أفكَار

البطالة الخفية.. سرطان الاستبداد في العالم العربي

عشرات يتظاهرون بمحافظة "قفصة" جنوب تونس احتجاجا على "عدم تفعيل القانون 38"- (الأناضول)
عشرات يتظاهرون بمحافظة "قفصة" جنوب تونس احتجاجا على "عدم تفعيل القانون 38"- (الأناضول)

 

                                 أبو يعرب المرزوقي.. مفكر تونسي

 

أعلنت السلطة الرسمية في تونس أن نسبة البطالة بلغت 19 في المائة. وهو رقم مهول لا شك في ذلك. لكن الحقيقة هي أكثر من ضعف هذه النسبة، ذلك أن البطالة الخفية أكبر من البطالة العلنية.

كيف ذلك؟ ولماذا يعتبر ذلك من مقومات الدولة الاستبدادية؟ سؤالان من لا يطلب الجواب الصادق عنهما يتعامى عن علل التخلف الذي يرد إلى الاستبداد الذي يلغي شرطي النمو المادي والروحي للجماعات البشرية.

فأما الشرط الأول فهو الضامن لحقيقة معنى التعاون والتبادل، أعني حقيقة القيم المادية ورمزها العملة التي تترجم عن مكافأة الدور في الثروة الوطنية: سلامة العملة التي هي أداة التبادل. 

وفسادها "ربا" مادي مقنع يدفعه الضعفاء للأقوياء في الجماعة وهو الاستغلال الاقتصادي وسياسة رتب التأجير وأسعار البضائع والخدمات بتوسط سوق التوظيف.

وأما الشرط الثاني فهو الضامن لحقيقة معنى التفاهم والتواصل أعني حقيقة المعاني الروحية ورمزها الكلمة التي تترجم عن مكافأة الدور في التراث الوطني: سلامة الكلمة التي هي أداة التواصل.

وفسادها "ربا" رمزي مقنع يدفعه الصادقون للمنافقين في الجماعة وهو الاستغلال الثقافي وسياسة منازل البشر وأسعار دور الجاهة في الربا المادي بسوط الوساطة والرشوة.

والجامع بين العاملين هو القوة اللطيفة وأداتها الإعلام أو الحكم الرمزي والقوة العنيفة وأداتها السياسة أو الحكم المادي: وتلكما هما سلاح الاستبداد. 

والتربية هي سلاح الإعلام الخفي وسوق العمل هي سلاح السياسة الخفية. فالأول يحدد المنازل المعنوية فيرتب الناس بالرؤى الأيديولوجية، والثاني يحدد المنازل المادية فيرتب الناس بسلم الأجور والأسعار.

فلنطبق الآن هده الشبكة المفهومية التي تتعلق بأعماق الاستبداد وكيف يصبح علة للتخلف: فهو بهذين الأداتين يحول دون الفاعلية المادية والفاعلية الروحية في الجماعة فيجعل: الإبداع النظري وتطبيقاته في التعامل مع الطبيعة شرط التعمير وإنتاج الثروة.. والإبداع القيمي وتطبيقاته في التعامل مع التاريخ شرط الاستخلاف وإنتاج التراث..

أمران معكوسان: أي إن الجزاء في الحالتين لا يحدده دور الفاعلين الإبداعي فيهما بل دور التحيل الذي يجعل الحكم والجاه علتين للجزاء الأوفى، بحيث أن سلم المجتمع يصبح مقلوبا: كلما قل الجهد والإبداع ارتفعت المنزلة المادية والمعنوية.

والنتيجة أن كل الخدمات والبضائع تفسد لعدم الكفاءة والتكوين عند المسيطرين عليهما دون أهلية لأن التعيين في المسؤوليات والإشراف لا تخضع للشروط الضرورية والكافية بل هي تنتج عن الوساطة والجاه.

 

التربية هي سلاح الإعلام الخفي وسوق العمل هي سلاح السياسة الخفية. فالأول يحدد المنازل المعنوية فيرتب الناس بالرؤى الإيديولوجية، والثاني يحدد المنازل المادية فيرتب الناس بسلم الأجور والأسعار.

