تهب علينا نسمات ثورة يناير في كل عام، ولكنها في واقع الأمر ليست مجرد ذكرى، بل هي أعظم حدث في تاريخ
مصر المعاصر والحديث، وهي في هذا السياق تعبر عن ذاكرة ممتدة وليست ذكرى موسمية..
الذاكرة الممتدة إنما تشكل دافعاً مهماً للتذكير بهذه
الثورة وآثارها المفصلية التي أحدثتها على أرض الواقع، رغم كل تلك المحاولات التي يبذلها البعض في تشويه هذه الثورة وطمس الذاكرة المتعلقة بها. ومن هنا تبدو لنا هذه الثورة حينما تتوارد أحداث تلك الأيام الثمانية عشر، والتي عبرت في حقيقة الأمر عن أشواق هذا الشعب المصري ووعيه بضرورات التغيير، فإنها كذلك قدمت إجابات لكافة التحديات المفصلية التي تتعلق بالمجتمع المصري والمجتمعات العربية. بل إن تلك الأسئلة التي طرحت على هذه المجتمعات طيلة قرنين وكانت محلا للسجال فإن إجابات واستجابات الميدان مثلت بحق إجابة قاطعة مانعة، شافية كافية، كاشفة راشدة؛ وقدمت تلك الإجابات بتفصيلاتها ضمن هذا الملف المضغوط في الثمانية عشر يوما، فمثلت بحق مدينة فاضلة امتدت في الميادين وسرت في الأرواح، ورسخت في العقول لتؤكد أن التغيير ليس بالمسألة المستحيلة، وأن هذا الشعب قادر بوعيه الفطري الآني والممتد على أن يكون رقماً صعباً في عملية التغيير تلك.
الثورة في يناير لم تكن جولة، ولكنها ملحمة مستمرة تعبر عن أن التغيير لا بد أن يكون له تكلفة، وأن التحديات المتعلقة بالزمن ودفع الثمن مسائل ترتبط بهذه الحالة الثورية والفعل الثوري. يجب أن نتفهم ونعي أنه لا تغيير بدون ثمن، ولا ثورة بدون تضحيات. إن الثورة ليست معركة واحدة، ولكنها جملة من المعارك وجب علينا أن نحسب حسابها ونؤدي كل ما يتعلق بمسيرة التغيير المرتبطة بها؛ ضمن تلك الشروط والسنن التي تحكم عملية التدافع الثوري والتغيير المصيري.
وفي هذا المقام كانت رؤية الثورة ضمن الفترة القصيرة التي عاشتها في الميادين طيلة فترة انتقالية قام بتسييرها المجلس العسكري الذي أسهم في سرقة هذه الثورة ضمن حركته المخططة والممنهجة، فاستحقوا بحق أن يوصفوا بأنهم "لصوص التغيير".. نشلوا الثورة من أصحابها حتى يحافظوا على مصالحهم الآنية والأنانية في السلطة والتحكم بذلك النظام الذي يحتمي بمؤسسات الاستبداد، ويرفل في شبكات الفساد.
ثورة يناير كانت بين حقبتين؛ حقبة طالت على عهد مبارك "المخلوع"، وحقبة تلتها بانقلاب عسكري أسس ما أسميناه نظام الثالث من يوليو الذي مارس أعلى سياسات طغيانه، وأقسى ممارسات ظلمه، في مواجهة هذه الثورة وأهلها. ظلت هذه الثورة بين هذين القوسين اللذين شكلا طغيانا واستبدادا، وشكلت الثورة فيما بينهما حلم الحرية والتحرير، وأشواق العدل والتغيير، وأكدت بوجودها أن هذا ما يستحقه أهل مصر من عيش كريم، وحرية أساسية، وكرامة إنسانية، وعدالة اجتماعية.
وثورة يناير ليست عورة، ولكنها شرف أهل مصر الذين أرادوا كرامة للمواطن ومكانة للوطن، رغم محاولات هؤلاء من المضادين للثورة في طمس الذاكرة الثورية وفي تشويه هذه الثورة، واصفين إياها تارة بالمؤامرة، وتارة ثانية بالنكبة، وثالثة بالفوضى، وفي أحوال أخرى جعلوها ممثلة للفتنة، وجعلوا من قطع الطريق عليها اتقاء لحرب أهلية، فكانت هذه الثورة ضمن سياسات التشويه المتعمد والتي حاولوا من خلال خطاب وسرديات زائفة أن يردوا إليها كل نقيصة؛ هي سبب أزمة سد النهضة وإضعاف موقف مصر، وأن مصر وكأنها كانت تعيش في رخاء ورفاهية، وأن الثورة قد أوقفت عجلة التنمية.
