ماذا هناك؟!
هذا سؤال يطرحه من يتابع تفاصيل الداخل المصري، بعيداً عن ضوضاء منصات التواصل الاجتماعي التي تمثل تعبيراً عن العوالم الافتراضية بكل معانيها واهتماماتها، والتي تذكرني بمشهد من مشاهد الثورة المصرية، عندما تخطى نفر من الشباب الرقاب وقدموا أنفسهم (أو تم تقديمهم) على أنهم "أصحاب الثورة المصرية"، والتصقوا بأهل الحكم، وخصص لهم رئيس الوزراء عصام شرف حجرة في المجلس، وهو الذي وُصف زوراً بأنه رئيس الحكومة القادم من ميدان التحرير!
بعد سنة من الثورة، تبين أنه رغم هذا المشهد المُطمئن لحسن سير الأحوال، فإن أسر الشهداء لم تحصل على التعويضات التي تم التبشير بها، وأن أحداً لم يهتم بمصابي الثورة وتُركوا لحالهم. وكان هذا الاكتشاف من خلال مليونية من هؤلاء وأهاليهم، وأوشك خلالها رئيس الحكومة أن يهتف في وجوه سكان الغرفة المجاورة لمكتبه: من أنتم؟! فلم يكن يدرك أنهم ليسوا الثورة، وأنهم من الاختيار الحر المباشر للمجلس العسكري، وأن الثورة في الميدان رفعت مطالب ولم تفرز زعامات!
فالضوضاء، التي يكون مردها في كثير من الأوقات إلى تحدي الملل وتسلية وقت الفراغ، لا تعبر عن الحاصل بعيداً عن أجواء العالم الافتراضي، فالحاصل على الأرض أن هناك موجة اعتقالات جديدة، وبشكل أزعج من هم في الداخل المصري؛ وقد بدا النظام الحاكم مستقراً، وليس هناك ما يقض المضاجع بشكل يدفعه إلى هذه المداهمات!
مع تسليم كثير من المعارضين بأن حكم السيسي صار مستقراً تماماً، وموقفه أصبح أفضل من ذي قبل، إلا أن هذا على خلاف الواقع، فلم يشعر السيسي نفسه بالاستقرار، وهذه التغييرات السريعة داخل المؤسسة العسكرية إحدى الإشارات على ذلك. ويمكن مقارنة الثبات داخل المواقع العليا لهذه المؤسسة في عهد مبارك والتغييرات السريعة والمتلاحقة في عهد السيسي
مع تسليم كثير من المعارضين بأن
حكم السيسي صار مستقراً تماماً، وموقفه أصبح أفضل من ذي قبل، إلا أن هذا على خلاف الواقع، فلم يشعر
السيسي نفسه بالاستقرار، وهذه التغييرات السريعة داخل المؤسسة العسكرية إحدى الإشارات على ذلك. ويمكن مقارنة الثبات داخل المواقع العليا لهذه المؤسسة في عهد مبارك والتغييرات السريعة والمتلاحقة في عهد السيسي للوقوف على درجة القلق، حتى وإن كان قلقاً من تصورات في عقل السيسي، وليس تعبيراً عن حقائق الأشياء.
بيد أن هذا الشعور بعدم استقرار الحكم ليس سبباً في عودة المداهمات واعتقال بعض العناصر، على قلة من يتم اعتقالهم أو إعادة اعتقالهم، لكن المعنى في بطن الشاعر كما يقولون، وهو السبب في التردد إلى حد التراجع في الإفراج عن عدد من المعتقلين، لإزالة الاحتقان في العلاقة بين السيسي والإدارة الأمريكية. ورغم اللقاءات المتكررة للرئيس الأمريكي الجديد بالرئيس التركي، والاتصالات المتبادلة بينهما، فلم يرفع سماعة التلفون ويتصل بالسيسي إلا للقيام بتكليفه بمبادرة لإقناع حركة حماس بالاستجابة لطلب وقف إطلاق النار، وهو الدور الذي طلبه من القطريين، لكن السيسي طمع في احتكاره لعله يقربه من
بايدن زلفى!
