"ذنب المتهمين" في قضية "خلية إمبابة" في رقبة الدفاع، الذي من الواضح أنه يتحدى الملل!
فالقضية لم تكن معروفة إعلامياً، ولم تكن من القضايا الكبرى التي تنظرها المحاكم بعد الانقلاب العسكري، ولم يتم توجيه الاتهام إلى المتهمين بالضلوع في أي فعل مادي مخالف للقانون، غير أنهم يتبنون الأفكار المتطرفة، ولهذا فإن المحكمة أخلت سبيلهم، ويحضرون بالقفص في يوم الجلسة ثم يغادرونه إلى بيوتهم. لكن مع هذه الضجة الإعلامية، لا أعتقد أنهم سيحصلون على البراءة المستحقة. والقضاء
المصري استقر في أحكامه على أن تبني الأفكار المتطرفة في حد ذاته ليس جريمة ما لم يكن هذا مرتبطاً بارتكاب أعمال مادية يجرمها القانون، ولهذا صدرت أحكام البراءة لتنظيمات مثل التنظيم الناصري المسلح والتنظيم الشيوعي المسلح أيضاً!
لقد أكد المتهمون في التحقيقات أنهم لا يتبنون أفكار تنظيمات بعينها، مثل القاعدة وداعش، وأنهم يستمعون للشيخين حسان ويعقوب. وهم هنا لم يكونوا يتحدثون عن أفكار مجهولة، بل كانوا يضربون المثل بعلمين في مجالهما، لا يحسبان على أفكار التكفير والقتل. وكان يمكن الاكتفاء بسطر واحد من الدفاع للتأكيد على براءة المتهمين، الذين لم ينسب إليهم أي فعل جنائي، ولو بالمشاركة في المظاهرات، لولا أن المحامين أمسكوا في هذا القول بأيديهم وأسنانهم ومن ثم كان طلبهم من المحكمة
استدعاء محمد حسان ومحمد حسين يعقوب للشهادة. وهو أمر مرده عندي إلى "النوايا الطيبة"، فلم نشاهد محاولة من الدفاع لاستغلال هذا الزخم الإعلامي حول شهادة الشهود للتدافع وإثبات الحضور، فقد ظل بعيداً عن الصورة، فلم يكن دافعه الشهرة - إذن - وإن كان الطريق إلى جهنم مفروشاً بالنوايا الطيبة!
فقد جاء المحامون بالشهود وتركوهم للقاضي، وهذا أمر ليس مسبوقاً في تاريخ الشهادات من هذا النوع، إذ يتولى الدفاع والنيابة توجيه الأسئلة، والمحكمة لها الحق في الاعتراض على السؤال أو إعادة صياغة سؤال!
شهادة يعقوب:
الجهل بموضوع القضية كان سبباً في أن البعض اعتقدوا أن
الشيخ محمد حسين يعقوب قد تنكر لأتباعه، ومن ثم كانت الحملة عليه عبر منصات التواصل الاجتماعي، مع أن العلاقة بحسب المتهمين هي علاقة فكرية وليست تنظيمية، فلم يدّعوا أن لهم علاقة شخصية بالشيخ يعقوب وكذلك الشيخ محمد حسان. ولم يكن الجميع يتمتعون بالنوايا الحسنة في هذا الهجوم، الذي استهدف يعقوب كما استهدف الآن محمد حسان، ووصل الحال إلى ادعاء البعض أنهم صدموا فيهما، وكأنهم يتحدثون عن شيخ الإسلام العز بن عبد السلام!
فإذا كان المصابون بالصدمة بالفعل كانوا يعرفون يعقوب وحسان، لعلموا أنهما ينتميان لفكر ديني لا يصطدم مع الأنظمة ويبتعد عن السياسة، وهذا ما ضمن لهما حضوراً عبر المنابر الإعلامية. وفي اعتقادي أن هذا الادعاء يستهدف إحراق الأرض، فلا تكون الاستقامة السياسية والنضال الديني إلا من نصيب تنظيم بعينه، لتكون هذه الحملة امتداداً لحملة التخويف من التيار الديني الذي ينتمي له الشيخان، وقد بدأ هذا على قاعدة التنافس بعد الثورة.
فلم يكن سراً أن
الإخوان المسلمين قد وظّفوا هؤلاء الذين بدوا بهيئتهم وخطابهم للنخبة كما لو كانوا قدموا تواً من صحراء نجد، وإذ تزعمت الجماعة التصويت على التعديلات الدستورية بـ"نعم" فقد تراجعت خطوة للخلف، ليبرز الخطاب السلفي المخيف، الذي يتحدث عن أمر مرتبط بالرأي والحرب والمكيدة بقواعد الحرام والحلال، وكأن من سيصوت على هذه التعديلات بـ"لا" ويعتقد فكرة "الدستور أولا"، سيبعث يوم القيامة وقد كتب على جبينه آيس من رحمة الله!
وإذ كان الإخوان من الداعين لجمعة الشريعة والشرعية، فعندما حشد السلفيون اختفوا هم وتركوهم لمصيرهم، وكان الحضور في ميدان التحرير للقوم، بلحاهم الطويلة وملابسهم القصيرة، غريباً على المشهد السياسي، مما جعل الإعلام يطلق على تجمعهم "مليونية قندهار"، فلم يميز الناس بين "ميدان التحرير" و"جبال تورا بورا"!
