يحلم المفكرون بأن تتجاوز أفكارهم أسوار المؤسسات العلمية لتنتشر بين الناس. والخطورة أن النقاش الجماهيري العام من دون وسائط نزيهة يعرّض كثيرا من الأفكار العميقة لسوء الفهم والتفسير، فالنقاش الجماهيري الحر يختلف عن النقاش العلمي الأكاديمي المنضبط. وهذا ما حدث مع أفكار المفكر الفلسطيني الأمريكي الدكتور وائل حلاق حين تحقق الانتشار الجماهيري لكتابه المثير للجدل "
الدولة المستحيلة"، لدرجة أنه قال في مقابلة قناة الجزيرة إن سيحتاج لإضافة نحو مائة صفحة للطبعة الجديدة لشرح ما التبس على الناس فهمه.
تحتاج أفكار حلاق كغيره من المفكرين إلى
اشتباك وأخذ ورد، لكن على أرضية علمية وليس أيديولوجية أو سياسية. فهذا ليس ملعبه أو مجاله، ولهذا يسهل إحراز كثير من الأهداف في شباكه. وهو أمر مضر ليس له ولأفكاره وحسب، ولكن للمشروع
الفكري أو بالأحرى الظاهرة الأوسع في نقد الحداثة
الغربية التي تمتد غربيا وعربيا.
تحتاج أفكار حلاق كغيره من المفكرين إلى اشتباك وأخذ ورد، لكن على أرضية علمية وليس أيديولوجية أو سياسية. فهذا ليس ملعبه أو مجاله، ولهذا يسهل إحراز كثير من الأهداف في شباكه. وهو أمر مضر ليس له ولأفكاره وحسب، ولكن للمشروع الفكري
في البداية ينبغي التنويه إلى أن هناك حملة مراجعة كبرى في ما اصطلح على تسميته العالم الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية، للأفكار السائدة ومنها أو على رأسها الجانب الأخلاقي الغائب في المنظومة الغربية، وقد ذكر حلاق جهود مفكرين مثل البروفيسور الكندي تشارلز تيلور وغيره. وجزء من هذه الحملة ظاهرة ممتدة في الدراسات الجامعية وحتى في منهجية تدريس التاريخ في المدارس تسمى "تصفية الاستعمار"، أي تنقية المواد العلمية والأكاديمية من مخلفات الحقبة الاستعمارية، أي مراجعة عديد من المسلمات التي بنيت عليها كثير من الدراسات العلمية والتي كتبت في الفترة الاستعمارية وتأثرت بها بما يتناقض ما المنهج العلمي أو كان فيها شبهة انحياز، وهي ظاهرة تشمل كل العلوم تقريبا. ففي المنهج التاريخي مثلا وخاصة الذي يتم تدريسه في المدارس، هناك محاولات إعادة الاعتبار لتاريخ الأقليات ودورهم في الغرب الذي تم تهميشه لحساب مركزية دور الرجل الأبيض في التاريخ.
يمثل وائل حلاق أحد الثورات العلمية الحديثة في الدراسات الأكاديمية الغربية خاصة المتعلقة بالدراسات الإسلامية؛ لأنه استطاع أن يهدم كثيرا من الأساطير التي بقيت لعقود تحكم العقل الأكاديمي الغربي في التعامل مع العلوم الإسلامية، باستخدام منهاج مستشرقين مثل إجناس جولتسهير وغيره. فكان من المقبول علميا في أي دراسة دكتوراة أو ماجستير عن العلوم الإسلامية غربيا أن يتهم إهمال تناول علماء مثل أبي حنيفة أو الشافعي مثلا، لكن لا يمكن التسامح مع إهمال مثل هؤلاء المستشرقين رغم ضعف كثير من نقدهم للعلوم الإسلامية.
هناك حملة مراجعة كبرى في ما اصطلح على تسميته العالم الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية، للأفكار السائدة ومنها أو على رأسها الجانب الأخلاقي الغائب في المنظومة الغربية، وقد ذكر حلاق جهود مفكرين مثل البروفيسور الكندي تشارلز تيلور وغيره
أعاد حلاق الاعتبار للتراث والتاريخ الإسلامي باستخدام مناهج البحث الغربية وزاحم هؤلاء المستشرقين كمرجع معتمد للباحثين هناك، أما
نظرية حلاق في كتاب الدولة المستحيلة فهي فرع صغير من مشروعه الفكري الكبير والجدير بالمناقشة والتأمل، وبالتالي ليس عدلا الوقوف على فرع من المشروع الفكري للحكم على المشروع ككل.
في العالم العربي وخلال العقود الماضية، حدثت هذه الثورات الفكرية على مناهج الحداثة الغربية، لكن لم تحظَ بهذا الكم من الجدل في الفضاء العام لأنها لم تكن مرتبطة بالسياسة بشكل مباشر. نذكر على سبيل المثال المشروع الفكري للمرحوم الدكتور عبد العزيز حمودة، أستاذ الأدب الإنجليزي وعميد كلية الآداب جامعة القاهرة، والذي أحدث جدلا كبيرا قبل عشرين عاما حين قدم نظرية نقديه عربية حديثة في ثلاث كتب هي "المرايا المقعرة"، و"المرايا المحدبة"، و"الخروج من التيه"، والتي نشرتها سلسلة عالم المعرفة الكويتية. وتقوم نظريته على نقد أسس النظريات النقدية العربية الحديثة المتأثرة بالحداثة الغربية، واتهمها بالتشبث بالمذاهب الأدبية الوافدة من الغرب. وأعاد قراءة
التراث العربي والإسلامي ومناهجه النقدية، وبشَّر بإمكانية قيام حداثة حقيقية مخالفة للحداثة الغربية المبنية على الشك الشامل وغياب المقدس.
يمكن أن نستوعب أن الظلال الاستبدادية الكثيفة التي خيمت على العالم العربي جعلت المتنفس الوحيد ولو بشكل لا شعوري هو العودة للماضي البعيد بشكل استنساخي مثالث، أو الهجرة الفكرية لمركز الحضارة الحديثة في أوروبا والولايات المتحدة. لكن لا يمكن استيعاب أن نهمل
المراجعات الفكرية القيمة التي تحدث في العالم العربي وفي الغرب؛ لأنها باختصار ستساهم في تغييره إن عاجلا أو آجلا كما غيرت أفكار أخرى العالم القديم وصاغت ما نحن فيه الآن.
twitter.com/hanybeshr