج لا يليق بأستاذ قانون دستوري أن يقع فيه؛ إذ إنها لا تنص إطلاقا على ما اتخذه من قرارات.
فالمادة 80 من الدستور التونسي تنص على: "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة؛ أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية"، وهو ما لم يفعله سعيد ولم يستشر أيا من رئيسي الحكومة والبرلمان بشأن هذه القرارات. بل فوجئ الجميع بهذه القرارات الصادمة. كما أن البلاد لم تكن في خطر داهم يهدد استقلالها، ولم تتعرض لأي اعتداء خارجي يهدد أمنها واستقرارها، بل الذي يهدد أمنها واستقرارها ويفقدها استقلالها، هي تلك الدول التي تقود الثورات المضادة القابعة في أبو ظبي، والتي خططت ودبرت هذا الانقلاب عن بعد.
لم تتعرض لأي اعتداء خارجي يهدد أمنها واستقرارها، بل الذي يهدد أمنها واستقرارها ويفقدها استقلالها، هي تلك الدول التي تقود الثورات المضادة القابعة في أبو ظبي، والتي خططت ودبرت هذا الانقلاب عن بعد
كما نصت المادة 80 في فقرتها الثانية على: "يعد مجلس نواب الشعب (البرلمان) في حالة انعقاد دائم طوال هذه المدة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة".
وهو أيضا لم يلتزم بهذ الفقرة، بل قرر تجميد البرلمان، وأغلق الأبواب أمام النواب وأنزل الجيش والشرطة لمنعهم من الاقتراب منه، بينما كما رأينا في النص الدستوري أن يبقي البرلمان منعقدا بصفة مستمرة طوال استمرار الحالة الاستثنائية!
لقد حاول ليّ عنق النص ليعصر منه عصيره الفاسد ليشربه التونسيون.. بينما يتيح الدستور للبرلمان عزل رئيس الجمهورية في حالة خرقه الجسيم للدستور في مادته الـ88، وهو ما لم يلجأ إليه أعضاء البرلمان، لغياب المحكمة الدستورية منذ عام 2014، التي عطل سعيد تشكيلها.
كما أن النواب للأسف الشديد ليسوا على قلب رجل واحد، فلم يشعر البعض منهم بالمهانة والضربة القاضية التي وجهها لهم سعيد وللديمقراطية بصفة عامة، بل منهم الليبراليون واليساريون والقوميون، ممن يدعون الحرية ويتشدقون بالديمقراطية وينددون بالديكتاتورية وحكم الفرد، فرحوا وصفقوا وهللوا لتلك القرارات الفاشية، ووقفوا في صف الاستبداد وأيدوا الانقلاب، نكاية وحقدا على حزب
النهضة ورئيسه راشد الغنوشي!!
من يدعون الحرية ويتشدقون بالديمقراطية وينددون بالديكتاتورية وحكم الفرد، فرحوا وصفقوا وهللوا لتلك القرارات الفاشية، ووقفوا في صف الاستبداد وأيدوا الانقلاب، نكاية وحقدا على حزب النهضة ورئيسه راشد الغنوشي!!
من الأقوال الزور التي تنافي الحقيقة تماما؛ سيطرة حزب النهضة، وحكومة النهضة، وحكم الإخوان.. إلى آخر تلك الأسطوانة المشروخة التي مللنا منها، بينما الحقيقة الجلية أن النهضة لم تحكم إطلاقا، فهي لا تملك سوى ربع مقاعد البرلمان، ونجحت في التفاهم مع عدد من الأحزاب الأخرى لأجل الوصول إلى الغالبية البرلمانية التي تمنح الثقة لحكومة يرأسها شخص (هشام المشيشي)؛ رشحه الرئيس نفسه وليس الحركة، ولكن حدث صدام بينهما لرفض المشيشي تدخل الرئيس في ترشيح وزائه، واشتد الصدام بينهما لرغبة سعيد الاستئثار بالسلطة، إلى أن تم الانقلاب عليه بعد عام من تكليفه، وضربه وإهانته في قصر قرطاج، مقر الرئاسة، كما ذكر موقع ميدل إيست آي البريطاني.
لقد أصبح جليا بعد انقلاب سعيد على الديمقراطية، وردود الفعل العالمية الخجولة تجاهه، أن الدول الغربية لا تريد أن تطرق الديمقراطية أبواب الدول العربية أو تنعم شعوبها بالحرية وتعتاد عليها، وأن الديمقراطية حكر على الشعوب الغربية فقط وممنوع لغيرها الاقتراب منها؛ فالغربيون يدعمون الحكام الطغاة والمستبدين في المنطقة، وما يرددونه من نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم الثالث ما هي إلا شعارات زائفة لتجميل وجههم الاستعماري القبيح.
