هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أكد الإعلامي والشاعر الفلسطيني محمود حامد، أن القضية الفلسطينية احتلت مكانة كبيرة عابرة للقارات والأزمنة، باعتبارها قضية تحرر وطني.. وأن دولة "إسرائيل" التي تأسست على أرض فلسطين، ليست في نهاية المطاف إلا حركة توسع استعماري أوروبي وأمريكي في القرنين 19 و20 للسيطرة والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية على المنطقة العربية.
وشدّد محمود حامد في حوار مطول مع "عربي21"، أن إسكان الصهاينة على أرض فلسطين وإجلاء السكان الأصليين منها؛ أي الفلسطينيين، الذين أُجبِروا بقوة السلاح الأوروبي على الارتحال، والتشرد من ناحية أخرى، فشل إلى حد الآن في انتزاع هوية الفلسطيني وانتمائه إلى أرضه وتاريخه.
وأشار إلى "أن الاستعمارالاستيطاني الصهيوني في فلسطين، هو اقتطاع ظالم لأرض شعب فلسطين، حصل بقوة ودعم القوى الاستعمارية الأوروبية".
وقال: "خلق إسرائيل إنما كان إهانة للعرب كشعب، فضلا عن أن الدول الاستعمارية الأوروبية بررت وجودها كأداة قمع لحركة التحررالوطني العربية. ثم إن وعي الطبيعة الاستعمارية لدولة إسرائيل هو البدء الحقيقي في يقظة الوعي الأوروبي من سباته العميق".
وتحدث الشاعر الإعلامي والشاعر الفلسطيني، الذي واكب أحداث النكبة طفلا، وعاصر مختلف الحروب التي خاضتها إسرائيل وحلفاؤها ضد الفلسطينيين والعرب، عن فشل كل الجهود السياسية التي تسعى لإنهاء الحلم الفلسطيني بالتحرير والعودة، معتبرا أن القضية الفلسطينية مازالت هي القضية الأنصع.
وذكر أنه ما إن تأسست الدولة الصهيونية، حتى أعلن بن غوريون رئيس وزراء الحكومة الصهيونية في الأيام الأولى لرئاسته، أن تأسيس إسرائيل ليس سوى بداية للنضال من أجل تأسيس الدولة الموعودة "من النيل إلى الفرات". ولم ينكر أن دولة إسرائيل ليست هدفا بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق ذلك الهدف.
وسجّل أن إسرائيل ـ هي إحدى أقوى الدول عسكريا في منطقة الشرق الأوسط، وصاحبة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، والحائزة على أفضل تشكيلات الحرب الحديثة ووسائلها ـ قامت في عام 1948، وشنت حربا على الشعب الفلسطيني، وطبقت خططها البعيدة المدى للتطهير العرقي، الذي طبق بنجاح في ما يقارب 80% من أرض فلسطين، دون أن يكون لذلك أي أصداء عالمية أو إقليمية.
ولفت الانتباه إلى أنه لا يزال اليوم أكثر من ثلث الفلسطينيين يعيشون لاجئين تعساء في غالب الأحيان، من دون أن تقر لهم دولة الكيان الصهيوني بأي حق في العودة، على الرغم من صدور القرار 194، ومن دون أن تقدم الدول العربية على استيعابهم ومنحهم حقوق المواطنة الفعلية، مخافة من التوطين. فالشعب الفلسطيني أكسبته الكارثة التاريخية الجماعية التي حلت به منذ نكبة 1948، وهزيمة 1967، وعيا وطنيا، وهو ينتظر أن يفي المجتمع الدولي بوعده لإيصاله إلى الاستقلال ضمن دولة قابلة للحياة.
وفيما يلي النص الكامل للحوار:
س ـ لنبدأ من محمود حامد المواطن والإعلامي والشاعر والسياسي.. من يكون؟
ـ بعد نكبة 1948، كان عمري خمس سنوات عندما غادرت فلسطين، ومع ذلك فجيل مثلي عاش واقع النكبة والمأساة لحظة بلحظة، من حليب الأم الفلسطينية الذي تغذينا وتربينا عليه، نحن ومن جاء بعدنا من أجيال، ومن موثقي جذور وحبّ الوطن فينا الأجداد والآباء.
