هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمَّة ثلاثة مفاتيح مركزيَّة، لا يُمكن للغافل عنها - أو عن أحدها - إدراك طبيعة تطور الفكر الإسلامي الحديث، أو أنماط هذا التطور - ناهيك عن وجهة هذه الأنماط - منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى اليوم. وما ذلك إلا لأن هذه المفاتيح، التي اختلَطَ فيها المعرفي بالسياسي، والسوسيولوجي بالثقافي، والعام بالخاص، والنظري بالحركي؛ هي المكوِّنات الأساسيَّة، التي شكَّلت ما يُمكن تسميته مجازا بمسيرة "الحداثة الإسلاميَّة"، بقضها وقضيضها، وبكل تجلياتها وتمثُّلاتها منذ الهجمة الكولونيالية.
وتُمثِّلُ هذه المفاتيح مُتتالية تاريخيَّة، يُمكن قراءتها أحيانا بوصفها مُتتالية سبب ونتيجة. وأول هذه المفاتيح هو مركزيَّة المدونة الضخمة للكتاب والمفكرين المصريين، منذ منتصف عهد محمد علي الكبير - تزامُنا مع رجوع البعثات، وتضخُّم أعداد الجاليات الأجنبية والإسلاميَّة - وحتى منتصف الحقبة الناصريَّة تقريبا، مع تزايُد مُعدلات هجرات المصريين للخارج، حين بدأت مركزيَّة القيادة تنتقل من مصر إلى السعوديَّة تدريجيّا مطلع الستينيات(1) حتى تم للأخيرة احتواء بقايا الحيويَّة الفكريَّة "العربيَّة"، التي استنزفها تتابُع القمع الناصري.
وقد تزامَن انتقال القيادة الإقليمي هذا مع انتقال قيادة النظام العالمي، من الثنائي الأنجلوفرنسي إلى القُطبين الأمريكي والروسي، وانتقال أكثر دول "العالم العربي" من دائرة النفوذ البريطانية المباشرة إلى دائرة النفوذ الأمريكيَّة، التي مثَّل النظام السعودي أهم لاعبيها الصاعدين، مُنافسا لشاه إيران على استحياء في أول الأمر. وبهذا، يُمثِّل النفوذ الأمريكي في "المنطقة" - وآثاره الثقافيَّة المباشرة وغير المباشرة - ثاني مفاتيح الفكر "الإسلامي" الحديث، خصوصا حين تمَّ تمرير هذا النفوذ عبر النظام السعودي، الذي كان التمدُّد السريع لنمطه الديني والاقتصادي - على يد المهاجرين المصريين، خصوصا من جمعية الإخوان المسلمين - هو المفتاح الثالث، وذلك إذ وَلَّد هذا التمدُّد نفوذا سياسيّا ودبلوماسيّا هائلا - في دار الإسلام - ربما كان عهد الملك فيصل ذروته.
ويبدو أن الأمريكان قد فضَّلوا تمرير نفوذهم الثقافي- السياسي عبر الوكيل السعودي، لا بسبب نفوذه المتنامي فحسب، ووعيهم بهيمنة النظام الفَتي هيمنة كاملة على "أدواته" الدينية، وإنما بسبب توثُّق العلاقات النفطية، علاوة على افتقار البيئة "الفكرية" السعوديَّة - التي غلَبت عليها البداوة آنذاك - إلى مدونة حديثة قد تُمثِّلُ جدلا مُضادا للتغلغُل الأمريكي، ربما يُفضي إلى نمو اتجاهات "يساريَّة" قويَّة، وذلك كما حدث في إيران "الحضريَّة" مثلا، علاوة على أن المغامرات السياسية الناصرية قد أوهَنَت الاقتصاد المصري؛ فراحت بِنيته التحتيَّة تتآكل بسبب سياسات التأميم والمصادَرة "الاشتراكيَّة" المتأخرة.
ويُمكن تعزيز هذه الرؤية إذا أضفنا إلى مُعطياتها تنامي الخلاف السياسي الأمريكي- المصري، بسبب ازدواجية سياسة النظام الناصري؛ الذي كان يَسبُّ أمريكا نهارا ويبيت في حضنها ليلا، ليحصل على معونة من القمح لم تنقطع إلا عام 1965م، حين صارت الجعجعة الناصريَّة عبئا على مؤسسات النظام السياسي الأمريكي.
