انتهت المهلة التي أعطيتها لأولي الأمر منهم في
مصر، للرد على
التسريبات التي أذاعها اليوتيوبر
عبد الله الشريف مساء الخميس الماضي، بدون رد، وهي مهلة مردها إلى أن يومي الجمعة والسبت عطلة أسبوعية، ومن هنا فقد انتظرت أن يكون الرد أمس الأحد، لكني لم أجد على النار هدى!
ونحن على البر، أود التذكير بفلسفتي في رفض النظام القائم في مصر، فرفضي له ينطلق من كونه انقلاباً عسكرياً، وإن صلى وإن صام، كما أنه حكم عضوض، ولو مشى
السيسي بعد ذلك على الماء وطار في الهواء (كما يقول المتصوفة)، فإن موقفي منه لن يتغير. والمعنى أنني لا أتلمس فشله، ولا أتصيد فساده، للتأكيد على سلامة موقفي. وهي فلسفة حكمت تصرفاتي من مؤيديه منذ البداية، فعندما أخبرني البعض بوجود أحكام قضائية تدين اثنين ممن يناظروننا، وبما يفقد الثقة والاعتبار فيهما، أعرضت عنها؛ ذلك بأنني رأيت أن معركتي واضحة، ولست بحاجة للانتصار فيها بالضربة القاضية، ولكن بالتأكيد على أننا أمام انقلاب مكتمل الأركان، وأنه لهذا وحده فهو شر مطلق، ليؤمن من يؤمن على بينة ويكفر من يكفر على بينة!
وإذا كانت هذه فلسفتي في البداية، وقد نجح الجنرال المنقلب في غواية كثيرين بزخرف القول، ممن ظنوا أن الحداية يمكن أن تلقي عليهم كتاكيت، فما حاجتي الآن لتسريب كهذا، وقد تبين الرشد من الغي، واكتوى الجميع بنار الانقلاب؟ ولهذا فلم أكن في عجلة من أمري للتسليم بصحة ما جاء في "التسريب"، وانتظرت الأحد للرد، فمر هذا اليوم في هدوء، إلا من المسلسل رديء الإخراج، الخاص بطلاق المغنية
شيرين عبد الوهاب، والذي من الواضح أنه يستخدم من باب الإلهاء، وهو دأب أنظمة الاستبداد للفت الانتباه بعيداً عن الأزمات الحقيقية، وعن أصل البلوى!
لم أكن في عجلة من أمري للتسليم بصحة ما جاء في "التسريب"، وانتظرت الأحد للرد، فمر هذا اليوم في هدوء، إلا من المسلسل رديء الإخراج، الخاص بطلاق المغنية شيرين عبد الوهاب، والذي من الواضح أنه يستخدم من باب الإلهاء
لا يُرد علينا بأنه لا يُنتظر من الرئاسة أن تنزل من العلياء لترد على "يوتيوبر"، خوفاً على مقامها، لأن هذا مبرر يسقط حتماً إذا كانت لدى السلطة أجهزة رصد، لتنقل كيف نال التسريب من مصداقية النظام في عقر داره، وفي معسكره، وفي الداخل المصري، ووصل إلى العالم كله. ويكفي أن نعلم أن المشاهدات عبر منصات عبد الله الشريف وحدها تجاوزت الملايين الخمسة، بحسب زميل متابع له ومهتم بالإعلام الجديد وأدواته!
خيارات السيسي:
ويدرك أي نظام عاقل رشيد أن
الفساد المالي، إذا كان بهذا الوضوح والفجور الذي جاء في التسريب، هو مما ينال من هيبة الحكم، أكثر من فكرة الهيبة المزعومة التي ينال منها أن تتواضع مؤسسة الرئاسة وترد على ما ينشر وما يذاع. وفي الدول الطبيعية، مهما كان نظام حكمها، فلن يحتاج الأمر إلى تدخل المؤسسة، إنما يكفي أن تمد كاتباً كبيراً بالمعلومات، ليدحض ما يردده الأعداء. وبعد إبعاد ياسر رزق، لا يوجد من بين الأذرع الإعلامية للسيسي من يجيد القراءة والكتابة، ولأول مرة في تاريخ الصحافة المصرية، أن يكون فيها رؤساء تحرير لا يجيدون فن كتابة المقال، بل ويخطئون في الإملاء.
وقد اطلعت على "تغريدة" لرئيس تحرير قبل أيام، امتلأت بسببها النفس حسرة على حال مهنتي، فالمنشور يتكون من بضع كلمات، اكتشفنا فيه أخطاء فادحة، كان من بينها أنه استبدل "الدعوى" بـ"الدعوة"، مع أنه يتبوأ عدداً من المواقع لم تجتمع في يد رئيس تحرير من قبل!
وعندما تكون هذه خيارات السيسي، ثم يقول إنه قرأ لكتّاب كبار كهيكل وموسى صبري، قبل أن يقول إنه قرأ جميع المقالات، ثم تكون هذه هي خياراته، فإننا نكون أمام ادعاء لا يوجد في الممارسة ما يدعمه!