نزحنا من مدينة صفد في الجليل الأعلى إلى سوريا، التي استقبلتنا بصدورها وبيوتها وتقاسمنا معها شؤون الحياة وشجونها. تلقيت تعليمي الابتدائي والمتوسط والثانوي في مدارسها، ودرست في دار المعلمين بدمشق، وتابعت دراستي الجامعية بكلية الآداب في دمشق، ثم انتقلت مع البعثة السورية للجزائر كمدرس في مرحلة الستينيات من القرن العشرين، كما عملت صحفيا في جريدة الشعب الجزائرية.
ثم انتقلت للسعودية عاملا مع دائرة الثقافة الفرنسية "سوفراتيف" لتطوير التلفزيون السعودي، وعملت في الصحافة والتلفزيون وإذاعة الرياض، ثم أصبحت بمكتب حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" بالرياض في السبعينيات.
أصبحت شاعرا للكبار والصغار ونلت عدة جوائز عربية وعالمية، فأصدرت ثلاث عشرة مجموعة شعرية للكبار والبراعم، نلت جائزة آل نهيان للأطفال، وجائزة القدس للشعر / بيروت 2010.
من مجموعاتي للكبار "موتى على ضفاف المطر" اتحاد الكتاب العرب / دمشق 1975، أغان على شفاه الصنوبر/ اتحاد الكتاب العرب /1982، بيسان وزارة الثفافة دمشق/ 2002، الريح والزيتون وزارة الثقافة دمشق / 2005 ، ملف الشعر الفلسطيني مجلد أول 1100 صفحة لوزارة الثفافة الفلسطينية (2007 ـ 2010)، طفولة المجد والزيتون/ وزارة الثقافة دمشق2010، مسؤول جمعية الشعر في اتحاد كتاب فلسطين، وعضو في اتحاد الكتاب العرب.
س ـ كيف فهمت القضية الفلسطينية؟
ـ لم تحتل قضية لا في التاريخ القديم، ولا في التاريخ الراهن المعاصر، ما احتلته قضية فلسطين عبر زمانها القائم، وتناوب الأجيال وتعاقبها عليها / وطنا وذاكرة وانتماء، ما جعلها قدر الحياة الدائم.
في الذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية؛ على امتداد الخارطة العربية واحتلالها، مراكز البحث والهيئات الدولية، والأممية، لتغدو القضية الأخطر ودائمة الحضور، عبر هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وبقية الهيئات الدولية، تلك الهيئات صديقة كانت، وحليفة، أو عدوة، واستعمارية غاشمة.
عندما أخوض في موضوعة فلسطين؛ إنما أخوض فيه كواحد من أبنائها الذين مشوا على عهد الله، وعهد الأجداد والآباء، أنَّ فلسطين أرض عربية الجذور والهوى والتراب، منذ أزل الكنعانيين واليبوسيين، ومن جاء بعدهم ليستلم زمام فتحها ومفتاحها بتعاقب المفتاح والاستلام والتسلم، عبر تسلسل الوفادات التي حطت على أرضها، وعاشت فوق ترابها بتسلسل وطني عربي وانتمائي واحد.
من يبوس وكنعان وحتى الأيوبيين وما تلا من وفادات شاركت أهل وشعب الأرض سكناهم ومجاورتهم. أكد ذلك التاريخ الذي خطته الفتوحات والدم والشهداء، حتى سورة الإسراء القرآنية التي أوجزت في الدهر: ملكية الأرض؛ وما يحفّ بها من مقدسات، وما هو الوضع الذي عاشت عليه، وسيؤول لفترة ما لذاك الوافد من شتات الچيتو الصهيوني الوافد من ليل أوروبا، ومواطن أخرى في العالم، ليستعمرها بتفاهة نظرية أرض الميعاد.
والآن تسقط هذه النظرية بفعل الصمود الأسطوري لشعب فلسطين، وتسلسل كفاحه الدامي عبر الأبد، ونحن نشهد الآن بعد حوالي السبعة عقود وزيادة انهزام المشروع الصهيوني، وانكسار غطرسة القوة والهيمنة المسلحة المجرمة بدعم عالمي أعمى، أمام صمود وقدرة وطاقة الاحتمال التي عاشت في ضمير الأجيال الفلسطينية المتعاقبة وما تزال.