وقد كانت مؤسسات مثل "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، الذي تأسس في أمريكا - مطلع ثمانينيات القرن العشرين - بتمويل سعودي سخي، وبكوادر من الإخوان المسلمين وحواشيهم، وبتنسيق استخباراتي معروف؛ أحد أهم التجليات الثقافية- السياسية لاختلاط المفتاحين الأخيرين، بالتزامُن مع محاولة تهميش الأول؛ سعيا إلى تكوين مدونة فكريَّة "إسلامية" جديدة، خصوصا بعد أن بدأ ضمور النتاج "الجديد" للمدونة المصرية تظهر ضحالته للعيان، كسبب ونتيجة لتدهور التعليم والثقافة والحريات العامة، وهي اﻵثار التي لم تبرُز فداحة ثمارها إلا ابتداء من سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
وربما يجدُر بنا التوقُّف قليلا أمام كل مفتاح من المفاتيح المذكورة، لبيان بعض ملامحه وآلياته. ولعلَّ مركزيَّة المدونة الفكريَّة المصريَّة هي أولى المفاتيح بالإسهاب، لسبب تكويني مركزي، سيُفضي بنا إلى عدَّة أسباب موضوعيَّة؛ فقد كانت هذه المدوَّنة طليعة جدلنا الفكري مع الحداثة وقلبه، وذلك في أغلب القضايا، التي ما زالت تشحذ الجدل نفسه وتُعيد إنتاجه. وسبب ذلك بداهة، هو سبق مصر إلى التحديث مع محمد علي، حتى سبقت الدولة العليَّة حينا في ذلك؛ فانعكس ذلك انعكاسا واضحا على نشاط الساحة الفكرية، حتى اختار الأفغاني الإقامة في مصر -بوصفها العاصمة الثقافيَّة للأمة-، فأمضى فيها أكثر مما أمضاه في أي بلد آخر.
وعليه، فقد مثَّلت "مدونتنا" قاعدة الفكر الإسلامي الحديث؛ إذ حدَّدت الموضوعات، وعيَّنت مُعسكرات الاستقطاب المتناحرة(2)، وقيَّدت آفاق التناول، ووجَّهت الجدل الفكري. والناظر في التاريخ الفكري والثقافي لعالم الإسلام، منذ منتصف التاسع عشر؛ سيوقن أن الأسئلة التي طُرِحَت في مصر، قد عيَّنت ملامح الأفق الفكري للعالم الإسلامي قاطبة لا الفكر العربي وحده، بما أن هذه الحيوية الفكرية "الحداثيَّة" قد ارتبطت حركتها "الإحيائيَّة" - في الوجدان السياسي - بعالميَّة "الخلافة" العثمانية ومركزيتها، منذ بذر السيد جمال الدين الأفغاني بذرته.
وبهذا، صارت جمهرة النتاج الفكري للإسلام "الحديث" عالة على هذه المدوَّنة، موافقة ومخالفة، ونفيا وإثباتا، وصار الموقف من هذه القاعدة الأوَّلية بداية حتميَّة ينطلِق منها نسق المفكر المسلم؛ فترسَّخَت مركزيتها، وصارت مفتاحا لازما، لا يُمكن للغافل عنه الإلمام بحقيقة التطور الفكري للإسلام "الحديث"، ولا تفسير اتجاهات هذا "التطور" وخلفياته. كذلك، فإن من وقف عند هذه المدوَّنة، وقصر درسه عليها؛ فقد أوقف فهمه وإدراكه على مقولات "حداثية" كلاسيكيَّة، ينطوي أكثرها على سذاجة بالغة، وذلك بوصفها مُجرَّد مقولات استكشافيَّة أوليَّة لظاهر عالم الغرب وحداثته، و"مبادئ" أثره فينا، بغير تعمُّق في الفهم ولا استطالة في الممارسة. ومن ثم؛ صار أمثال هؤلاء "الواقفين" في حكم من توقَّف نُضجه العقلي عند مرحلة عُمريَّة بعينها.
كذلك، أسهم المفتاحان التاليان في زيادة مركزيَّة المدونة المصريَّة، وذلك إذ حاولا -لأسباب لا مجال لتفصيلها - التعتيم على أكثر نتاجها، والقفز فوقها، وإهدار إنجازها، بدل الحوار الجاد معها؛ للبناء فوق ما يصلح منها، وتجاوز ما كان غير ذلك. وبعبارة أخرى، فقد كان التقييد "الأمني" و"السياسي" لحركة الفكر الإسلامي الحديث بالمفتاحين التاليين وتجلياتهما، وإخفاقهما المريع الذي يتجلَّى اليوم فاضحا؛ تذكرة عودة سريعة إلى المدونة الفكرية المصريَّة، التي بلغ ثراؤها ذروته مع سيد قطب، منتصف ستينيات القرن العشرين. هذه العودة بقدر ما فيها من عناصر الإثراء - بل والفخر أحيانا! - إلا أنها مؤلمة؛ إذ تذكرنا بأن الجيل المتصدِّر قد أهدَر نصف قرن تقريبا من عُمر هذه الأمَّة، وهو يحوِّم حول نيران البترودولار وسفسطات مالك بن نبي، وأوهام الدولة القومية الحديثة، والهزيمة النفسية لليسار المتحول إلى الإسلام، بغير إنجاز فكري أو حركي حقيقي ينتشلنا من وهدتنا، حاشا استثناءات نظريَّة معدودة، أكثرها لا يُعوَّل عليه.
