مفكر سوري: الولاء والبراء مصطلح طارئ في الفقه الإسلامي

يقدم المفكر والباحث السوري، الدكتور محمد حبش المتخصص في العلوم الشرعية، نفسه بوصفه أحد دعاة التجديد الديني، والتنوير الإسلامي، مؤكدا أن منهجه في التجديد يرتكز "على إيمانه بأن الدين قيم متطورة، وهي تؤثر في الحياة وتتأثر بها، وتوضيحا لذلك كتب رسالته المعنونة بـ"رسالة التجديد".

الدكتور حبش مع تخصصه الدقيق في العلوم الشرعية، وتكوينه الديني في مدرسة الشيخ أحمد كفتارو، مفتي سوريا السابق، إلا أن مشروعه التجديدي يدعو إلى تجاوز جملة من مقررات المنظومة الأصولية الدينية بمرجعيتها المذهبية التاريخية والسائدة في زماننا، الأمر الذي أثار عليه علماء كبارا ومشايخ مشهورين، رأوا في أطروحاته وأفكاره خروجا على تلك المنظومة، وتمردا على مقرراتها.

يتبنى حبش فكرة تعددية الأديان، ويدعو إلى الإخاء والتعاون بينها، وهو ما حمله على اعتبار الإسلام دينا من بين الأديان، وليس فوقها، وينتقد بشدة رأي وسلوك "من يريدنا أن نستمر بالرهان على إلغاء العالم، ووضع الإسلام في موقع الدين الرافض لكل تعددية، والمصر على ممارسة الصراع مع الأديان، وهو غافل عما تجره هذه الرؤية الإقصائية من كوارث وحروب أبسطها وأوضحها حروب الفتح الإسلامي والحروب الصليبية، فكلاهما كانت حروبا ماحقة سوداء" على حد تعبيره.

وبوضوح تام، وبلا تردد انتقد بشدة في حواره مع "عربي21" مفهوم الولاء والبراء، ووصفه بـ"أنه بدعة ضارة وثقافة غير إنسانية، مفصحا عن أنه "ببساطة يؤسس للقطعية مع أكثر من تسعين بالمائة من البشر وكثير منهم جيرانك وإخوانك وزملاؤك، وهذا خطيرا تماما على المجتمع، ومدمر للوجود الإسلامي في العالم حيث سينظر إلى الجاليات الإسلامية كتكتلات عدوانية همشرية لا ترى في المجتمع من حولها إلا عدوا يجب البراءة منه، ولا تجوز موالاته ولا احترامه..".

ودعا المفكر السوري إلى إلغاء الحدود الشرعية الواردة في القرآن الكريم، واستخلافها بأحكام تنسجم مع مواثيق الأمم المتحدة، ومبادئ حقوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويشرح فكرته بأنه لا "يرى الآيات التي تحدثت عن قطع السارق وصلب المارق، وكذلك الحديث عن رجم الزاني، بأنها نصوص سرمدية في الزمان والمكان، وإنما هي محكومة بظروف وشروط يعرفها أهل الحق والقانون وعلماء الجريمة والعقاب في كل عصر، ولا يوجد أي معنى للتمسك بآلة العقاب التي كانت سائدة في ذلك العصر الغارب في التاريخ..".

ولفت إلى تأثره بأفكار وأطروحات الشيخ السوري جودت سعيد الذي عُرف بدعوته إلى نبذ العنف، ويصفه بأنه "رجل سبق عصره، وهو يتحدث برسالة السلام في عصر الدم، ورسالة الحب في عصر الحرب، وهو لا ينطلق من فراغ وأمانٍ، بل ينطلق من تقدير حضاري حكيم ورسالة واعية، وهو يتحدث عن الإسلام كما يمكن أن يزدهر في بلاد الديمقراطيات والحريات والكرامة، وأنه نهج منهجه في كتابه (إسلام بلا عنف)، لأنه خير من شرح هذه الحقائق".

