تَصادَفَ أن اليوم الثلاثاء (25 كانون الثاني/ يناير)، ويوم الجمعة القادم سيوافق يوم (28 كانون الثاني/ يناير)، وهما اليومان والتاريخان الخالدان في وجدان كل من خرج فيهما ليطالب بإسقاط حكم الرئيس الراحل حسني مبارك؛ وكانت شرارة اليوم الأول في بلدة ناهيا بضواحي الجيزة، واليوم الثاني هو اليوم الموسوم بـ"جمعة الغضب"، وقد سقط حكم مبارك فعليا يومها لا في يوم 11 شباط/ فبراير.
إذا كان
ما جرى في كانون الثاني/ يناير 2011 في
مصر بمثابة نجاح كبير لقوى
التغيير في مصر، فإن هناك درسيْن لا يمكن الاستغناء عنهما عند تقييم تلك التجربة؛ أولهما، أن
الثورة نجحت بوَحدة المطالب والمتظاهرين، وثانيهما، أن إزاحة رأس النظام دون تطهير لما خَلَّفَه وزرَعه في جسد الوطن، لا يكفي للتعبير عن نجاح الثورة؛ فالإزاحة خطوة مهمة لإبعاد الخيط الناظم لتلك الشبكات والمصالح، وتغييب حجر الزاوية يسمح بتصاعد صراعات مراكز القوى داخل النظام، وبقاؤهم في مناصبهم وأماكنهم التي سيطروا عليها لسنوات سيسمح لهم بإعادة ترتيب صفوفهم، وإيجاد حجر زاوية جديد يلتفون حوله. وسيحدث هذا بتغلّب الزعيم الجديد على مراكز القوى الأخرى، أو باقتناعهم بأنهم يحتاجون إلى مَنْ يلتفون حوله قبل أن يجرفهم طوفان الحماس الشعبي.
نجح المصريون في إزاحة رأس النظام، لكن القوى السياسية الفاعلة في الثورة والمجتمع أفشلت تضحيات المصريين وأبناء هذه التنظيمات، عبر دخولهم في صراعات تتعلق بتقاسم المكاسب، ثم وجدت القوى التي ثار المصريون ضدها؛ ضالتها في المشير الراحل محمد حسين طنطاوي، أو المؤسسة العسكرية على وجه الدقة، وهي المؤسسة التي حظيت باحترام وتقدير المصريين، كما أن المصريين اعتبروها شريكة لهم في إسقاط النظام عبر عدم تدخلها الخشن لفض التظاهرات. وهذا حقيقي، لكن يجب الأخذ في الاعتبار اختلاف أهداف المتظاهرين واختلاف أهداف قادة المجلس العسكري حينها، ويؤخذ في الاعتبار أيضا اختلاف نوايا ضباط الجيش المختلطين بهموم شعبهم، ونوايا قياداتهم النافذة التي كانت تتحرك بدوافع رؤيتها الخاصة المعارضة لخروج الحكم من أبناء المؤسسة إلى حاكم مدني، ودوافعها الراغبة في الحفاظ على المميزات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمؤسسة العسكرية.
يجب الأخذ في الاعتبار اختلاف أهداف المتظاهرين واختلاف أهداف قادة المجلس العسكري حينها، ويؤخذ في الاعتبار أيضا اختلاف نوايا ضباط الجيش المختلطين بهموم شعبهم، ونوايا قياداتهم النافذة التي كانت تتحرك بدوافع رؤيتها الخاصة المعارضة لخروج الحكم من أبناء المؤسسة إلى حاكم مدني، ودوافعها الراغبة في الحفاظ على المميزات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمؤسسة العسكرية
تأتي
الذكرى الحادية عشرة للثورة المصرية مصحوبة بدعوات للتظاهر وإسقاط النظام السياسي الذي انقلب على الثورة منتصف 2013، وهي دعوات الكترونية مثلما كانت الدعوات في 2011، لكن هذا التشابه في المقدمات لا يعني حتمية التشابه في النتائج.
تتشابه الظروف من جهة ضيق الواقع المعيشي، وتركُّز الثروات في يد فئة قليلة من المجتمع، وشدة
البطش الأمني المقرون بعدم المحاسبة، وغلق المجال العام أمام النقد الحكومي، وتزوير إرادة الناخبين عبر فرض جهة واحدة في الترشح دون تنوع سياسي، وهو تشابه في العنوان أكثر منه في المضمون؛ إذ تقترن الشكايات الحاصلة بحجم مظالم أوسع بأضعاف مما كان عليه الحال قبيل ثورة يناير، فهذه المقدمات تقرع باب التغيير قرعا حثيثا بانتظار من يجيب، ورغم إلحاح مطلب التغيير، يبدو أن إجابته ستتأخر.
سيتأخر التغيير لأن نظام
السيسي يحظى بنخب سياسية غير وطنية تهتم بتصفية حساباتها دون اعتبار مصلحة الوطن، وللأسف لا يمكن أن ينجح حراك جماهيري دون قيادة تحركه وتضبط مساره. مسألة القيادة قد يُشَغِّب البعض عليها بأن ثورة يناير لم يكن لها قائد، وهذه حقيقة لها جانب مكمّل لها؛ فالثورة لم يكن لها قائد واحد ينادي الناس باسمه، أو يدعوهم للاحتجاج، لكن كانت لها قيادة من التجمعات السياسية المصرية الرئيسية، وهذه التجمعات كانت ترسم مسار الاحتجاج وتدعو للتظاهر، وتُخرج التظاهرات من قلب ميدان التحرير، وتأتي بالتظاهرات من خارجه إليه، وتفعل ذلك لتوسيع دائرة الاحتجاج، فكانت هناك نواة صلبة تبني الحدث، وتقف حجر عثرة أمام محاولات إفساده، كما فعل المعتصمون في اليوم المعروف بموقعة الجمل.