ويرينا القدر الإلهي أنَّ سطوة القوة والأحلام الزائفة، تمكث زمانا إلى أجلها وتنتهي. والعبرة، أنَّ في النهاية تعود الأرض لعباد الله الصالحين، ولمن يستحقها ممن مهرها بالدم والغالي النفيس، عبر الأجيال، لأنه صاحبها ووارثها ومرابطها للأبد. نحن قوم الجبارين، نقول للعالم الأعمى:
ليست فلسطين وطنا بلا شعب لتكون لشعب بلا أرض؛ لا وعد بلفور ولا مؤامرات الكون على فلسطين وشعبها، ولا نظرية بن غوريون الوهمية / المشؤومة القائلة في خمسينيات القرن الماضي، إنَّ الأجيال المتعاقبة ستنسى شيئا فشيئا أرضا اسمها فلسطين، والأجيال الكبيرة ستموت وتنتهي، ونحن مالكوها للأبد.
إن قبر بن غوريون سيبقى هنا يعيش كابوس العودة / إلى الأبد، من خلال الأجيال الشابة والطفلة / طير أبابيل فلسطين، الذين اجترحوا من المعجزات الميدانية والقتالية، والمقاومة، ما حرك أعتى عتاة العالم ليعيدوا النظر في أوهامهم الخاطئة أنَّ الصهيانة زبانية الشيطان، وأنَّ عرب فلسطين بتضحياتهم وشهدائهم ودمائهم أنَّهم هم أهل فلسطين، هم جذورها وتاريخها ونصرها وأبدها الخالد العظيم.
س ـ هل هذا يعني أن فلسطين النكبة انتهت؟
ـ نعم فلسطين المأساة والنكبة انتهت وغابت بعد قليل من النكبة لتحل محلها فلسطين الثائرة / المقاومة، التي أنتجت أروع أجيال الحياة ثقافة وعلما ومعرفة وشعرا.. هذا كله أنتج الحلم الفلسطيني الأروع في الدهر، حلم بدا شيئا موجعا فوق الوسائد وخيام الليل، ثم تحول لفعل مقاوم لم يشهد له التاريخ مثيلا، كنت أذهب لوالدي تاجرا في خان الشيح أحد مخيمات العودة على طريق مدينة القنيطرة الصامدة/ في العطل الصيفية / أنا ابن المدينة القادم من دمشق بطراوة ونداوة، أرى أبناء شعبي في مدارسهم / الخيام يرددون عائدون محفورة في قلوبهم وأعماقهم، وهم حفاة، عراة صامدون، أخلع نداوة وطراوة المدينة وألبس لبوسهم ونطوف المخيم ليلا بالمشاعل / عائدون / عائدون..
والدي وشريكه ذات يوم وأهل المخيم فوجئوا بي وبعشرة أطفال معي ركبنا حافلة المخيم بالقباقيب والشحاطات. دخلنا المخيم والناس وأبي يتفرجون علينا ضاحكين ،"مشدوهين لوين جايين"، بابا نحن من المخيم القريب إلى فلسطين نكمل الطريق إلى فلسطين الحلم، ومعي زينب الفلسطينية بنت السبع سنوات وأنا ابن عشر، وبقية الأطفال بين سبعة وعشرة أعوام، فيما بعد غنيت زينب في طهران وما تزال لوحتها هناك.
"زينب الفلسطينبة.. كم كان حلما أن أضمكَ يا أبي في العيدِ، أخطف قُبلة: أحلى من الريحانِ منكَ، وأنتَ: تخطف قُبلتين أن أحتويكَ بساعدين يتمايلان كوردتينِ على الضفاف كم كان حلما، أن أُجابهَ باسمكَ الدّنيا، وأمشي خلف نعلكَ.. لا أخاف لكنهم..؛ خطفوكَ منّي يا أبي.. قتلوا طيورَ الحلمِ في صدري وردّوني إليكَ، بلا يدين لم يدركوا، أنّي، حفظتُكَ يا أبي، في المُقلتين قدرا، وأنّي زينب الأخرى تجيء، وأنتَ تبعث في الحسين".. من مجموعة "أغان على ضفاف المطر اتحاد الكتاب العرب 1975".
