هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي
الكاتب: أبو زيد شلبي
الناشر: مكتبة وهبة القاهرة.
عدد الصفحات: 340 صفحة
يتناول هذا الكتاب صفحات مختلفة من تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ويميل إلى الاختزال والتكثيف للإحاطة بأكبر قدر ممكن من المعارف حول الحضارة الإسلامية، ونظام الحكم فيها وعلومها وحياتها الاجتماعية والفكرية. ولكن من أكثر المواضيع طرافة وجدّة، بحثه في مؤسسات إدارة الحكم في التاريخ الإسلامي. فمعلوم أنّ الجزيرة العربية لم تعرف منطق الدولة قبل الإسلام، وأن الانتظام فيها والهوية كانا يحدّدان من منطلق قبلي أساسه مبدأ الدم.
ومع ظهور الرسالة المحمدية وفي المرحلة المدنية أساسا، ظهرت النواة الأولى للدولة التي ترتبط بوجود مؤسسات مهيكلة؛ فظهرت مؤسسة الخلافة بعد موت الرسولعليه الصلاة والسلام. فكانت "رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وفق التفتازاني. وكان يعهد إليها وفق ابن خلدون "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها"، أو "خلافة النبوة في حراسة الدين والدنيا" وفق الماوردي.
وبالتوازي مع هذه المؤسسة، ظهرت مؤسسات أخرى تعاضد الخلافة غالبا وتنافسها في الدور أحيانا، وكانت غالبا متأثرة بالحضارة الفارسية والبيزنطية، ثم ما فتئت تتدعّم وتتّخذ هويتها العربية الإسلامية برسوخ هذه الدولة وتقدم تجربتها. ويحاول هذا الكتاب أن يحيط بها، فيجمع مادته بصبر وأناة، من مصادر مختلفة ليشكل صورة لما كانت عليه إدارة الحكم عبر التاريخ الإسلامي.
1 ـ صحيفة المدينة اللبنة الأولى في التنظيم السياسي والإداري بالمدينة:
لتنظيم الحياة في المدن، وقد أضحت تستقبل الوافدين من أتباع الدين الجديد، أرسى الرسول مؤسسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ونظّم العلاقات بين الجماعات من خلال الصحيفة التي حدّدت مفهوم الأمة، وضبطت ما على كل عشيرة وشرّعت للتعايش وللأمن الجماعي، فمثلت اللبنة الأولى في التنظيم السياسي والإداري.
ومثل المسجد فضاء الاجتماع للتشاور ومقرا لاستقبال الوفود، فكان فضاء للعبادة أولا ولممارسة السلطة بمستوباتها التشريعية والتنفيذية القضائية في شكلها الجنيني ثانيا، حتى إذا ما توسعت الدولة وتحولت بفعل الفتوحات إلى إمبراطورية تتمدّد شرقا وغربا، ظهرت الحاجة إلى نظم تساير التوسع والتطور على مستوى تنظيم الدواوين وتجهيز الجيوش، وتعين الولاة والجباة والقضاة وضبط حسابات بيت مال المسلمين ومصارفه.
وأخذت المؤسسات الإدارية في التشكل، فظهرت الكتابة والدواوين والحجابة والوزارة. ولم تكن هذه المؤسسات ثابتة على مر التاريخ على اختلاف الأمصار، فكثيرا ما حدثت بينها تقاطعات وتداخلت وظائفها. وفصل [نظام الحكم] على اقتضابه، يقدّم لنا قاعدة بيانات مهمة لخصائص هذه المؤسسات، ويعرّفنا بأهمّ وظائفها وما عرفته من تطور.
2 ـ ظهور الكتابة والدواوين
بين المؤسستين تداخل في المهام ولكنهما لا يتماثلان، والكتابة أسبق والدواوين أشمل، فقد كتب كل من عثمان وعلي وأبي ين كعب وزيد بن ثابت للرسول، ما كان يبعث من الرسائل إلى الملوك والأمراء، ثم اتخذ أبو بكر من عثمان كاتبا لما يرسل للعمّال والقواد لمّا تولى الخلافة، وبظهور الدواوين وتطوّر مؤسسات الدولة أضحت الكتابة منصبا إداريا مهما، أعلاه مرتبة كتّاب الرسائل والخراج والجند والشرطة والقاضي.
أرسى الرسول مؤسسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. ونظّم العلاقات بين الجماعات من خلال الصحيفة التي حدّدت مفهوم الأمة، وضبطت ما على كل عشيرة وشرّعت للتعايش وللأمن الجماعي. فمثلت اللبنة الأولى في التنظيم السياسي والإداري.