وإذا كانت كثافة المدونة المصرية - منذ الأفغاني وحتى قطب - تطوي قدرا كبيرا من الاستمراريَّة، التي تُخالِف الشبق القطيعي للحداثة؛ فإن القطيعة كانت آتية لا محالة، طوال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، حين صار "المثقف" المصري كادرا بيروقراطيّا "خليجيّا"، لا يُنتج ما يتجاوز به ذاته؛ فلا "يُنتج" إلا هُراء يُرضي الكفيل، ويضمن استمرار تدفُّق التمويل. بيد أن عبد الوهاب المسيري - رحمه الله - قد مثَّل "قطيعة نسبيَّة" مع هذه القطيعة، ومحاولة جادة لإعادة الفكر "المصري" مرة أخرى إلى صدارة الفكر الإسلامي وقيادته. ولا ريب أن الرجل العظيم قد تأثَّر بما تأثر به جيله، وحفل إنتاجه ببعض عوامل القطيعة التي تعذَّر وَصلها، لكنَّه كان جسرا شديد الكفاءة لعبور أجيال من الشباب العربي إلى النجاة، من شرور سفسطات الأكاديميين القاعدين وأشباه المفكرين، من أبناء المغرب العربي الكبير.
وربما جاز لنا اعتبار المسيري - بصورةٍ ما - إعادة إنتاج للحظة الخلدونية في الفكر الإسلامي الوسيط، التي اعتبرها مالك بن نبي "صحوة موت" هذا الفكر واضمحلاله. وإذا كان سياقنا التاريخي المضمحل يؤيد هذه الفكرة، فإن السُنن الإلهيَّة - الحاكمة فوق هذا التاريخ - قد جعلت آخر لحظات الاضمحلال والقطيعة والتدهور، هي عينها أولى لحظات الإفاقة وبدء الارتداد للحق، عودة إلى الصدارة، خصوصا وقد ترك المسيري آلة منهجيَّة قويَّة، تشرَّبنا منها - نحن وغيرنا - ما يسمح لنا ببناء أنساق قويَّة، قد تمثل -إن شاء الله- خطوة أخرى على طريق استعادة زمام القيادة الفكرية للأمة.
ونختم استعراضنا السريع للمفتاح الأول، بتجريد بعض ملامحه؛ إذ قسَّمنا الفترات التاريخيَّة للمدونة الفكرية المصرية الحديثة إلى ثلاث حقب: ما قبل الاحتواء السعودي، ومرحلة الاحتواء، ثم مرحلة تقوض الاحتواء التي نعيشها الآن، بوصفها مرحلة مخاضٍ فكري "حُر". وقد تميَّز الفكر الإسلامي الحديث في المرحلة الأولى بأنه شديد التسييس بغير أدلجة، إلا في القليل النادر، وذلك بسبب نأي "الدولة" - الضعيفة نسبيّا - عن المشاركة في الاستقطاب، أو ترجيح كفة على كفة؛ فظلَّ أكثر النتاج الفكري الحديث للمسلمين - آنذاك - مُستقلا نسبيّا عن السلطة، وعابرا للحدود "القُطرية" الضيقة.
ورغم اقتصار أدوات التواصُل على الكلمة المطبوعة، إلا أن الأفكار كانت تنتقل على بقايا موجة واهنة من "وحدة الأمة"، إذ لم تكن تلك الأجيال قد استبطَنت فعلا قيود الدولة القومية على وجود الأمة، بعد أن عاشت أكثر حياتها بغير قيد "فعلي"، وإن كانت قد بدأت التعرُّف إلى القيود النظريَّة المستورَدة، وسعت للتعاطي معها. أما في مرحلة الاحتواء؛ فقد قُضي على استقلال الفكر الإسلامي تقريبا، وتم توجيه التسييس المفرِط إلى خدمة القائم بترشيد الواقع؛ مما أفضى بنا إلى أدلجة شديدة، واستقطاب عنيف؛ أثمرا ضحالة فكرية كاسحة، مصحوبة بانتشار للشعارات الهوياتيَّة بغير التزام بشيء حقيقي، وتم تهميش نموذج رشيد رضا المسيَّس لصالح نموذج المنبطح محب الدين الخطيب(3).
أما المرحلة الحالية، التي يتقوَّض فيها هذا النفوذ الضار؛ فلا يُمكننا تجريد ملامحها الأوليَّة، إلا حين نُدرِك أولا كيف نُسجت خيوط العنكبوت التي تتهاوَى. وهذا ما نعِدك به عزيزنا القارئ في المقال القادم، إن شاء الله تعالى.
-----------
(1) راجع مقالنا في هذه المسألة، والمعنوَن: "صعود وانحسار النفوذ السلفي"، وهو متاح على الإنترنت.
(2) راجع مقالنا المعنوَن: "وهم الاستقطاب الأيديولوجي"، وهو متاح على هذا الموقع نفسه.
(3) راجع مقالنا المعنوَن: "كيف حطمت السلفية تقاليدنا الإسلامية؟"، وهو متاح على هذا الموقع نفسه، وفيه تفصيل للملامح الرئيسة للنموذجين. أما من شاء التوسُّع؛ فعليه بالرجوع إلى مدخلنا على كتاب: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م).
twitter.com/abouzekryEG