يدرك أي نظام عاقل رشيد أن الفساد المالي، إذا كان بهذا الوضوح والفجور الذي جاء في التسريب، هو مما ينال من هيبة الحكم، أكثر من فكرة الهيبة المزعومة التي ينال منها أن تتواضع مؤسسة الرئاسة وترد على ما ينشر وما يذاع
والحال كذلك فقد كان على الرئاسة أن تتولى الأمر، إن كان هناك رد على ما
أثير في هذه التسريبات. ويكفي العلم أن ما نشرته الجارديان البريطانية إبان الثورة، عن وجود 70 مليار دولار لمبارك في أحد بنوك الخارج، مثّل دعماً لها، وتماهى معها المواطن البسيط وأوب معها، قبل أن تعتذر الجريدة نفسها عما نشرته، لكن الثورة كانت قد انتصرت ومبارك قد تنحى!
فملف الفساد المالي ينهي أنظمة، لا سيما إذا كان على النحو الذي جاء في "
تسريبات" عبد الله الشريف، وقد سبق للسيسي نفسه أن رد على كلام يطعنه في هذا الملف، عقب البيان الأول لرجل الأعمال محمد علي، لكنه رد ليبرر وليس لينفي، فقد اعترف ببناء سلاسل القصور الرئاسية، وأنه لم يبنها لنفسه ولكن لمصر، فأضحك الثكالى، في بلد يصفه هو بأنه فقير، وقد توقف بعدها عن هذا الخطاب الذي طالما قام على تبكيت الجماهير!
فالمبرر بأن الرئاسة أكبر من أن ترد على يوتيوبر، لا محل له من الإعراب، بعد واقعة الرد على "محمد علي"، وفي اعتقادي أن ما جاء في هذه التسريبات لو صح، لكنا أمام المادة الأخطر بعد "إعلان محمد علي"، والذي كان يدور حول إساءة إدارة أموال الدولة، في حين أن "تسريب عبد الله"، يكشف فساداً مطاعاً في أعلى السلطة، وأن ملتحقين بالمؤسسة الأعلى في البلد يمارسون لوناً من الفساد غير مسبوق في مصر، ولم تعرفه في تاريخها الحديث ولو في مراحل الانحطاط.. عندما تدار الدولة بالعمولات الضخمة، وسرقة قضبان السكك الحديدية مقابل رشاوى، وأن صندوقا قائما على التبرعات يقوم بتمويل إقامة مستشارين بالرئاسة في القصور!
"تسريب عبد الله"، يكشف فساداً مطاعاً في أعلى السلطة، وأن ملتحقين بالمؤسسة الأعلى في البلد يمارسون لوناً من الفساد غير مسبوق في مصر، ولم تعرفه في تاريخها الحديث ولو في مراحل الانحطاط.
ولا يجوز استدعاء تصريح قديم للدكتور زكريا عزمي، رئيس الديوان الرئاسي في عهد مبارك، من أن الفساد أصبح للركب، عند التعامل مع ما جاء في التسريبات موضوع هذا المقال؛ فعزمي كان يقصد فساد المحليات، وليس فساد السلطة في مؤسستها الأعلى، وفساد الصغار لا فساد الكبار. ومهما قيل عن الفساد في عصر مبارك، فإنه يتضاءل حتى لا يُرى بالعين المجردة، إذا ما قورن بما جاء في التسريبات، في حال صحتها!
ميرفت؟ من ميرفت؟
نقطة ضعف هذه التسريبات في عدم التوصل إلى من هي "ميرفت"، فإذا كنا قد تعرفنا على "سيادة اللواء فاروق"، فإننا لم نتعرف على المذكورة، وإذ بحثت عنها فلم أعثر سوى على "ميرفت" واحدة، وهي أستاذة في جامعة بنها، ضمن المجلس الاستشاري العلمي برئاسة الجمهورية، ولا يمكن أن تكون هي "ميرفت" المستشارة، لأنها بحسب التسجيلات قالت إنها قانونية أو محامية في الأصل، في حين أن ميرفتنا أستاذة بكلية التربية!
ونقطة ضعفها - كذلك - في ما أورده اللواء فاروق القاضي من أن محافظ الإسكندرية ضابط بالقوات المسلحة، وليس هذا صحيحاً لأن الرجل ضابط شرطة، وقد شغل مواقع مهمة في إدارات وزارة الداخلية المختلفة، كما أن نقطة الضعف الثانية في معلومات اللواء المذكور وما أورده من أنه توسط لرجل الأعمال أحمد أبو هشيمة في بيع أربعة آلاف طن من حديد قضبان القطارات، مقابل عمولة استقلها وهي 20 مليون جنيه، وهو أمر غير منطقي البتة!