وكان يطلق على الكاتب يد الخليفة ومستودع السر، ومنها تسمية الكاتب العام للهيئات في بعض البلدان العربية بـ"ـأمين السرّ". وخوّلت له منزلته في الدولة أن يوقّع على الرقاع نيابة عن الخليفة أو عن وزرائه في مرحلة لاحقة من تاريخ الدولة الإسلامية. ولم تعرف بعض الإمارات الإسلامية الوزراء، وإنما الكتاب كما الأمر بالنسبة إلى الدولة الطولونية. وأهم المؤسسات التي اقتضت الكتّاب الدواوينُ، تلك التي استحدثها الخليفة عمر أسوة بالتنظيم الإداري الفارسي. وقد كان يعهد إليها أمر التنظيم والأحصاء والتوثيق. فظهر ديوان الجند وديوان الخراج وديوان البريد، وكان كتّابها من الفرس أو الروم. ولم تعرّب إلا في عهد عبد الملك بن مروان سنة 81 للهجرة.
3 ـ الوزارة
يعود الباحث إلى الاشتقاق اللغوي ليفهم طبيعة هذه المؤسسة. وهو محق في ذلك في تقديرنا. فللمستوى المعجمي صلة متينة بالبعد الاصطلاحي، فيجدها بعضهم منحدرة من [الوَزر] وهو الملجأ والمعتصم. ومن ثمة كان الخلفاء يلتجئون إلى الوزراء للاستئناس بآرائهم وتدبيرهم. ويردّها آخرون إلى [الوِزر] بمعنى الثقل. ومن ثمة نظر إلى الوزير بكونه ذلك الحامل عن الخليفة أثقال الحكم وأعباءه. ويردها بعض ثالث إلى [الأزر] بمعنى الظهر ومنه المؤازرة والمساعدة. فالخليفة يقوي ظهره بوزيره. وفي جميع التقليبات اللغوية تنتهي إلى أنّ: "الوزير حبأ الملك الذي يحمل ثقله، ويعينه برأيه وتدبيره" وإلى أنّ "الوزارة أسمى الرتب السلطانية، واسمها يدلّ على مطلق الإعانة".
وللوزير صفات لازمة. ففضلا عن الحزم والصرامة، لا بدّ له من فضائل أخلاقية مميّزة كالأمانة والعفة والصدق وحفظ السر، وأخرى ذهنية كسداد الرأي والحكمة وصحة التدبير. ويبيّن الخليفة المأمون صفات الوزير. فيقول؛ "إني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذّبته الآداب وأحكمته التجارب، إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلّد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم وينطقه العلم وتكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء وأناة الحكماء وتواضع العلماء وفهم الفقهاء. إن أحسن إليه شكر وإن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه".
4 ـ ظهور الوزراء في الدولة الإسلامية
يرجع الباحث هذه إلى أصلها الفارسي. وبشيء من التعسف على التاريخ، يذكر أنها "كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" وفي عهد الخلفاء الراشدين، وحجته أنه كان يشاور أصحابه كما يشاور الحاكم وزراءه، حتى وسم أبو بكر بالوزير. ولكن، فعليّا، ظهرت هذه الوظيفة في عهد الأمويين لتعقّد مؤسسة الحكم وتداخل المهام في صلبها واتساع الدولة دون الاصطلاح أو التعيين الرسمي.
ويعلّل ذلك بما ينقله عن أثر "التنبيه والأشراف" للمسعودي، من أنّ ملوك بني أمية "كانت تنكر أن تخاطب كاتبا لها بالوزارة، وتقول الوزير مشتق من الوزارة، والخليفة أجل من أن يحتاج إلى المؤازرة". ولذلك لم تظهر هذه الوظيفة بشكل جلي إلا في دولة بني العباس. فقد أضحت في عهدها مقننة القواعد مقررة القوانين، وسمي الوزير وزيرا، وكان يسمى كاتبا أو مشيرا. ينقل الباحث عن ابن خلدون قوله: "ولما جاءت دولة بني العباس واستفحل الملك، وعظمت مراتبه وارتفعت، عظم شأن الوزير وصارت له النيابة في إنفاذ الحلّ والعقد، وتعيّنت مرتبته في الدولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرقاب... حتى لقد دعي جعفر بن يحيى البرمكي بالسلطان في أيام الرشيد، وذلك إشارة إلى عموم نظره، وقيامه بالدولة".
والسفاح هو أول الخلفاء الذين عينوا الوزراء؛ فقد استوزر حفص بن سليمان أبا سلمة، وفوّض له الأمور وسلم له الدواوين. أما أشهر وزرائهم فهم البرامكة، الذين عظُم دورهم حتى كاد يحجب دور الخليفة نفسه. ثم أخذ يتراجع بتراجع مؤسسة الخلافة وهيمنة العمال في الأقاليم المختلفة، فتوارت هذه الوظيفة واستبدلت بإمرة الأمراء، اللقب الذي منحه الخلفاء لقادة الدول الصغرى المتفرعة عن الدولة العباسية بداية من القرن الرابع، وأولهم ابن رائق الحمداني الذي جعله الراضي أمير الأمراء، وفوض له تدبير البصرة وواسط، ثم انتقل اللقب إلى السلاجقة الأتراك، وسقط بسقوط دولتهم ببغداد سنة 547 للهجرة.