 



ومن ثم فإن كل عمل يصبح بحاجة إلى أضعاف ما يحتاج إليه من موظفين فتفسد كل المصالح ويتحول العمل إلى ملتقى الكسالى معرفيا وتقنيا وتصبح كل المؤسسات إقطاعيات لأصحاب النفوذ والجاه.

وبذلك فإن الجماعة تفقد القدرة على التعامل مع الطبيعة بالعلم وتطبيقاته إذ يعم الربا والجهل وتفقد القدرة على التعامل مع الإنسان بالقيم وتطبيقاتها، ويتم العمل بالنفاق والعنف: فتعم الخصاصة الغالبية والثروة القليلة يسيطر عليها أصحاب السلطة في المجالين المحرفين لدور العملة والكلمة: وتلك هي حال تونس الآن ومثلها كل بلاد العرب بما فيها تلك التي تبدو غنية لأنها تبيع ما لديها من: ثروة طبيعية ـ البترول مثلا ـ وتراث تاريخي ـ السياحة مثلا ـ أو التي تبيع الإنسان: وغالبا ما يكون دلك تجارة جنسية تابعة لسياحة الأولين في بلاد الثانين: وتلك هي علامات الاستبداد الذي تصبح فيه الدولة إقطاعيات تتقاسمها مافيات الأفعال ومافيات الأقوال السلطوية في الحالتين.

ويكفي أن أضرب أمثلة في وظائف القوامة العشر التي تتألف منها أي دولة صغرت أو كبرت قديمة أو حديثة:

ففي الرعاية بوظائفها الخمس تكوينا مضاعفا وتموينا مضاعفا وأصلا يكون عدد المكلفين بالمهام التربوية في المدرسة وفي المعمل أضعاف ما تحتاج إليه الجماعة، ويكون عدد المكلفين بالمهام التموينية المادية أي إنتاج الثروة وبالمهام التموينية الروحية أي إنتاج التراث أضعاف ما تحتاج إليه الجماعة.

ويكون الأصل أي البحث والإعلام العلمي التعلق بشروطها المعرفية والقيمية مثلها مضاعفا دون إبداع يعالج المجالات الأربع التي تتفرع عنه في الواجب.

والنتيجة هي أن الرعاية تصبح أشبه ببطالة خفية لا أحد فيها ينتج شيئا يذكر فتتراكم الثروة القليلة عند أصحاب النفوذ ويعم الفقر والعبودية لأن سد الحاجات الأولية هو المتحكم في حرية الإنسان وكرامته: كلما كان عاجزا دون سدها يصبح عبدا للتحكم في رزقه: وذلك هو جوهر العبودية.

وهنا يصيب الوهن وظائف الحماية الخمس في كل قوامة؛ أي إن الحماية الداخلية التي تتألف من القضاء والأمن: كلاهما يصبح أداة ابتزاز للمواطن في الحكم القضائي وفي تنفيذه فيصبح حاميها حراميها مع تضخم في الأنفار لأن كل ذي سلطان يستخدم أهله بفضل ما لديه من جاه.

والحماية الخارجية التي تتألف من الدبلوماسية والدفاع: كلاهما يصبح أداة ابتزاز للمواطن في السياسة الخارجية وفي تنفيدها فيصبح حامي البلاد حراميها مع نفس التضخم. 

لكن هده المرة يكون الابتزاز دوليا بمعنى أن أدوات القوامة تصبح مخترقة من قبل أصل هده الحمايات، أعني الاستعلامات والإعلام السياسيين اللذين يفقدان دور حماية الجماعة ليصبحا أداتي جماعة خارجية، فتسيطر هذه الجماعة وذلك هو الاستعمار على مقدرات الجماعة المستضعفة بتمكين المافيات الداخلية من فضلات سد حاجاتها ثروات البلاد التي صار أهلها عبيدا بسبب ما وصفت.

لذلك فالكلام عن الحرية والكرامة من دون الكلام عن شروط التحرر من العلل التي وصفت والوصل بين ما تعلق منها بوظائف الرعاية ووظائف الحماية، أي بوظائف الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها من العلامات الدالة على مرض الأمة:

1 تحريف فلسفة الإسلام السياسية: كل الأحزاب الإسلامية حرفت هذه السياسة في قراءتها للقرآن والسنة وخاصة في فهمها لتاريخ الإسلام ورؤيته للتاريخ الإنساني من حيث هو استعمار في الأرض بقيم الاستخلاف.