دواعي القلق:
وعدم لقاء الرئيس الأمريكي بالجنرال أمر مقلق لأي سلطة حكم في مصر، لأن الحاكم في أم الدنيا يستمد من
الرضى الأمريكي شرعيته، حتى في مواجهة الشعب المصري نفسه، ولهذا كانت زيارة الرئيس المصري للبيت الأبيض سبباً في حملة ينصبها إعلامه من قبل أن تتم، وحين يحدث المراد، وبعد حدوثه.
عدم لقاء الرئيس الأمريكي بالجنرال أمر مقلق لأي سلطة حكم في مصر، لأن الحاكم في أم الدنيا يستمد من الرضى الأمريكي شرعيته، حتى في مواجهة الشعب المصري نفسه، ولهذا كانت زيارة الرئيس المصري للبيت الأبيض سبباً في حملة ينصبها إعلامه
وحتى عندما عامل الرئيس الأمريكي مبارك بازدراء، ولم يلتقه في مكتبه كما هي العادة، وإنما خرج به إلى حديقة البيت الأبيض ليكون اللقاء "على الواقف"، في ذات الوقت الذي التقى فيه رئيس وزراء إسرائيل في مكتبه، فقد عادت الجوقة من هناك وهي تعقد المقارنات. فلقاء مبارك يثبت حميمية العلاقة بين الزعيمين الكبيرين، في حين أن شكل لقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية يؤكد أنها مقابلة رسمية لا روح لها! وقد أثبتت الأيام أن مبارك نفسه كانت لديه قناعة بأن الرئيس الأمريكي تعمد إهانته، لكن الأذرع الإعلامية لم تكن تريد القول إن البيت الأبيض، وهو "مصدر الشرعية"، للرئيس يزدري مبارك، حتى لا يتجرأ عليه شعبه!
ويدرك السيسي أنه يستطيع - بحلحلة الموقف قليلاً - أن يعيد المياه إلى مجاريها مع البيت الأبيض، فالأمريكان لا يطلبون منه لبن العصفور، فليس مطلوباً منه أن يفرج عن آلاف المعتقلين، أو يقيم حياة ديمقراطية سليمة. فلو أفرج عن المعتقلات، والصحفيين، والنشطاء السياسيين، لكفّى ووفى، لكنه تردد في هذه الخطوة وتراجع بعد أن كان هناك من يبشرون بأنها ستحدث!
ربما يدرك السيسي طبيعة الأمر، وأن من سيخرجون من السجون لن يقودوا الثورة عليه، لكن في استمرار التعنت رسالة بأنه لن يرحم ولن يخضع للضغوط في أمر يختص بالمعتقلين مهما كان الثمن قاسياً، ليس فقط لأنه يشعر بعدم استقرار حكمه، ولكن لأن هناك استحقاقاً جديداً يدفعه لاستمرار الظهور بالعين الحمراء!
أزمة العاصمة الإدارية الجديدة:
فالسيسي وهو يخطط لانتقال دولته إلى ما يسمى بالعاصمة الإدارية الجديدة، بحاجة إلى تعديل
الدستور، وإلا حدثت بالانتقال إليها مخالفة دستورية، قد توصم ما يصدر من مؤسساته من قرارات وأحكام وقوانين بالبطلان، وإذا كان من الصعب أن يحدث هذا الآن بسبب سيطرته على المحاكم، فلن يمنع من حدوثه غداً، لتفريغ عهده من محتواه، وإلغاء الأثر المترتب عليه!
السيسي وهو يخطط لانتقال دولته إلى ما يسمى بالعاصمة الإدارية الجديدة، بحاجة إلى تعديل الدستور، وإلا حدثت بالانتقال إليها مخالفة دستورية، قد توصم ما يصدر من مؤسساته من قرارات وأحكام وقوانين بالبطلان
فالدستور ينص على أن المؤسسات المهمة، مثل رئاسة الدولة والحكومة، والبرلمان بغرفتيه، والمحاكم العليا مثل مجلس الدولة، ومحكمة النقض، والدستورية العليا، مقارها بمحافظة القاهرة، وكان يمكن التحايل على الأمر بضم العاصمة الإدارية الجديدة إلى إقليم القاهرة الكبرى، على أن تتبع إدارياً محافظة القاهرة، لكنه إن فعل هذا فقدت العاصمة معناها، وإن كانت إنجازاته تقوم في المقام الأول والأخير على الشكل، فلن تكون هناك قيمة مضافة للعاصمة الإدارية، وستتساوى مع المدن الجديدة مثل الرحاب وبدر والتجمعات، التي بناها مبارك في الصحراء المتاخمة للقاهرة!