لا شك أن الوضع في تونس، وما اتخذه سعيد من قرارات أحادية متتالية وإقالة مسؤولين كبار في الدولة وفصل وتسريح لموظفين في الحكومة، وإحالة مسؤولي أحزاب إلى المحاكمة بتهم التمويل الخارجي، واعتقال نواب.. إلخ، لا يوحي أبدا بالتفاؤل، بل إنه يؤشر إلى ما هو أخطر في المستقبل القريب، من حملات اعتقال أكبر لسياسيين وصحفيين ونشطاء. ولقد بدأت تظهر بوادرها باعتقال النائب المستقل ياسين العياري من منزله ونقله إلى جهة غير معلومة. وكان العياري قد أكد ان قرارات قيس سعيد هي انقلاب واضح تم تخطيطه وتنفيذه من قبل فرنسا والإمارات، وأن الرئيس كان مجرد أداة.
ولم يمض يوم على اعتقاله حتى لحق به النائب ماهر زيد، لرفضه قرارات وسياسات سعيد، ثم لحق بهما أربعة نواب من ائتلاف الكرامة، ثم تم وضع النائب العام تحت الإقامة الجبرية!
ولسوف نرى في الأيام القادمة قتلا خارج القانون، وقمعا للحريات والصحافة وتكميم للأفواه، وإن كانت قد بدأت ملامحها تظهر بوضوح؛ بإقالة مدير التلفزيون كي يكون الإعلام تحت سيطرة الديكتاتور، وغلق مكاتب قناة الجزيرة، واعتقال عدد من الصحفيين وكسر كاميراتهم، ومصادرة موبايل مراسلة "عربي21" وغيرها، لحجب نقل الحقيقة للعالم.
وطبقا لكتالوج الانقلابات العربية، فسوف تُحل بعض الأحزاب وتُجتث أخرى وعلى رأسها حزب النهضة، وهذا مطلب أساسي لقوى الثورة المضادة. فابن زايد وابن سلمان يضمران الكراهية والحقد على ما يسمونه الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، ويناصبانه العداء ويحاربونه في كل أصقاع الأرض ويريدون محوها من الوجود.
فقيس سعيد رغم نزعته الداخلية للاستئثار بكل مفاصل الدولة وحلمه الكبير في أن يكون الرجل الأوحد في الدولة، كحال كل الرؤساء العرب وسعى إلى هذا سعيا حثيثا، حيث نصّب نفسه في نيسان/ أبريل قائدا أعلى للجيش ولأجهزة الأمن الداخلي في البلاد، بينما الدستور يضع الشرطة تحت إمرة رئيس الوزراء، وأبدى رغبته المبكرة في تغيير الدستور كي يكون النظام رئاسيا يمكّنه من السيطرة على كل مفاصل الدولة، إلا أنه لم يكن باستطاعته القيام بانقلابه هذا بمفرده، وبدون دعم خارجي سواء كان إقليميا أو دوليا.
وقد انفرد موقع "عربي21" بنشر خبر أن السفير الأمريكي في تونس "دونالد بلوم" طلب من الرئيس قيس سعيد مغادرة ضباط المخابرات المصريين والإمارتيين الموجودين في تونس، قائلا إن الأخيرين رافقوا عملية الانقلاب.
لا أرى نقطة ضوء في النفق المظلم الذي أقامه سعيد وأدخل التونسيين فيه. قيس سعيد خدع الكل بشعاراته الزائفة عن فلسطين ومعاداته للكيان الصهيوني، وها هو اليوم يعود لنغمة الشعارات والخطابات الشعبوية
للأسف، فإني لا أرى نقطة ضوء في النفق المظلم الذي أقامه سعيد وأدخل التونسيين فيه. قيس سعيد خدع الكل بشعاراته الزائفة عن فلسطين ومعاداته للكيان الصهيوني، وها هو اليوم يعود لنغمة الشعارات والخطابات الشعبوية، من نوعية محاربة الفساد وأخذ أموال الفاسدين ليعمر بها الأحياء الفقيرة، ويدغدغ مشاعر الفقراء بأنه نصيرهم وعون لهم، ليكسب تعاطفهم وتأييدهم لانقلابه الغادر.
سعيد لم يُسعد الشعب التونسي، بل أسعد قادة الثورات المضادة في أبو ظبي. وقد عبرت وسائل إعلامها من صحف ومواقع إخبارية وقنوات تلفزيونية وكتائب إلكترونية عن هذه السعادة الغامرة، مع ترديد النغمة المضللة: "سقوط الإخوان" في تونس، وليس سقوط الديمقراطية!!
لقد أشرقت شمس الحرية على العالم العربي من تونس عام 2010، وأفلت وغاب عنها القمر عام 2021 بفعل المؤامرات الصهيوأمريكية العربية، التي ترفض أن تقوم لكرامة الشعوب وحريتها قائمة، فهل لها من قيامة جديدة؟!
هذا ما ستكشفه لنا الأيام وما تحمله في طياتها من أحداث.
twitter.com/amiraaboelfetou