الذاكرة السياسية

سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها

الكاتب اللبناني فيصل جلول يروي سيرة الزعيم الاشتراكي اليمني علي سالم البيض
الكاتب اللبناني فيصل جلول يروي سيرة الزعيم الاشتراكي اليمني علي سالم البيض

كان السيد علي سالم البيض القائد الاشتراكي التاريخي وصانع الوحدة الاندماجية اليمنية، والمبادر لقرار الانفصال والعودة إلى دولة اليمن الجنوبي السابقة، خلال حرب صيف العام 1994، كان في طليعة الشخصيات السياسية التي حَرِصتُ على أن يشملها مشروعي لتقديم نماذج من النخبة السياسة اليمنية شمالا وجنوبا على الرغم من صعوبة التواصل معه، حيث أقام في سلطنة عمان بعد نهاية الحرب المذكورة، والتزم لمدة 16 عاما بعدم الإدلاء بأحاديث سياسية في السلطنة، وذلك حتى عشية الربيع العربي. 

وكنت أشرت من قبل إلى أن مشروعي قد تعثر لأسباب عديدة، إلا أن بعض عناصره ما زال جديرا بالبحث.. وقد تنبهت إلى ذلك في أثناء فترة الحجر بسبب الـ "كورونا"، عندما كنت أقلب في أرشيفي الشخصي.

أتناول هنا عناصر أساسية من سيرة الأمين العام الأسبق للحزب الاشتراكي اليمني ونائب رئيس دولة الوحدة اليمنية وصاحب بيان التخلي عنها في تموز (يوليو) عام 1994. جريا على تناولي قبل شهور معدودة، سيرة جارالله عمر ويحي المتوكل.. وفي العام الفائت سيرة عبد العزيز عبد الغني على منبر آخر مع الشكر والتقدير لـ "عربي21" على الاهتمام بهذه المبادرة.

أبدأ بالإشارة إلى أنني كنت قد تناولت أجزاء محدودة من سيرة البيض في كتابي حول التاريخ السياسي اليمني (1962 ـ 1994)، الذي صدر في طبعتين عن دار الجديد في بيروت (1999 وعام 2000) بعنوان "اليمن الثورتان الجمهوريتان الوحدة" وهو نافد اليوم. وأقول أجزاء محدودة من سيرته بالقياس إلى سير موسعة نشرتها في الكتاب المذكور لرؤساء العهد الجمهوري في اليمن شمالا وجنوبا. 

في الواقع، كنت عازما على نشر سيرة الرئيس الراحل علي عبد صالح مع سيرة البيض في الكتاب المشار إليه أعلاه. فلم ألق تجاوبا من المعنيين الذين عرضوا علي سيرة صالح المنشورة في وسائل الإعلام الرسمية، وهي سيرة رقمية باردة لا نعرف من خلالها نشأة الرئيس وبيئته الاجتماعية وتجربته العسكرية والسياسية قبل الرئاسة ناهيك عن حياته الشخصية.

فضلّ المعنيون حينها عدم التطرق إلى هذه الجوانب والالتزام بالسيرة الذاتية الدعاوية المتداولة، لذا امتنعت عن نشرها بانتظار ظروف مختلفة تتيح لي نشر ما أراه مفيدا حول شخصية محورية في تاريخ اليمن السياسي المستمر حتى كتابة هذه السطور. 

وبما أنني كنت قد تطرقت في الكتاب إلى حرب العام 1994 وكان يجدر بي أن أتطرق أيضا إلى سيرة نائب الرئيس علي سالم البيض وخصم صالح والخاسر الأكبر في الحرب المذكورة، فقد ارتأيت أن أمتنع أيضا عن نشر سيرته ما دمت لن أنشر سيرة خصمه كما أرغب، وحصر الحديث عن تلك الفترة بمواقفه السياسية.

ربما عليّ أن أعترف في هذا المقام أنني كنت أكتب حينذاك بحماس منقطع النظير عن الوحدة اليمنية وأخالف بشدة كل من ينتقدها محقا كان أم مخطئا. كانت الوحدة شبه مقدسة عندي وعند كثيرين من المنتمين إلى التيار العربي الذي ما انفك يشعر بالمرارة لفشل الوحدة المصرية ـ السورية (1958 ـ 1961) وبالإحباط جراء محاولات العقيد الراحل معمر القذافي الوحدوية الحماسية والمتسرعة.

وأعترف هنا أيضا بأنني أهملت في حينه القسم الأكبر من المعطيات التي تحدث عنها البيض ورفاقه الذين خسروا الحرب المذكورة، وخسروا شراكتهم في الوحدة في بلد لا يرحم الخاسر أو المهزوم في قتال ضار كذلك، الذي وقع خلال صيف العام 1994.