س ـ في ضوء عقد بعض الدول العربية اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني، لا سيما مصر التي خرجت نهائيا من دائرة الصراع العربي ـ الصهيوني منذ عدة عقود مضت، وانهيار النظام الإقليمي العربي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في سمة 2003، وتصاعد وتيرة التطبيع بين الدول العربية مع دولة الاحتلال الصهيوني في سنة 2020، وتداعيات ذلك على القضية الفلسطينية التي أصبحت شأنا هامشيًا للدول العربية عموما، هل بات مطلوبا من الفلسطينيين إعادة بناء المشروع الوطني بعد التراجع الكبير في صفوف حركات المقاومة الفلسطينية؟ وهل لا تزال قضية فلسطين قضية قومية؟
ـ لعلّ من أخطر القرارات التي اتخذتها قمة الرباط عام 1974، وكنت أشرت إليها آنذاك في مقالة نشرت في صحيفة الخليج، هو اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني..
واضعو القرار لعبوا لعبة كم خفيت على الغالبية حتى تلك النخب المثقفة والمسيسة منها، بحيث بدأت كثير من المواقف منذ ذاك تتغير وتتراجع تجاه قضية الأمة المصيرية، وتتنصل من التزاماتها تجاه شعبنا وقضيته المصيربة، وفصلت منذ ذاك قضية فلسطين كقضية وطنية وقومية إلى قضية فلسطينية بحتة.
وهكذا تكون الضربة الأولى للقضية / الأم، فلم تعد قضية وطنية وقومية عربية، وانفصلت عن محيطها العربي، ولم تعد قضية استراتيجبة، وانحرف المسار بها بضربة أولى لتصبح قضية هامشية لا أكثر، لتتبعها أحداث الحرب الأهلية في لبنان في مرحلة السبعينيات من القرن العشرين، وخروج المقاومة من بيروت عام 1982، لتتبعها الضربات المتتالية: اتفاق أوسلو عام 1993، الذي أعاد القضية الأم للهامش المريب، وانحسار الوعي القومي والوطني عن قضية فلسطين للملابسات المريرة التي دخلت فيها القضية الفلسطينية .
وأصبح في كل مرّة يحصل عدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، تتعالى الأصوات العربية، لا سيما من أوساط شعبية، ومن أحزاب سياسية وطنية تندد بهذا العدوان الصهيوني أوذاك، لكنها تظل ردود أفعال يائسة لا تغير من الأمر شي ئافي واقع الصراع العربي ـ الصهيوني، حتى بعد أن انطلق ما بات يعرف في الخطاب السياسي العربي بـ"ثورات الربيع العربي"؛ إذ إنَّ هذه الثورات لم تطرح قضية تحرير فلسطين ومجابهة العدو الصهيوني على برنامج جدول أعمالها.
فالنظام الإقليمي العربي منهار في ظل مناخ جيوسياسي وإقليمي موات لإسرائيل أكثر من أي وقت مضى، حتى منذ إنشائها في عام 1948، فمصر أكبر دولة عربية المقيدة بمعاهدات كامب ديفيد تعدّ معركتها الرئيسة مع الإخوان المسلمين، وسوريا كدولة مواجهة أصبحت الآن ضعيفة ومنقسمة؛ بسبب الحرب التي تدور رحاها على أرضها منذ أكثر من عشر سنوات، أما حزب الله فهو "مشغول" في هذا الوقت بسوريا وحتى لبنان، وهو أيضا على شفا حرب أهلية أخرى، والعراق بات محطما بعد الاحتلال الأمريكي له منذ عام 2003، وانشغاله الآن بالحرب الطائفية والأهلية المستعرة بين السنة والشيعة، أما إيران، فهي معنية بإبرام الصفقة النووية مع الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز دورها الإقليمي، أكثر منها بالمجابهة مع إسرائيل.
"إسرائيل واقع استعماري"، هذا ما تجاسر على طرحه مكسيم رودنسون عام 1967. وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار أن إسرائيل هي جزء من "الظاهرة الاستعمارية "الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق. ويحار المرء في الانتقاء من بين التأكيدات العربية. فها هو عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" يحكي أفكاره كضابط في الثلاثين من العمر عند عودته من حرب فلسطين عام 1948: "لقد كان ذلك كله على توافق طبيعي مع الرؤيا التي رسمتها في ذهني التجربة. (فالمشرق العربي) يشكل منطقة واحدة تعمل فيها الظروف نفسها والعوامل نفسها، وحتى القوى نفسها المتألبة عليها جميعا. ومن البديهي أن تكون الإمبريالية أبرز هذه القوى. ولم تكن إسرائيل ذاتها سوى نتيجة من نتائج الإمبريالية".