في ما يأتي الجزء الثاني والأخير من الحوار مع الدكتور محمد حبش:

س ـ دعوت في كتابك (العقوبات الجسدية وكرامة الإنسان.. نحو فقه إسلامي مناهض للتعذيب) إلى إلغاء الحدود الشرعية الواردة في القرآن الكريم، واستخلافها بأحكام تنسجم مع مواثيق الأمم المتحدة، ومبادئ حقوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. فما هي خلفيات ومبررات تلك الدعوة؟

 ـ بالفعل فأنا أرى الآيات التي تحدثت عن قطع يد السارق وصلب المارق وكذلك الحديث الذي تناول رجم الزاني، لا أرى هذه النصوص سرمدية في الزمان والمكان وإنما هي محكومة بظروف وشروط يعرفها أهل الحق والقانون وعلماء الجريمة والعقاب في كل عصر، ولا يوجد أي معنى للتمسك بآلة العقاب التي كانت سائدة في ذلك العصر الغارب في التاريخ، بعد أن وفرت الحضارة أدوات للإصلاح العقابي لم تكن متوفرة آنذاك وبات اللجوء إليها أكثر إنسانية ورحمة وأكثر فاعلية في قمع الجريمة كما تدل على ذلك الإحصائيات المتخصصة في الجريمة والعقاب.

شخصياً لا أرى التحول في أداة العقاب أكثر من التحول في أداة الأذان من الصوت إلى الميكرفون، وهو كالتحول في آلة الحج من المشي رجالاً وعلى كل ضامر إلى ركوب الطائرات والسيارات، كلها وسائل وأدوات، والمهم أن تبقى الفصيلة محروسة والرذيلة مطاردة، ولن يتغير شيء من الحكم في تحريم السرقة والزنا والقذف والحرابة ولكن الأدوات تتغير.

لقد أنحزت طبعيتن من كتابي العقوبات الجسدية وكرامة الإنسان وأعتقد انه أسهم إلى حد جيد في عقلنة الخطاب الإسلامي وتخليصه من عبادة الماضي، ووجوب التحول إلى مقاصد الإسلام بدلاً من ظاهر النص الذي تجاوزه الفقه الإسلامي نفسه منذ قرون كثيرة.

س ـ تدعو إلى ثقافة إنسانية عابرة للمذاهب والطوائف والأديان، وتصف الولاء والبراء بأنه بدعة ضارة وثقافة غير إنسانية.. كيف تتجاوز الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المقررة لمبدأ الولاء والبراء كما هو ثابت وراسخ في المنظومة الأصولية؟

 ـ الولاء والبراء مصطلح طارئ في الفقه الإسلامي، ولم يكن معروفاً في عصر النبوة، وقد اشتهر في العصر الحديث بشكل كبير من خلال دعوة الخميني لإقامة مظاهرات البراء والولاء في الحرم المكي وهي المظاهرات التي كانت تحشد الحجاج ليهتفوا بالبراءة من أمريكا وإسرائيل بوصفهما الشيطان الأكبر، وبالتوازي مع هذها الخطاب كانت الحركات الأصولية المتشددة في الجانب السني تنادي بالشيء نفسه أيضاً وتؤسس لتربية أبنائها على الولاء والبراء.

والولاء هو موالاة المسلمين، والبراء هو البراءة من الكافرين، ولا نحتاج أي تكلف لنفهم أن الكافرين المقصودين هم كل الجنس البشري ما عدا الملتزمين بالكتاب والسنة من المسلمين.

إنها ببساطة تؤسس للقطيعة مع أكثر من تسعين بالمائة من البشر وكثير منهم جيرانك وإخوانك وزملاؤك، وهذا خطير تماماً على المجتمع، ومدمر للوجود الإسلامي في العالم حيث سينظر إلى الجاليات الإسلامية كتكتلات عدوانية همشرية لا ترى في المجتمع من حولها إلا عدواً يجب البراءة منه ولا يجوز موالاته ولا احترامه ولا الإيمان بنظمه.

طبعاً مثل هذه الثقافة ضارة ومؤذية، وهي تجعل المسلم في صراع كراهية مع البشرية كلها، وربما يمكن التعبير عن هذه النظرة الإقصائية العجيبة بالحديث المشهور أن الله سيدخل إلى النار من كل ألف 999 من البشر!

