لطالما كان مصطلح
العلمانية مثيرا للاشمئزاز في دول خليجية، نظراً لارتباطه بدرجة رئيسية بفصل الدين عن الدولة، الأمر الذي يرفضه كبار العلماء في هذه الدول، ويرون فيه مؤامرة غربية على التشريع الإسلامي، والمسلمين بشكل عام.. أصبح هذا المصطلح في الوقت الراهن يتجذر بقوة على أرض الواقع، ولا يجد بعض العلماء حرجا في التماشي مع هذا المصطلح من بوابة طاعة ولي الأمر.
كان العتيبة، السفير
الإماراتي في واشنطن، يتحدث بكل ثقة عن حلول العلمانية مستقبلا في دول الخليج، بينما كان علماء
السعودية منشغلين بتفنيد تصريحاته، والرد عليها. ولم يمض وقت قصير حتى خطت العلمانية أولى خطواتها في مملكة آل سعود، بشكل حذر، على عكس الإمارات التي خطت واسعا في طريق العلمانية، لتصبح قطعة غربية في الجزيرة العربية.
في السعودية، نفذ الأمير الشاب محمد بن سلمان حملة اعتقالات ظالمة طالت عشرات العلماء والدعاة والمفكرين والكتّاب، في إطار حملة مسعورة تهدف لإيجاد أرضية مناسبة للعلمانية بنسختها الخليجية.
ثم تتالت الخطوت، بقرارت بدت أكثر جرأة في مجتمع محافظ، كالسماح للمرأة بقيادة السيارة، والإعلان عن مشاريع لفتح عشرات دور السينما، والسماح بالاختلاط في الملاعب، وإحياء الحفلات الغنائية.
العلمانية التي يريدها الشاب محمد بن سلمان هي تلك التي تفصل الدين عن الواقع العملي، وتسمح بالانتقاص من الشريعة الإسلامية، ولا تسمح بانتقاد النظام الحاكم أو الحاكم نفسه، والتي تسمح بالانحطاط القيمي والأخلاقي، ولا تسمح بحرية التعبير عن الآراء والأفكار بكل وضوح؛ خاصة المعارضة منها.
العلمانية التي يريدها
ابن سلمان لا تمانع في إقامة حفلات الغناء الراقصة والمختلطة، لكنها تهتز عندما يتعرض الكرسي للانتقاد، فتبيح قتل الأنفس تقطيعا وخنقا، كما حدث مع جمال خاشقجي، وتعتقل من يختلف معها سواء كان رجلا أو امرأة، تلك ضريبة لا بد منها في العهد الجديد.
لكن الملاحظ أن قرارات التغريب أو التحول للعلمانية التي اتخذها ابن سلمان، تبدو متأخرة مقارنة بتلك التي اتخذها
ابن زايد في الإمارات، وطالت صميم التشريع الإسلامي، كإباحة الزنا، وتغيير مواعيد العطلات الأسبوعية لتناسب النسق الغربي، وصولا إلى خلع العباءة الإسلامية التي تلتحف بها الدولة في قادم الأيام، واستبدالها بعباءة الدين الإبراهيمي الذي يجري ترويجه على قدم وساق تحت يافطة التسامح.
ويمكن تفسير تسارع وتيرة العلمانية في الإمارات وتباطؤها في السعودية، بعدم وجود معارضة مجتمعية في الإمارات التي أصبح سكانها أقلية بالنسبة لعدد السكان الإجمالي، فضلا عن اتخاذ الإمارات خطوات منفتحة تجاه الغرب منذ وقت مبكر. أما في السعودية فقد ظلت البلاد معقلا دينيا لعقود بسبب وجود المقدسات الإسلامية فيها، ولم تتجه للعلمنة إلا في السنوات الخمس الأخيرة مع تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، مع وجود أرضية معارضة قوية لهذا التحو؛ل لا تقتصر فقط على الداخل السعودي وإنما في سائر البلاد الإسلامية.
وبشكل عام، فإن جانبا من التحول العلماني الخليجي، يعود إلى ما أفرزته الثورات الشعبية من عودة التيار الإسلامي للساحة السياسية بقوة، وارتفاع منسوب الحريات بلدان الثورات وتأثر الدول الخليجية بما أفرزته هذه الثورات، خصوصا الإمارات والسعودية اللتين وجدتا نفسيهما أمام واقع مرعب ومستقبل مظلم لكليهما، ما دفع مسؤولي الدولتين لبذل جهد كبير لوأد مخرجات الثورات الشعبية، ضمن عملية تهدف لحماية النظام القائم وتحصينه من الثورة مستقبلا. وكانت العلمانية بجناحها الترفيهي أحد الأسلحة التي لجأت إليها هاتان الدولتان، لإلهاء الجماهير، وحرمانها من الاقتراب من الساحة السياسية، أو المطالبة بحقوقها وحرياتها.
لقد أخذت العلمانية الخليجية من العلمانية الغربية ما يخدم أنظمتها، كالانفتاح والترفيه المتنافي مع العقيدة وعادات وقيم المجتمع، وتركت ما يمكن أن يشكل خطرا عليها كحرية الرأي والتعبير والتظاهر ومعارضة النظام. وهذا الاجتزاء وإن كان محل ترحيب كثير من العلمانيين الخليجيين والعرب باعتباره انتصارا على التيار الإسلامي، إلا أنها لا تبدو مقنعة عند علمانيين آخرين، ممن يهتمون بالعمل السياسي ويقدسون الحرية والديمقراطية. بيد أن من ينظر للحقيقة ويربطها بالوقائع، يدرك أن العلمانية الخليجية ليست إلا لعبة جديدة لإلهاء الجماهير التائقة للتجديد واستدرار تأييدها، وكسب تأييد الأنظمة الغربية في الوقت نفسه.
التحول العلماني الخليجي وما رافقه من حملة قمع وجرائم وانتهاكات جسيمة بحق العلماء والدعاة والمفكرين؛ لا يمكن أن يكون حلا لمشاكل أنظمة الحكم ومساعيها للسيطرة والديمومة، ولو على حساب عقيدة الشعوب وقيمها الأصيلة، مهما حاول قادة هذا التحول دفع الجماهير إلى السير فيه، وإثبات أصالته وربطه بالماضي، باستخدام وسائل الإعلام والدعاية التي ترسم صورة لحياة علمانية في الخليج، ووأد التطرف الإسلامي ممثلا بتيار الصحوة.
قد تنجح السعودية والإمارات في إلهاء عدد من مواطنيها ممن ظلوا يعانون من الكبت والتضييق لحرياتهم فيما دون الآراء والعمل السياسي، لكنها لن تكون مقنعة لآخرين وهم كُثر؛ ممن يبحثون عن حرية الفكرة والكلمة وليس حرية الترفيه والانفتاح على الثقافة الغربية كما يحدث في الوقت الراهن في السعودية.
تبقى العلمانية تجربة بشرية لجأ إليها الغرب لحل مشكلة خاصة به، لكنها لن تكون - قطعا - حلا لمشاكل في المنطقة العربية والخليجية، إذ إن في ديننا الإسلامي من مبادئ وتشريعات ما يغنينا عن استيراد تجارب الآخرين وإسقاطها بكل تفاصيلها. واللافت أن العلمانية بنسختها الخليجية، أخذت الجانب السلبي من العلمانية الغربية وهو حرية الانحلال وتفكيك المجتمعات، وحظرت الجانب الإيجابي المرتبط بها، وهو حرية الرأي والتعبير في القضايا المختلفة خاصة السياسية منها دون عوائق أو قيود.