والحال كذلك، فلا بد من تعديل الدستور للنص على أن تكون مقار هذه المؤسسات بالعاصمة الجديدة، وحسب المسمى الذي سيتم الاستقرار عليه!
وإذا كان التدخل الجراحي في دستورهم لسنة 2014 تم على قاعدة أنه كُتب بحسن نية، فكان التعديل لبعض مواده، فإن القادم هو دستور جديد، يليق بالمرحلة. وبدأ جس النبض والتمهيد لذلك، عن طريق أحد الأذرع الإعلامية!
ولأن الجنين في بطن أمه يعلم أن الإعلام في مصر مسيّر لا مخيّر، فلا يمكن النظر إلى دعوة نشأت الديهي إلى دستور وعَلَم جديدين لمصر؛ على أنها اجتهاد من القائل، فمثل هذه القضايا لا يجوز فيها الاجتهاد، فباب الاجتهاد معطل في المحروسة!
وإذا كان الحديث عن المرحلة وما يليق بها، فإن عنوان هذه المرحلة هو
الاستبداد، ولهذا فإن التعديل سيكون على مستوى قوانين القمع، حتى لا يكون هناك أي نص قانوني من قوانين المرحلة يمكن اعتباره مخالفاً لأي
نص دستوري!
وإذا كانت إعادة الرئاسة مدى الحياة تليق بالمرحلة، فسوف يكون الاجتهاد بجعلها مدى الحياة بالتحايل. فدورة السيسي ستنتهي في 2024، وله بحكم التعديلات الأخيرة دورة جديدة من ست سنوات، فسيكون بموجب التعديل الجديد ألا يسمح برئاسة الجمهورية لأكثر من دروتين (12 عاماً) ولفترة تنتهي في 2036، وبالتالي يكون قد تم إسقاط ما فات، تماماً كما أسقطت التعديلات الدستورية الدورة الأولى للسيسي ليبدأ العد من بعد الدستور، أي من الدورة الحالية!
الإقدام على خطوة الاستفتاء لا بد أن يكون بتمهيد الأجواء بالمزيد من القمع، لأن السيسي يدرك أنه إذا اشتعل الرفض الجماعي فلن يمكنه ممارسة المزيد من التنكيل
وبمقتضى هذا الدستور الجديد، سيتم حل البرلمان بغرفتيه، لتكون هناك انتخابات جديدة.. صحيح أنه قد يمكن تحصينه لنهاية الدورة، لكن هذا لن يحدث، فالأسباب التي تم على أساسها اختيار النواب الحاليين ضمن القائمة المحظوظة ستدفع إلى إيجاد مخرج للحل وليس للإبقاء. وليس سراً أن الأسعار تراوحت بين خمسة وعشرة ملايين جنيه للمرشح الواحد، وهناك من دفع عشرين مليوناً، ومن بين من دفعوا لم يصبهم الحظ بالاختيار، وذهب هذا "الجعل" الكبير لصاحب الحظ والنصيب!
ومن بين المواد التي يلف حولها السيسي، المادة الخاصة بتحصين موقع شيخ الأزهر، والنص على اختيار المفتي بقرار من هيئة كبار العلماء، وإذ أمكنه الإطاحة بالنص الأخير، بنص قانوني تخلّق في رحم البطلان الدستوري، فلا بد من أن يأتي الدستور مواكباً للقانون وليس العكس!
والإقدام على خطوة الاستفتاء لا بد أن يكون بتمهيد الأجواء بالمزيد من القمع، لأن السيسي يدرك أنه إذا اشتعل الرفض الجماعي فلن يمكنه ممارسة المزيد من التنكيل. فمهما كان، بايدن ليس هو ترامب، والمظاهرات في تونس والجار بالجنب (السودان) مُعدية، فحماس الشعوب ينتقل بالعدوى كما كان الربيع العربي!
لن يشعر الجنرال بالطمأنينة ولو حكم المقابر!
twitter.com/selimazouz1