وقد نجحت مهمة التخويف من هؤلاء الذين وفدوا من عصور ما قبل التاريخ، عندما جرت الإعادة في الانتخابات البرلمانية بين عبد المنعم الشحات (أحد رموز التيار السلفي)، وبين مرشح جماعة الإخوان المسلمين في الإسكندرية، فخصوم التيار الديني بما في ذلك المسيحيون اندفعوا لانتخاب مرشح الإخوان، باعتبار أن بلاء أهون من بلاء!
استقامة السلفيين:
وجاء الدور للرد، فقد استقام السلفيون أكثر مما ينبغي وهذّبوا لحاهم، وارتدوا ملابس الفرنجة، ثم ذهبوا يقدمون أنفسهم للدوائر الغربية وسفارات الدول الأجنبية على أنهم بديل جاهز للإخوان. وهذه الدوائر تدرك ما لا يدركه النظام العسكري الآن، وإن كان يدركه النظام البوليسي في عهد مبارك، من أن المجتمعات العربية لا يمكن نزع الدين منها. فدوائر الاستخبارات الغربية كما الحكم البوليسي البائد لا تعمل على إلغاء الحالة الدينية، إنما تعمل على "هندستها"، وإذا كان الاتجاه هو طي صفحة الإخوان، فلا بد من حركة بديلة تملأ الفراغ. وكان السلفيون ينتظرون هذه اللحظة بعد الانقلاب، فاعتقدوا أن أيامهم بدأت، ولم يكونوا يعلمون أن سلطة الحكم العسكري تؤمن بالفراغ الكامل،
ليصبح السيسي هو "الحالة الدينية" الوحيدة!
وهذا هو الخطأ الذي ترتكبه سلطة حكم لا تؤمن إلا بالقوة وتفتقد للخيال، ولا تدرك أن "دين الدولة" لا يملأ الفراغ، ولا بد من اعتماد حالة ليست ملتصقة بالسلطة. وهذا الجهل هو الذي دفع لإطلاق النار على الشيخين يعقوب وحسان، فبدا الحاكم العسكري كما لو كان يعمل بالأجرة لدى جماعة الإخوان المسلمين!
النظام العسكري، مثله في التعامل مع الأفكار مثل اليسار العربي المراهق، يرى أنه ما دام خصومه هم الإخوان فلا بد من تسفيه كل الرموز والشعارات الدينية، لاعتقاده أن ما يفعله يدخل في إطار سياسة تجفيف المنابع، ما دام "الالتزام الديني" يمثل رصيداً انتخابيا للإخوان المسلمين، ولا يدرك أنه هنا يعمل لخدمتهم، عندما يطلق النار على رموز التيار المنافس. وما دام القضاء على "الحالة الدينية" من المستحيل، فإن هذا العداء سيصب حتماً لصالح جماعة تبدو وكأنها تنظر لكل تصرف لنظام
السيسي في انتظار خراجه، كما حديث السحابة وهارون الرشيد!
ومن هنا يفهم هذا التوافق على
الهجوم على الشيخين حسان ويعقوب، وتقديمها للرأي العام على أنهما فاقدان للثقة والاعتبار، وليسا أهلا لالتفاف الناس حولهما!
وكما خرجت شهادة الشيخ محمد حسين يعقوب عن حدود موضوع الدعوى، فهذا هو ما حدث في شهادة الشيخ محمد حسان، الذي وجه إليه القاضي أسئلة لا تفيد في القضية المعروضة عليه، وتوجيه أسئلة لا معنى لها مثل سؤاله عن "النور والكتاب المبين"، وعن مقولة "لحوم العلماء مسمومة"، والفرق بين العالم والداعية، ومثل أسئلته الموجهة ضد الإخوان!
ولم نسمع صوتاً للدفاع يقاطع القاضي، أو يسجل موقفاً بإثبات هذا التداعي. وبدت السلطة كما لو كانت إلى الآن تعمل حساب قوة الإخوان، فتستغل الموقف في دفع الشيخ حسان في اتجاه تشويههم عندما يقول إنهم رفعوا شعار الشرعية أم الدماء، وهذا يتنافى مع صيحة ذبابه الإلكتروني بأنه إن كان قد فشل في البر والبحر فيكفي أنه "خلصنا من الإخوان"! فبعد سبع سنوات من حرب الإبادة، لا يزال الإخوان هدفاً له يعمل من أجل إقصائه، ولو بتوظيف شهادة الشيخ حسان، بحيث يتم تقديمه للناس جباناً لا يقوى على قول الحقيقة في الدعايات المضادة، ويخضع للقاضي بالقول، ليحقق هدف أهل الحكم - بالتالي - بتفريغ المشهد من الحالة الدينية ليمثلها عبد الفتاح السيسي بشخصه وصفته، فيكون هو الدين والدين هو. فمن غيره يكلمه الله، كما كلمه من قبل، عندما قال له: "هخلي معك البركة ووريني هتعمل ايه لبلدك".. تعالى الله عما يصفون علواً كبيرا.
إن سياسة إحراق الأرض لن تكون نتيجتها أن ينفض الناس من حول الإخوان وشيوخ السلفية، ليلتفوا حول "كليم الله"، ولكنها ستمثل "زاداً" و"زواداً" لجماعات التكفير والإرهاب!
إن الحكم العسكري يطلق النار على قدميه!
twitter.com/selimazouz1