إسرائيل في نظر العرب قاعدة امبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية. هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعا في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصر غريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي ـ الأمريكي.
من وجهة نظر الأيديولوجيا القومية العربية المعاصرة لا تزال قضية فلسطين قضية قومية عربية، لا قومية سورية أو فلسطينية. وهذا يعني أن احتلال فلسطين، ليس اعتداء على فلسطين حدود سايكس ـ بيكو، ولا على سكان فلسطين الذين صورتهم خريطة الاحتلال البريطاني، إنه اعتداء على العالم العربي كله، إذا اعتبرنا العالم العربي واحدا، والأمة العربية واحدة، رغم حدود سايكس ـ بيكو وكل حدود الاحتلال الاستعماري.
والمشروع الصهيوني لم يقم من أجل فلسطين، بل قام فيها ليحقق أهدافه العربية، ومنها تثبيت التقسيم الإمبريالي، وحفظ المصالح الإمبريالية، ومنع تحقيق الوحدة القومية والتحرر السياسي والاجتماعي. ومن ثم، فإن تحريرفلسطين ليس شأنا فلسطينيا، إنه شأن عربي. إلا إذا اعتبرنا خريطة سايكس ـ بيكو حدود وطن. فإذا ما وصلنا إلى هذه القناعة، لم تكن هناك حاجة للحديث عن معركة قومية عربية، ولاعن علاقة عضوية بين فلسطين والعالم العربي.
لقد كان من صلب المشروع الإمبريالي ـ الصهيوني، أن تتعامل قيادات الأقطار العربية مع كل قطر باعتباره وطنا، وأن تتعامل قيادات الطوائف كلّ باعتبار طائفتها "وحدة تامة"، فإذا ما انسجمنا مع هذا المطلب، انسجمنا مع المخطط الإمبريالي ـ الصهيوني.
ولما كانت فلسطين لا تحرر فلسطينيا، فإن تغليب القطري، يعني فقط البحث عن تسوية مذلة. وهذا ما تفعله القيادة الفلسطينية الرسمية اليوم. وإذا ما طرح الفلسطيني في مواجهة الصهيوني، أثارت القضية الشفقة العالمية؛ لأن الصهيوني المشرد، يشرد الفلسطيني المسكين. وما دام الفلسطيني لا يستطيع هزيمة الصهيوني هزيمة ساحقة وحده، لأن المشروع الصهيوني جزء من المشروع الإمبريالي، ولأن المعركة هي معركة هزيمة الإمبريالية الأمريكية أساسا، والكيان الصهيوني باعتباره جزءا من الهيمنة الإمبريالية، ولأن المستوطنين الصهيونيين في أرض فلسطين أكثر عددا من عرب فلسطين الباقين في أرضهم، وبسبب التفوق الصهيوني العسكري إلخ.. فإن الحل بالنسبة للعالم، لا يعدو أن يكون "تسوية" في أحسن الأحوال، إذا أصبح النضال الفلسطيني جديا إلى درجة تسمح بفرض تسوية، وإذا ساعد الوضع العربي والدولي في ذلك. أما عندما تطرح القضية على أنها قضية ثلاثمائة وخمسين مليون عربي، فإن الأمر يختلف، ويصبح التحرير واردا، والانتصار حتميا.
س ـ لذلك، فإن الحل الصحيح هو الحل القومي، والحل القومي يجب أن يغلب، لأنه الحل الوطني الوحيد. أما الحل القطري فهو التصفية، وهو ليس حلا وطنيا. فما معنى أن يتغلب الحل القومي؟
ـ إن هذا يعني:
أولا ـ إن تحرير فلسطين مهمة قومية، وإنه من مسؤولية كل مواطن عربي، وكل حزب عربي قومي، وكل قوة قومية. وإن هذا يعني أن يوضع التحرير في موقعه من المهمات القومية، وباعتباره هدفا رئيسا، لا يعلو عليه أي هدف آخر، من حيث الأهمية. وأن كل الإمكانات يجب أن تسخر لتحقيقه.
ثانياً ـ إن أي عمل في فلسطين لتحرير فلسطين، يجب أن يكون جزءا من هذا العمل الكبير، لا خارجه، ولا بموازاته، حتى يأخذ بُعدَه القومي، وقوته القومية، وحتى لا يتحول إلى عمل طفولي أخرق، أو استسلامي ضائع.