وهذه النظرة السوداء في تحريم الموالاة ووجوب البغض في الله لغير المسلمين هي ثقافة ضارة بكل تأكيد وهي تلقي أول ما تلقي بالنبي عليه الصلاة والسلام في دائرة الاتهام، فقد والى المطعم بن عدي ودخل مكة في جواره وكان مشركاً، ووالى النجاشي وأرسل الصحابة إلى جواره وأوصاهم بنصرته وكان نصرانياً، وكانت علاقته بالمقوقس الملك القبطي على أحسن حال وقبل هداياه وأوصى بالقبط خيراً... وكان تحت حماية أبي طالب نصف عمر الرسالة وهو على ملة عبد المطلب.... وانتصر لخزاعة وهم مشركون وخاض فتح مكة بسبب ما تعرضوا له من ظلم.

هل سنكفر بكل السيرة النبوية ونعتبرها هراء ونفاقاً ومداهنة من أجل أن نلتزم هذه المنظومة الأخلاقية العجيبة التي أنشأها فقه متطرف في غمار حروب طاحنة يريدون لها أن لا تنتهي..

الولاء والبراء ثقافة حرب قد تبرَّر للمحارب في لحظة اشتباك الرماح بالرماح، ولكنها عندما تتوقف الحرب تتحول إلى ثقافة كراهية تمنع قيام السلام في الأرض، وتوجب استمرار البغضاء والجنون، بل إنها تعتبر الكراهية نفسها عبادة لله وطاعة لرسوله!! كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداًوالله لا يحب المفسدين. 

س ـ تدعو إلى تجديد الفقه المتعلق بالمرأة.. ما هي أبرز انتقاداتك للفقه المعمول به حاليا في ما يخص المرأة.. وما هي معالم التجديد الذي تدعو إليه في هذا المجال؟

 ـ الآية المركزية في الوعي بالعلاقة بين الرجل والمرأة هي قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فهي تمنح المرأة الولاية التي تمنحها للرجل على قدم المساواة، وتجعل المرأة كالرجل في مكان القيادة والمشورة والنصيحة، وتؤكد أنها إنسان كامل يستحق كامل الحرية والإرادة ويتحلى بشروط الوعي والمسؤولية التي يمتلكها الرجل.

وتنطلق رسالتي في فقه المرأة من هذه النقطة تحديداً، وأرى بوضوح أن الرجل ليس مسؤولاً في شيء عن المرأة في زواجها واختيارها وحريتها فهي مخلوق كامل ومن حقها أن تختار ما تشاء في علمها وعملها وسفرها ولباسها وليست بحاجة لوصاية جندرية من أي كائن آخر.

لقد كتبت في هذا المعنى كتابي المرأة بين الشريعة والحياة منذ عشرين عاماً وواجهت عاصفة من النقد والتشكيك من شيوخ مشهورين، ولكنني أزداد ثقة بما كتبت لأنني في ثقتي بالمراة لا أخرج عن سياق النص القرآني والنبوي.

وبالطبع فإن الأفق الأهم في شان المرأة هو تمكينها من العلم والعمل والوظائف، والنجاح في الحياة الأسرية والعائلية، والتفوق في الإبداع والنجاح، ولكنني اعتذرت للمرأة المسلمة بشدة من تناول مسألة الحجاب وهي في تقديري مسألة هامشية لا تحتاج أن تتنزل فيها نبوة ولا كتاب بل هي اختيار يتصل بحرية الثياب وهذا آخر ما يجب أن نفرض فيه تدخل القانون والأمر والنهي.

لقد كتبت أن الحجاب أدب إسلامي كريم، دعت إليه الشريعة واستحسنته، ولكن الخيار فيه للمرأة وهي تملك حريتها واختيارها وقرارها ولم يجعل الإسلام الحجاب من أركان الإيمان الستة ولا أركان الإسلام الخمسة، ولم يذكر أي فقيه معتبر أن ترك الحجاب من الكبائر، وحين جمع الإمام الذهبي الكبائر في كتاب واحد وبلغ بها السبعين من الكبائر لم يذكر فيها السفور الذي اعتبر حقاً للمرأة لا تملك فيه الدولة ولا الأهل ولا الزوج أي سلطة إجبار.

وبعيداً عن الأدلة العقلية والاجتماعية، فإن كل ما ورد في لباس المرأة إنما ورد على سبيل التحسين والندب والاستحباب، وظل يتيح هامشاً كبيراً للاختلاف التأويل، وليس على سبيل الأمر والوجوب، يمكنني القول بعبارة دقيقة على قواعد الأصوليين وشروطهم: إن ما ورد في فرض الحجاب ووجوبه نوعان: صحيح غير صريح أوصريح غير صحيح، ولا يخرج في النهاية عن حق المراة واختيارها. 

