هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعد الشعب الركن الأساسي للدولة، ولا يمكن وجود دولة بدون الأفراد الذين يعيشون بصفة دائمة فوق إقليمها ويخضعون لسلطتها السياسية.. وتحرص السلطة السياسية عادة على التحدث باسم الشعب والبروز بمظهر الحامي له والجامع له بصرف النظر عن اختلاف طبيعة هذه السلطة.. فالديمقراطية منها تحاول أن تستقطب الشعب باعتباره مشروع صوت انتخابي والديكتاتورية توجه إليه خطابها باعتبارها المتحدث الوحيد باسمه والحريصة على مصلحته رغم أنها تهدف إلى ضمان طاعته وقهره، وهي لا تفرق في خطابها بين الشعب الاجتماعي الذي يعيش على إقليمها والمتمتع بحقوقه السياسية والمحروم منها، وبين الشعب السياسي الذي يمثل جمهور الناخبين برغم أن الانتخابات لا تعني لها في أحسن الحالات سوى ديكور تزين به واجهتها.
لكن الرئيس التونسي قيس سعيد يقدم لنا بدعة في الفكر السياسي عن علاقته بالشعب، فهو الرئيس الأول في التاريخ السياسي على حد علمنا الذي يحرص في كل خطاب يقدمه للناس على اصطفاء فئة من الشعب دون أخرى والانحسار في بوتقتها كأنه زعيم طائفة مغلقة..
ووجه البدعة في الأمر أن الرئيس سعيد جاء إلى السلطة بأغلبية أصوات الناخبين الذين لا تربطهم به صلة حزبية ولا فكرية ولا عقائدية سوى أنه كان البديل المأمول لمشهد سياسي متعفن ظنه الناس سينتهي مع وصول سعيد..
وقد كان الرجل في غنى عن خلق هذه العداوات المتجددة المنبعثة مع كل خطاب، فمهمة رئاسة الدولة خاصة في التجارب الديمقراطية تقتضي تعالي الرئيس عن كل الحسابات الحزبية والخاصة والقيام بدور تجميعي، لكن قيس سعيد يمارس العكس تماما في بدعة غير مفهومة لا من حيث المنطق والفكر ولا من حيث البراغماتية السياسية التي تفرض عدم فتح جبهات متعددة في وقت واحد.
غير أن الرئيس سعيد يخالف كل التوقعات ويظهر تمسكه الظاهر بمبدئية لا أحد يعرف معالمها، فالخطاب عنها منحصر في الاتجاه السلبي بنفي الإيجاب عن خصوم الرئيس، فلا يقدم الرئيس مشروعه الوطني بل يكتفي بنزع صفة الوطنية عن الآخرين الذين هم في خطابه "البعض والأطراف والجهات التي تخطط في غرف مظلمة، وينفي عنهم صفة الدين والتدين فهم المنافقون والكذابون.. ثم ينفي عنهم صفة الإنسانية في قمة خطابه المتطرف تجاه الشعب، فالشعب عنده هم أؤلئك الذين خرجوا فرحا ورقصوا طربا لإجراءاته أما الآخرون فحشرات تحاول التسلل لتخريب الدولة.
كان الرجل في غنى عن خلق هذه العداوات المتجددة المنبعثة مع كل خطاب، فمهمة رئاسة الدولة خاصة في التجارب الديمقراطية تقتضي تعالي الرئيس عن كل الحسابات الحزبية والخاصة والقيام بدور تجميعي، لكن قيس سعيد يمارس العكس تماما في بدعة غير مفهومة لا من حيث المنطق والفكر ولا من حيث البراغماتية السياسية
قال ذلك بحضور المكلفة بتشكيل الحكومة التي يفترض أن يكون برنامج عملها وخطابها موجها إلى التونسيين جميعا بصرف النظر عن علاقتهم برموز السلطة ،لكن يبدو أن سعيد لا يهتم لذلك أصلا وينطلق من قناعات غنوصية يعتبر نفسه معها شعلة الإله المنبعثة في جسد صاحب السلطة الذي يرى ما لا يراه غيره..
إن الحشرة مصطلح ذو دلالة تحقيرية تبعث لدى متلقي الخطاب شعورا بالتعالي وتحررا من عقدة الذنب في حال فكر أو مارس عملية دهس تلك الحشرات، وهو خطاب عنصري خطير يبرر للعنف والقتل من حيث المرجعية والممارسة، فلا أحد سيحتج على قاتل حشرة ولا أحد سيستصعب عملية قتل الحشرة ولا أحد سيهتم لقتل الحشرة وبالنتيجة كانما يقول سعيد أيها المتلقون لخطابي اقتلوا من لم يكن معي لأنكم إن فعلتم فأنتم تقتلون حشرة ينزعج الناس لوجودها ويرتاحون لقتلها ولا يهتمون للفاعل ولا للحيثيات، فالحشرة لا تعني شيئا فقط مصدر إزعاج يثير موته بعض شعور بالراحة.
هل يفتح هذا الخطاب على سيناريو الدم في تونس؟ هذا إمكان وارد في حال استمر هذا التجييش وهذا الخطاب التحقيري من الرئيس إزاء خصومه، خاصة في ظل حالة التوتر المجتمعي بين مختلف الأحزاب وأنصار الأحزاب، وهو إمكان لا يحول دونه إلا تدخل دولي قوي ومؤثر يرفض انزلاق تونس نحو الفوضى التي تذهب مصالح هذه الأطراف كأمريكا في ليبيا أو إيطاليا خوف الهجرة.. الخ. أما داخليا فيبدو موقف الحكمة والعقل، اللذين عرفا عن التونسيين مع اشتداد الأزمات سابقا، غائب هذه المرة أو لا يسمع له تماما كحكيم القبائل الهندية الذي يخطب ولا يؤبه له.
من المؤكد أننا إزاء ظاهرة غير مسبوقة وتصنيف قد يدخل قاموس المصطلحات السياسية الحادثة، فهو الآن عصي عن التصنيف بكل المقاييس التي تعرف في تصنيف الأنظمة السياسية لكن من الثابت أنه يتجه إن استمر نحو حكم الفرد بصيغة مبتدعة.
*إعلامي وباحث جامعي من تونس