2 ـ تبني سياسة الدولة الحاضنة التي تتحول بالضرورة إلى دولة العبودية، لأنها لا تسمح بالتخلص من ربا الأفعال الذي ينتج عن التسلط المافياوي ومن ربا الأقوال الذي يصحبه فيوظف الفكر والقيم للتخدير وليس للتنوير.


التعليقات (1)
أمين صادق
الإثنين، 22-11-2021 01:57 م
لا شك أن الأستاذ أبو يعرب المرزوقي عميق الفكر واسع الإطلاع و نتعلم منه و أعذره على كتابته بهذه الطريقة لأسباب لا تخفى عن المدركين لكيفية إدارة قمعستان "عبارة نقشها الراحل نزار قباني عن العالم العربي". لي هذا التعقيب المتواضع : الاستبداد و الفساد صنوان متلازمان كل منهما يكمل الآخر و يخدمه . الأصل في السلطة أن تكون مستبدة في عالم اليوم الذي يندر فيه وجود المعيار و الرادع العقدي و الانضباط الأخلاقي ، و لهذا قيل أن "السلطة مفسدة" و أن "البعيد عن السلطان سلطان" حيث هذا المبتعد مرماه أن يكون حراً يعيش بكرامة و لا يستعبده أحد من البشر . يبدو في الظاهر أن النفاق طريق ناجح للصعود ، لكن مؤداه في الحقيقة انتكاس إلى الهاوية . لم يخلقنا الله لنكون ممن له الويل أي الهمزة اللمزة "الذي جمع مالاً و عدده" و هو يظن بخطأ واضح "يحسب أن ماله أخلده" . التسلق إلى منصب لا يستحقه شخص معناه أنه ظالم لنفسه و ظالم لغيره ، فلقد جلس في كرسي كجلوس أحمق في كرسي قيادة طائرة و هو لا يمتلك الكفاءة لتسييرها ، و من أتاح له الجلوس أحمق مثله لأنه لن يرجى تحقق خير من هذا الترتيب الأرعن . ثم لو كان قرار فوقي "أو الأدق تحتي" بتعيين الشخص الجاهل لكي يجلس في كرسي قيادة الطائرة إلى جانب ربَان الطائرة الماهر الخبير فقط ليتفرج طيلة الوقت و لا يفعل شيئاَ سوى قبض الراتب الشهري ، فهذه بطالة خفية مقنَعة فرضتها أيدي ما تسمى الوجاهة المستبدة الآثمة لأن المعاش – عند العقلاء - لا يكون سوى مقابل جهد فعلي . قد يبدو المثال السابق غريباً ، لكنه واقع في أحوال كثيرة في أقطار قمعستان . في دائرة أو مؤسسة أو وزارة عمومية ، قد تكون حاجة إحداها مثلاً 50 موظف فقط فتجد أنه جرى تعيين 100 موظف بسطوة فلان أو بسبب انتماء معيَن فينتج عن ذلك أن الزوائد لن تجد ما تعمله و يكون دوامها عبثي و مجرد إثبات حضور من أجل قبض الرواتب الحرام في نهاية الشهر . لو تحدثت عن السلك الدبلوماسي و جولات حاشية السلطان في البلدان الأجنبية على حساب المال العام ، لطال الحديث كثيراً . في بلد أعرابي يمتهن الشحاذة ، و لا ينتج ، كيف يقبل مواطن عاقل من سلطته المستبدة أن تقيم سفارات حول العالم تكون ضعف عدد سفارات دولة كبرى ؟ هذا نوع من التبديد على ما لا يلزم . ثم إن زيارات الباشاوات لعدة بلدان أجنبية لها تكاليف فلكية تقتطع من أموال الشعوب التي لن يستفيد منها شيئاَ . بعد هذا السفه و هذا العته ، يأتيك منافق ليدافع عن المستبد اللص التارك شعبه يتلظى في شظف العيش و الجاعل "خيرنا لغيرنا" . هذا المنافق قصير النظر هو من فئة " إِنَّ هَ?ؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا" . أحمد الله و أشكره أن هنالك يوم حساب عنده تعالى لزعامة الباطل و زمرتها .

خبر عاجل