من الواضح تأثرك الكبير بما دعا إليه الشيخ جودت سعيد في دعوته المركزية إلى نبذ العنف.. ولك كتاب بعنوان (إسلام بلا عنف).. فما هو محتوى هذه الدعوة.. وكيف ترد على من يعترض عليها وفق ما دعا جودت سعيد بأنها دعوة لإبطال الجهاد وتجميد أحكامه؟. 

جودت سعيد رجل سبق عصره، وهو يتحدث برسالة السلام في عصر الدم، ورسالة الحب في عصر الحرب، وهو لا ينطلق من فراغ وأماني بل ينطلق من تقدير حضاري حكيم ورسالة واعية، وهو يتحدث عن الإسلام كما يمكن أن يزدهر في بلاد الديمقراطيات والحريات والكرامة. 

وفي كتابي إسلام بلا عنف نهجت منهج الشيخ ورسالته، وقناعتي بأنه خير من شرح هذه الحقائق، ومع أنني لا أحمل أي وهم في إمكانية أن يتبنى القادة في بلادنا هذه الأفكار، بل سنستمر في عبادة القوة والسلاح وهذا ما مارسناه على الأقل في السنوات العشر الدامية من هذا الربيع العربي البائس، ولكن لا بأس، فليس من مهمة الحكيم أن يطبطب على رغائب الناس ويكتب ما يطلبه الجمهور، بل إن رسالته في شرح الحقيقة كما يراها والمراهنة على قيامها، والأيام هي التي ستحكم بصواب ما دعا إليه أو رشد ما طالب فيه.

هل كان يمكن أن نقاوم العدوان الإسرائيلي والغزو الأمريكي بأفكار جودت سعيد؟ بالتأكيد لا، ولكن بكل يقين كان يمكن أن لا تحدث هذه الحروب أصلاً لو كانت ثقافة المجتمع هي ثقافة السلم والحب التي يبشر بها جودت سعيد، وهي بالضبط ما بشر به الأنبياء جميعاً.

الرسول الكريم لا يختلف عن المسيح في رسالته، وهو خطاب الأنبياء جميعاً، ولكن علينا أن لا نخلط الخطاب النبوي الديني الرباني بما صدر تحديداً عن النبي محمد والنبي موسى في غمار تصديهم لمسؤولية بناء دولة، وقد نجح الفقهاء في التمييز بين هذه التصرفات وأشار القرافي في الفروق بدقة إلى الفرق بين تصرف النبي بوصفه وحياً ورسالة، وبين تصرفه كقائد زمني، ولكن كيف نهرب من التناقض؟

لقد خاض النبي الكريم خمس محاولات لبناء الدولة في مكة والطائف والحبشة والحيرة والمدينة وتعرض فيها لاضطهاد عظيم ولكن المؤرخين جميعاً متفقون أنه لم يرق قطرة دم واحدة، ولم يستخدم أي سلاح ولا حتى سكين مطبخ، وهذا بالضبط شرط بناء الإيمان والوعي.

أما بناء الدولة فهو أمر آخر، وحين تصدى لهذه المسؤولية واجه ثمانية وعشرين غزوة نجح في تحويل أربعة وعشرين منها إلى تحالفات ومصالحات، وخاض العنف أربع مرات دفاعاً عن حياته وحياة أصحابه.

قناعتي أن ما قام به الرسول كقائد زمني من الحرب والجهاد يمكن تغييره بسهولة خلال تغير الأزمان، فالجهاد هو الدفاع الوطني الذي تنهض به الدول المحترمة للدفاع عن أبنائها، ويجب أن نتطور وفق القانون الدولي وتجارب الإنسان الناجحة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقوانين الحرب كلها تطورت وباتت محكومة بالقانون الدولي، وعلينا أن نتحول إليه على الرغم من رواية تصرفات الحرب على يد الرسول نفسه أو النبي موسى نفسه، فهذا كان شرط الزمان، ونحن في زمان مختلف.

أما القيم الكبرى للأنبياء التي صدرت عنهم بمسؤولية الوحي من الدعوة للحب والخير والجمال والسلام فهي قيم باقية لا تزول.

إقرأ أيضا: باحث يدعو لعقلنة الخطاب الإسلامي وتخليصه من عبادة الماضي