وصنفت الوزارة لاحقا إلى صنفين؛ فحينما يكون الخليفة قائما على الأمر بنفسه تكون الوزارةُ وزارة تنفيذ، وحينما يستبد الوزير بالأمر تتحوّل إلى وزارة تفويض. وعرفت الأندلس التعدد في الوزراء بحسب الاختصاص؛ فاختص بعضهم بالمال وآخر بالترسيل وثالث بالنظر في حوائج المتظلمين ورابع بأحوال أهل الثغور. وكانوا ينفذون أوامر السلطان، وأفرد واحد منهم للتواصل مع الخليفة وخصّوه باسم الحاجب، فكان منصب الحجابة عندهم أهم من منصب الوزارة. لذلك لقب ملوك الطوائف أنفسهم بالحاجب وفق ابن خلدون.
5 ـ الحجابة:
يعرّف الحاجب بكونه من يتولى الإذن للناس في الدخول على السلطان، ولم يكن للحجابة وجود في عهد الخلفاء الراشدين. فأسوة بالرسول لم يكونوا يصدّون محتاجا أو متظلما عن أبوابهم. ولكنّ تغيّر فلسفة الحكم وظروفه، دفع الأمويين إلى اعتمادها؛ فقد دفع قتلُ الخوارج لعلي معاويةَ إلى تنظيم الدخول عليه ومراقبته.
وينقل شرح ابن خلدون ذلك من منطق تطور نظام الحكم وتغيّر تصوّر العرب لصورة الحاكم، جامعا بين الهاجس الأمني والاقتضاء الإداري، إذ يقول: "وأما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم، فكان محظورا بالشريعة فلم يفعلوه، فلما انقلبت الخلافة إلى ملك، وجاءت رسوم السلطان وألقابه، كان أول شيء بدئ به في الدولة شأن الباب، وسده دون الجمهور بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم، كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم، مع ما فتحه من ازدحام الناس عليهم، وشغلهم بهم عن المهمات، فاتخذوا من يقوم لهم بذلك، وسموه الحاجب"، فكان صاحب الفصل في من يدخل على الخليفة ومن يحجب دونه.
ولعلّ تعاظم دوره وتأثيره على الحكم، جعل عبد الملك بن مروان يوصي أخاه عبد العزيز حين أرسله أميرا على مصر قائلا: ".. وانظر في حاجبك، فليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفنّ أحد ببابك إلّا أعلمك مكانه، لتكون أنت الذي تأذن له أو تردّه". ثم اقتضت مظاهر البذخ والعز في الدولة العباسية أن يكون الحجاب أسمك وأمتن لفصل الحاكم عن الرعية، فتدعم دور الحجابة وتحولت إلى مؤسسة قائمة الذات. وففصل المجتمع إلى عامة وخاصة. وحجبت العامة عن الخليفة تقريبا، ثم حُجب الخليفة لاحقا عن الخاصة لتحجيم دوره في شكل من أشكان الحجر، "وصار بباب الخليفة داران: دار الخاصّة ودار العامّة، يقابل كل فئة في مكان معيّن، على ما يراه الحاجب، ثم تطرقوا عند انحطاط دولتهم ومحاولة الحجر على صاحب الدولة إلى حجاب ثالث أشد من الأولين".
وهذا ما منح الحاجب النفوذ والقدرة على التأثير في السياسات العامة، وجعله أحيانا العين التي يبصر بها الخليفة المحجور المنفصل عن الواقع. وكان نفوذه يفوق نفوذ الوزير أحيانا؛ فأمكن للفضل بن الربيع مثلا الإيقاع بين البرامكة والرشيد، وتأجيج الخلاف بين الأمين والمأمون لمّا أغرى الأول بولاية العهد لابنه. وهذا ما سيتدعّم في دولة الأندلس؛ فقد استبد المنصور بن أبي عامر وأبناؤه بها لشرفها، وأصبحت مؤسستها تتقاطع مع الوزارة وتتجاوزها. والأمر نفسه تقريبا عرفته مصر في عهد المماليك.
6 ـ في أهمية الكتاب وحدوده
بدا المدخل على غاية من الطرافة. فتمعن تاريخ إدارة الحكم في البلاد الإسلامية، يجعلنا ندرك مسارَ العقل العربي الإسلامي الطويل المتعثّر أحيانا، وهو ينتقل من حياة البداوة إلى الانخراط الفاعل في الحضارة الإنسانية، وبناء الدولة وتشكيل مؤسساتها من زاوية مغايرة. وتاريخ كل مؤسسة من هذه المؤسسات السياسية والإدارية يكشف بدوره تصور العرب لآليات الحكم، ولصورة الحاكم وصلته بالمحكوم قربا أو بعدا. ولكن لطبيعة الكتاب الموسوعية، جاء هذا المبحث مبتسرا، فلم يأخذ حظّه من التعمّق وغاب عنه الطرح الإشكالي؛ فلم يعرض دور الإرث الجاهلي في كثير من الإجراءات الإدارية وتأثير الخلفيات الدينية الإسلامية، ولم يتبسط في تأثير الإرث البيزنطي أو الإرث الفارسي في تشكيل هذه المؤسسات. وهو المبحث الذي يستقطب على أيامنا أقلاما أكاديمية كثيرة، وإن ظلت ترد في شكل مقالات قصيرة تقارب المسألة جزئيا.