سيتأخر التغيير لأن نظام السيسي يحظى بنخب سياسية غير وطنية تهتم بتصفية حساباتها دون اعتبار مصلحة الوطن، وللأسف لا يمكن أن ينجح حراك جماهيري دون قيادة تحركه وتضبط مساره
إذا كنا نتحدث عن التغيير، فإن القصد لا ينصرف على تغيير شخص بعينه، فقد يخرج الناس دون انتظار لدعم التنظيمات، كما فعلوا مرتين في 20 أيلول/ سبتمبر 2019- 2020، الأمر الذي يعني أنه قد يحدث خروج أوسع يطيح برأس النظام، لكنها إطاحة لا تعني التغيير بصورته المُثلى، بل ستتكرر تجربة الإزاحة التي حدثت عام 2011. وسيكون الانقسام السياسي بوابة هَدْرِ الإنجاز الشعبي، لذا تنبغي التفرقة بين التغيير وإزاحة شخص ما من سدّة الحكم، إذ لا يتم الأول بمعزل عن التنظيمات السياسية، أو وجود شخص أو مؤسسة تتولى الإدارة الجديدة.
بناء على هذا فإن مسار التغيير في مصر ينحصر في صورتين؛ الأولى، أن تحدث هبّة شعبية نتيجة دعوة من جهة غير فاعلة تنظيميا، أو نتاج حادثة محدودة تدحرج كرة النار في باقي الوطن، وفي ظل انقسام النخب السياسية سيكون التغيير حينها بيد المؤسسة العسكرية وحدها، واستجابتها ستتحدد بناء على مدى اتساع الاحتجاج وإصرار المحتجين، فإذا عجزت عن مواجهة الاحتجاج ستحدث عملية انتقال داخلية، يتم بموجبها تغيير هادئ في رأس السلطة، وتخفيف للأحوال الاقتصادية القاسية، وانفراجة سياسية محدودة، مع احتفاظ مراكز القوى بمكتسباتهم الرئيسية طوال فترة التيه المصري منذ منتصف 2013.
الصورة الثانية، أن تستجيب القوى السياسية لتطلعات المصريين، وتتوحد إزاء الاستبداد، وأن تدرك جميع الأطراف أنها لا تستحق أن تكون وصيّة على المجتمع فتحدد له من يجب أن يحكمه، أو أن يفرض فصيل سياسي نفسه على مناصب الحكم، وألا يستأثر فصيل به أيضا.
وينبني على ذلك أن يتفق الجميع على كون الشعب هو مصدر السلطات بحق، وأن الاختيار الشعبي هو أساس البناء الديمقراطي والتنموي، حتى لو كانت الاختيارات الشعبية خاطئة في بعض الأوقات. فالمجتمع سيتعلم والقوى السياسية كذلك ستتعلم من الأخطاء، والبناء الديمقراطي يحتاج إلى دُرْبَةٍ وطُولِ تَعَلُّم، ولا ينبغي إهدار الاختيار الشعبي بحجة أن المجتمع لا يزال يتعلم الديمقراطية. فهذه حقيقة لا تعيب المجتمع الذي عاش في ظل القمع والفساد لعقود طوال، ولا ينبغي تعزيز هذه الحقيقة عبر استمرار إقصائه، وغير مفهوم كيف لفصيل سياسي يعمل أساسا لنيل ثقة مجتمعه أن يقوم بإقصاء من يعارضه. ثم إن لهذه الحقيقة جانبا آخر أكثر وضوحا، وهو أن القوى السياسية نفسها تحتاج إلى تعلُّم الديمقراطية، ورغم نضالها المستمر لعقود، فإنها سقطت سقوطا ذريعا وخسيسا في أول تجربة، وكما يقول المَثَل: "من كان بيته من زجاج فلا يقذف غيره بالحجارة".
الواقع المصري يميل إلى ترجيح مسار عدم اتحاد المكوّن المدني إزاء السلطة الحالية، مما يجعل مسار التغيير مرهونا بالغضب الشعبي المتسع والدؤوب، وهو اختيار محفوف بالمخاطر من عدة جهات. إن الغضبة غير المحكومة بخطاب رشيد يجعلها شديدة العنف في الاحتجاج وفي القمع المقابل له، وغياب القيادة يجعل إخماد الاحتجاج وتقسيم مكوناته أسهل عبر تقديم حلول مسكّنة
إن الواقع المصري يميل إلى ترجيح مسار عدم اتحاد المكوّن المدني إزاء السلطة الحالية، مما يجعل مسار التغيير مرهونا بالغضب الشعبي المتسع والدؤوب، وهو اختيار محفوف بالمخاطر من عدة جهات. إن الغضبة غير المحكومة بخطاب رشيد يجعلها شديدة العنف في الاحتجاج وفي القمع المقابل له، وغياب القيادة يجعل إخماد الاحتجاج وتقسيم مكوناته أسهل عبر تقديم حلول مسكّنة كما جرى في أحداث 20 أيلول/ سبتمبر العام الماضي. ثم هناك القلق الفطري للأنظمة الإقليمية والدولية من عدم وجود جهة يمكن التفاهم معها في حال وجود تغيير من خارج المؤسسة، ولا يمكن إغفال هذا العامل وتأثيره على مسار الاحتجاج، لذا يظل هذا المسار محفوفا بمخاطر جمة، والأمل أن يعقل قادة القوى السياسية، وأن يتواضعوا أمام رغبات المجتمع، والأهم أن يدركوا مقدار ذواتهم التي تعاظمت دون وجه حق، فأوصلونا إلى ما نحن فيه.
twitter.com/Sharifayman86