ولعل هذا الإهمال أعوضه في هذه الحلقات حول بعض وجوه سيرة علي سالم البيض، وربما بتوسع أكثر في الجزء الثاني من الكتاب الذي أعده هذه الأيام حول تاريخ اليمن السياسي، ويتناول الحقبة الواقعة بين العام 1994 وعام "الربيع" اليمني 2011.

كان السيد علي سالم البيض المسؤول اليمني الأول الذي التقيته في بداية اهتمامي باليمن وأهله. تم اللقاء الأول في الجزائر العاصمة. كان ضيفا على المجلس الوطني الفلسطيني الذي التأم برعاية جزائرية، وتمت على هامشه مصالحة فلسطينية ـ فلسطينية ستمهد من بعد لإعلان "الدولة الفلسطينية المستقلة".. كنت أعمل حينئذ في مجلة "اليوم السابع" الفلسطينية الصادرة في باريس والمحتجبة اليوم (1983 ـ 1991)، وكان البيض يشغل منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، أي المسؤول الأول في جمهورية اليمن الاشتراكية الديمقراطية الشعبية بحسب قواعد الحكم النافذة في الدول الماركسية.

اتفقنا على اللقاء ليلا في منزل قاسم عسكر السفير اليمني في الجزائر العاصمة، حيث كان ينزل البيض. تأخرت عن موعد اللقاء ساعتين، وظننت أن وصولي متأخرا سيطيح بالموعد وسيتسبب لي بامتعاض الرجل ومساعديه، لكن "الرفيق قاسم عسكر" تفهم سبب تأخري الناجم عن وقوعي ضحية لسائق تاكسي يعمل بالعداد تجول بي وسط زحمة السير في كل أنحاء العاصمة، ولم أتمكن من وضع حد لهذه المغامرة التعسة، إلا عندما استنجدت بشرطي مرور هدد السائق وأمره بأن يوصلني بأسرع وقت إلى بيت السفير اليمني بعد أن سجل رقم سيارته.

روى قاسم عسكر ما جرى لي للبيض الذي نزل من الطابق الثاني من المنزل (دوبلاكس) مبتسما وألقى علي تحية ودية، مشيرا إلى أن أمرا من هذا النوع لا يمكن أن يقع في عدن. بدا لي في هذا اللقاء أن البيض لا يعلق أهمية كبيرة على الشروط البروتوكولية، شأنه شأن المناضلين الماركسيين خلال الحرب الباردة. دامت الجلسة إلى ما بعد منتصف الليل وختمها بدعوتي لزيارة عدن، ثم طلب من السفير قاسم عسكر أن يوصلني بسيارته إلى الفندق، كي لا أقع فريسة مرة أخرى لسائق آخر ثم قبلني مودعا وكأنه يعرفني منذ زمن طويل.

عبّر البيض في ذلك اللقاء عن غضبه الشديد من احتضان الرئيس علي عبد الله صالح للجناح الذي خسر حرب كانون الثاني/يناير عام 1986 في عدن بزعامة الرئيس الأسبق علي ناصر محمد. أذكر أنه استخدم للقياس مثالا يمنيا ريفيا بما معناه أن "تجميع المياه في مكان واحد سيدفعها إلى شق طريقها والسير في الاتجاه المتاح لها"، ومن ثم فإن تجميع أنصار علي ناصر محمد في صنعاء وافتتاح "معسكرات خاصة بهم للتدريب وإذاعة تتحدث عنهم وصحيفة تنطق باسمهم"، لا يمكن إلا أن يكون عملا عدائيا ضد جنوب اليمن، وهدد بأنه قادر هو أيضا على تجميع خصوم الرئيس علي عبد الله صالح في عدن، لكنه يمتنع لأنه يريد أفضل العلاقات مع جيران "الجنوب" وبخاصة شمال اليمن.

 

أكشف هنا سرا للمرة الأولى نقله لي السفير الفلسطيني في صنعاء، إذ أكد أن حراس علي سالم البيض وحراس علي عبد الله صالح استنفروا بمواجهة بعضهم بعضا في العام 1993 جراء التوتر بين الرئيس ونائبه وأن عرفات جاء على الفور إلى دار الرئاسة، وصفع بعض الحراس المتأهبين وفرقهمم، ومن ث حال دون اندلاع مجزرة في رأس الدولة لو وقعت لن تبقي ولن تذر.