وكان ينبغي لـ"عبد الله الشريف" أن يعالج نقاط الضعف هذه ولو بالتبرير، لكن من الواضح أنه لم ينتبه لها، كأن يذكر المعلومات الصحيحة عن المحافظ، وعن صفقة الحديد، ويرجعها إلى خطأ في الثانية، وغياب للمعلومة الحقيقية لدى اللواء في الأولى، لكنه بترك الأمور هكذا فقد صارت نقطة ضعف، تنتظر رده في الحلقة القادمة، إن كان لديه رد. كما أن عدم وصوله لمعلومات عن شخصية ميرفت هذه، أمر ينسف فكرة أن تكون هذه التسريبات (في حال صحتها) قد وصلته من المصدر، لأنه في هذه الحالة كان ينبغي أن يسأله من ميرفت هذه!
ولا شك أن هذه الملاحظات، دفعتني للتريث في التعامل مع التسريبات، ولا أنكر أنني لم أستبعد أن تكون كميناً يستهدف ضرب مصداقيته، وإذ كانت مدة خدمتي في العمل الصحفي قضيتها في صحيفة معارضة، فقد كنت يقظاً على مدى أكثر من ربع قرن لهذه الأكمنة. ويكفي أن نتذكر أنه في الوقت الذي كانت فيه جريدة "الشعب" المعارضة، تنشر حملة ضد وزير الداخلية حسن الألفي، تم الدفع بمحررات ووثائق مزورة عن فساده للتغطية على الوثائق الحقيقية!
ولأني كنت أنتظر الرد المفحم لأولي الأمر منهم، فلم أندفع لمسايرة الرأي العام والتعليق على التسريبات، وعندما سألني أحد الزملاء عن مدى صحة هذا التسريب، قلت إن الأمر يتوقف على أداء الأذرع الإعلامية للسيسي، فإن اندفعوا في اتجاه الهجوم الشخصي على عبد الله الشريف تكون الرؤية قد اتضحت!
عندما سألني أحد الزملاء عن مدى صحة هذا التسريب، قلت إن الأمر يتوقف على أداء الأذرع الإعلامية للسيسي، فإن اندفعوا في اتجاه الهجوم الشخصي على عبد الله الشريف تكون الرؤية قد اتضحت!
أداء القطيع الإلكتروني:
وفي اليوم التالي كان التريند الذي قام به "القطيع الإلكتروني" يدور في العنوان والمحتوى حول شخص عبد الله، والإساءة إليه بالكلام والإشارات، ونحن نعلم أن هذا القطيع يدار من قبل إدارة مختصة، عندئذ أمكن لأبي حنيفة أن يمد قدميه!
اللافت في أداء "القطيع الإلكتروني"، هو ضرب التسريبات بالتشكيك في معلومة هي الخاصة بشخصية اللواء "فاروق القاضي"، ونشر نعي لمن يحمل رتبة عسكرية أدنى واسمه "محمد فاروق القاضي"، للدلالة على وفاته.. يكاد المريب أن يقول خذوني!
فلم يُنشر اسم الصحيفة التي نشرت هذا النعي، والذي يبدو أنه لم ينشر في أي صحيفة من خلال النظر إلى شكله وإخراجه وحروفه، فما هو مصدره؟ وقد أعاد أكثر من عنصر في هذا "القطيع" نشره، في حين أن التسريب عن لواء وليس أدنى من ذلك، وعن "فاروق" وليس "محمد"، ثم إن شخصيته أمكن التعرف عليها، وذلك على العكس من "ميرفت"، فلماذا يسكت فاروق القاضي حتى الآن؟!
ولا شك أن هذا الرد المتهافت، من قطيع إلكتروني يدار من أعلى، إنما يمثل نقطة قوة لهذه التسريبات، فليتهم أمسكوا بميرفت!
بعد أن استمعت إلى البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية، وكنت قد انتهيت من كتابة هذا المقال، أدركت أنه لا جديد يستحق تعديلا في ما كتبت!
لقد كان الرد الأكثر تهافتاً عندما شمر أحدهم عن ذراعيه، وكثيراً ما نشاهد هؤلاء المتطوعين في المعارك، وقال لا يوجد من تحمل اسم ميرفت في مؤسسة الرئاسة، لكن تعيين ميرفت، أستاذة أصول التربية بجامعة بنها، لا بد من أن يمثل ضرباً في مصداقية هذا المتطوع، وما أكثر المتطوعين، وأحدهم تصرف كالدبة التي قتلت صاحبها في أزمة خلاف السيسي مع تركيا، فاعتبر قائده الأعلى في مهمة قومية للأخذ بالثأر لطومان باي، وقال إن السيسي هو من يمثل طومان باي الآن، وسيعدم في هذه المرة سليم الأول، دون وعي بأن من يمثله كان مملوكيا وليس مصرياً.
ولا شك أن اللجوء للتلفيق، إنما هو رصيد إضافي لصالح التسريبات. لقد أحيط بهم من كل جانب!
سطور أخيرة:
بعد أن استمعت إلى البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية، وكنت قد انتهيت من كتابة هذا المقال، أدركت أنه لا جديد يستحق تعديلا في ما كتبت!
twitter.com/selimazouz1