س ـ ما الذي حصل خلال سنوات الصراع مع العدو الصهيوني؟
ـ لقد حصلت مفارقتان:
الأولى ـ تراجع العمل القومي لتحرير فلسطين كثيرا؛ لأن الدول العربية جميعها أصبحت مع التسوية ومنخرطة في عملية السلام المتوقفة منذ سنوات عديدة، ولذلك عملتْ على التخلي عن الجهد القومي في تحقيق التحرير، كما حدث قبل عام 1948 وخلاله وبعده. وعلى الرغم من دخول الجيوش العربية حرب 1948، فإنها عمليا كرست وجود الكيان الصهيوني وقيام دولته، وتبنت القوى القومية صيغة العمل الفلسطيني الراهن، عندما رأت هذه القوى أنها ليست في وضع يسمح لها بخوض معركة التحرير مباشرة، وأن الرّد المباشر الهجومي على العدو الصهيوني، يهدد الأنظمة القائمة.
ولذلك، اختير أسلوب المجابهة المحدودة، عبر إنشاء م.ت.ف. بقيادة أحمد الشقيري، لتكون هذه المنظمة إطارا سياسيا، بلا قوة، أو عبر تبني حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) الناشئة. وأثبتت القوى الفلسطينية التي تبنتها القوى القومية وغير القومية، من المنظمة إلى "فتح"، ومن الشعبية إلى الديمقراطية، على اختلافها، واختلاف برامجها وتناقضها في قضايا كالتسوية إلخ.. أنها قوى عاجزة عن بناء القوة القادرة على قيادة الشعب نحو التحرير. وهذا العجز لا يزال قائما على الرغم من سيطرة حماس على قطاع غزة، ووجود مقاومة حقيقية تحاول أن تصد هذا العدوان، كما حصل منذ شتاء 2008-2009، وفي عام 2012، وهو عجز واضح لا لبس فيه. ولا نظن أن هناك من ينكر ذلك، وإن كان كل ذي علاقة يبرره.
والثانية ـ بروز قطرية فلسطينية، تحاول أن تجعل الفلسطينية "هوية قومية"، وأن تتحدث عن حدود فلسطين باعتبارها حدود وطن، وسمات الفلسطينيين باعتبارهم أمة. وبات شاغل هذه القطرية إنشاء كيان فلسطيني، مثل أي كيان عربي. ولما كانت الأرض محتلة، والشعب مشردا، وكانت القوى الفلسطينية العاملة من أجل فلسطين غير قادرة على التحرير، وغير مستعدة لانتظار الزحف العربي، أو العمل لقيامه، صارت محاولة إقامة الكيان عبر"التسوية السياسة"هي الهدف الوحيد.
في ظل هزيمة الحركة القومية العربية وتقهقر الحركة الاشتراكية على اختلاف تياراتها، وتعمق الطلاق التاريخي بين المجتمعات العربية والأنظمة القائمة، برزت إلى الواجهة السياسية والنضالية الحركات الإسلامية الجهادية، التي قدمت توجها إسلاميا جهاديا في المقاومة.
وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، انتشرت في "إسرائيل" انتشارا كبيرا القناعة الإيديولوجية التالية؛ أن الدولة الصهيونية أصبحت تمثل "خطّ تماس دامٍ" بين الغرب والشرق، بين الحضارة "اليهوديّة المسيحية" ـ وهذا اختراع غريب إذا ما اطّلعنا على تاريخ الديانتيْن ـ والحضارة الإسلاميّة. ولقد اعتبرت التيارات الأصولية المسيحية والصهيونية أن "إسرائيل" هي "موقع أماميّ للعالم الحرّ". وإذا كانت "إسرائيل" قد اكتسبت هذا المكان المميّز في الغرب، فذلك لأنّ الدولة الصهيونية تُعدّ إرادة إلهية. وقد حوّل ذلك الصراعَ العربي ـ "الإسرائيلي"، الذي كان في البدء ميدانيا وإذن سياسيا، إلى مواجهة ثقافية ودينية بين الغرب والإسلام. إنه خطرٌ داهمٌ على العالم أجمع، انتشار نهج "صدام الحضارات" الذي يمتص طبيعة المشكلات المتعلقة بالأرض والسيادة والمواطنية والاستيطان والتحرر والثروة والفقر والتنافس بين الأديان والفجوة الثقافية، ويحوّر فيها، وكلها مجسَّدة في الصراع العربي ـ الصهيوني.