 


وفي السياق، تحدث البيض عن اكتشاف النفط للمرة الأولى والاتفاق مع شركة "ألف أكيتين" الفرنسية (حُلّتْ الشركة من بعد) للعمل في الجنوب، إثر زيارة قام بها إلى باريس وزير النفط الجنوبي صالح بن حسينون. وربط البيض النفط بالاشتراكية قائلا: "لن يكون النفط إلا لخدمة الاشتراكية في بلادنا"، لكنه سيغير موقفه من بعد، ويعتبر أن "النفط يمكن أن يتسبب بتشتيت اليمنيين واحترابهم، ومن ثم الحؤول دون توحدهم؛ لذا قررت طي الأمر وكشفه بعد الوحدة اليمنية".

مُنِعتْ "اليوم السابع" في صنعاء بعد نشر المقابلة مع البيض، ووصل إلينا قرار المنع مصحوبا بتهديد بأن لا تدخل المجلة بعد الآن إلى اليمن الشمالي "إذا ما تكرر نشر مثل هذه المقابلات".. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد اشتكى المعنيون إلى الرئيس ياسر عرفات الذي اتصل بالمجلة، وطلب منا الحرص على النشر المتوازن بين شمال اليمن وجنوبه، علما أن عرفات كان أقرب إلى الرئيس علي عبد الله صالح في حينه، واقترح أن تؤدي "القوات الفلسطينية" الموجودة في اليمن دورا في فصل المتحاربين في أحداث يناير 1986، غير أن البيض رفض هذا الاقتراح بشدة، وقال بأنه لن يقبل أن تكون عدن مثل بيروت خلال الحرب الأهلية مقسمة بين شرق وغرب وخطوط قتال دائمة.

اللقاء الثاني مع البيض تم بعد سنوات قليلة خلال الاحتفال بعيد الوحدة اليمنية في دار الرئاسة في صنعاء، حيث شاءت الصدف أن أكون مجاورا لرفاق البيض اللبنانيين الكبار كالسيد محسن إبراهيم الأمين العام الراحل لمنظمة العمل الشيوعي والسيد نديم عبد الصمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني... صافحني البيض بحرارة وأبدى إعجابه بالخط الوحدوي الذي انتهجته "اليوم السابع"، وأشار إلى أحد رفاقه بأن يرتب موعدا للقاء به فيكون الأول بعد الوحدة.

 

عرفات كان أقرب إلى الرئيس علي عبد الله صالح في حينه، واقترح أن تؤدي "القوات الفلسطينية" المتواجدة في اليمن دورا في فصل المتحاربين في أحداث يناير 1986، غير أن البيض رفض هذا الاقتراح بشدة وقال بأنه لن يقبل أن تكون عدن مثل بيروت خلال الحرب الأهلية مقسمة بين شرق وغرب وخطوط قتال دائمة.

 



لم ألتق البيض من بعد وذلك لأسباب عديدة، أهمها أن الفترة الوحدوية التي جمعته مع الرئيس الراحل علي عبد الله لم تتعد الأربع سنوات، كانت خلالها صنعاء تعيش على وقع عمليات اغتيال طالت أنصار الحزب الاشتراكي اليمني، وصل أحدها إلى محاولة اغتيال رئيس البرلمان الوحدوي الأستاذ ياسين سعيد نعمان، فضلا عن اعتكاف البيض المتكرر احتجاجا على ما كان يسميه "تفرد صالح بالحكم" وارتجاله. ناهيك عن اتضاح وجهة رفاقه وبخاصة حيدر أبو بكر العطاس بالعودة إلى نظام الدولتين، أي إلى ما قبل الوحدة، وأخيرا إقامته في سلطنة عمان حيث تعذر اللقاء به. 

وأكشف هنا سرا للمرة الأولى نقله لي السفير الفلسطيني في صنعاء، إذ أكد أن حراس علي سالم البيض وحراس علي عبد الله صالح، استنفروا بمواجهة بعضهم بعضا في العام 1993 جراء التوتر بين الرئيس ونائبه، وأن عرفات جاء على الفور إلى دار الرئاسة وصفع بعض الحراس المتأهبين وفرقهم، ومن ثم حال دون اندلاع مجزرة في رأس الدولة لو وقعت لن تبقي ولن تذر.

في الحلقات القادمة، التي أكتبها خصيصا لـ "عربي21" كل يوم جمعة من الأسبوع، نقرأ سيرة السيد علي سالم البيض الحضرمي النشأة والثائر القومي ضد الاستعمار البريطاني، والاشتراكي الحالم بدولة المساواة والوحدوي اليمني الاندماجي، والعائد إلى دولة أطاحت بها الحرب الباردة. وسيرة شاهد على حروب يمنية متعددة الوجوه المحلية والإقليمية والدولية.

التعليقات (0)