وهؤلاء في حقيقة الأمر من خلال تلك السردية المزورة والمكررة يتناسون سبب الثورة، وذلك الظلم المقيم الذي طال الوطن والمواطنين على حد سواء، وانتقص من كل حقوق المواطنة؛ حق في العيش الكريم، وحق في التعبير الحر، وحق في العدالة الإنسانية قضاءً وحقوقاً وإنصافاً.
بل إنهم من بعد قد عاجلوا هذه الثورة بانقلاب فاشي، ترصد المواطن والمواطنة والوطن، فجعل المواطن بين سجنين؛ الأول حرص فيه على معاقبة كل أبناء يناير ومنتسبيها سجنا ونفيا، والآخر هو السجن الكبير الذي اتسع بحجم مصر، فأطلق غول الغلاء والأسعار، وقام بوأد كل الحقوق التي تتعلق بالمواطنة في الحرية والعيش الكريم والكرامة الإنسانية التي تلتصق به كياناً وبنياناً وإنساناً، وترصد للوطن فتنازل عن أراضيه، وبدد موارده ومقدراته، وفرّط في مياهه وغازه. كل ذلك ضمن سياسات تصادر مستقبل الأجيال بقروض داخلية وخارجية ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا يغرنك هذا الخطاب الذي بدا في الآونة الأخيرة وكأن هؤلاء يحتفون بثورة يناير، فصدق أو لا تصدق أن "
السيسي" الذي كان على رأس المضادين للثورة وتدبير الانقلاب وقطع الطريق على مسار ديمقراطي؛ هو الذي أكد على أن هذه الثورة بأيامها لن يسمح بتكرارها أو يسمح بعودتها، قائلا إن مصر قد "كشفت ظهرها وعرت كتفها"، ضمن تعبيراته القبيحة التي أراد منها أن يصدر لنا أن الثورة كانت سبباً لكل تلك الأمور التي تتعلق بالكوارث التي ارتكبها في حق الوطن، فإذا به يقول مع حلول يوم 25 كانون الثاني/ يناير هذا العام: "تهب علينا نسمات العزة والكرامة الوطنية حينما نستعيد معاً ذكرى عزيزة وغالية، ذكرى تعالت معها صيحات المطالبة بالحرية والاستقلال الوطني".
تصور! فإنه حينما يمدح وحينما يقدح فإنه المرعوب منها، لأنه يعلم أن هذه ثورة لن تموت، وأن الثورة لا زالت تسكن بين جوانحنا، الثورة كامنة في قلوبنا، قائمة بأسبابها وشروطها، راسخة بما تحمله من حلم التغيير، والأشواق والأمل بنهوض الوطن مكانةً، وعزة المواطن كرامةً.
بقي أن نؤكد أن مستقبل الثورة لا يزال باقياً، وهو محل لصناعة كبيرة يجب أن نقوم بها ضمن صناعة الأمل وهندسة المستقبل، نتعلم من تلك الدروس التي مرت بنا، ومن ثورات أخرى في التاريخ القريب والبعيد. وهنا نؤكد على أهمية أن نتفهم أن تلك الثورات حينما حدثت فرادى في بلادنا العربية فإنها استهدفتها جميعاً، وهو ما يؤكد على ضرورة أن نجعل من امتداد الأمة ميداناً لهذا التغيير الكبير القادم، بما في ذلك وضع الاستراتيجيات لمواجهة الكيان الصهيوني للجمع بين الثورات والمقاومة؛ مقاومة المحتل الغاصب للأوطان، والمحتل الغاصب للحكم والمواطن والمواطنة والوطن.
وهو أمر يستأهل أن نمكن لهذا التغيير الاستراتيجي الكبير القادم بالاستعداد له وبناء أدواته واستثمار قدرات هذه الأوطان، وكذلك تلك الشعوب التي هي صاحبة المصلحة الأساسية، فنستند إليها كظهير لتلك الثورات ونؤكد أن ثورة لن تنجح إلا بمساندة هذه الشعوب، ذلك أن علم السياسة الجديد يؤكد أن عمليات التغيير هي التي تفرض أن تكون السياسة علماً لإرادة الشعوب، التي من الواجب أن نقدم لها وليس لغيرها وعد الثورة التي تحقق مطالبها الأساسية في العيش الكريم والتحرر من كل طغيان واستبداد.
إن الإعداد للتغيير القادم لا بد أن يستند إلى ساقين؛ وعي شعبي آني وممتد، ونخبة شبابية جديدة تُمكن من صدارة مشهد التغيير وقادرة على أن تشكل قاطرة للفعل الثوري، على أن يكون ذلك مشفوعاً من أهل الثورة وأصحاب المصلحة فيها باستراتيجية خطاب يستنفر طاقة الجماهير ويصنع الأمل، ويستشرف المستقبل. من أجل ذلك فإن ثورة يناير لم تفشل، ولكنها باقية، قائمة، راسخة، مستمرة، مستأنفة، من أجل أن تُسترد الثورة لمصلحة الوطن والمواطن والمواطنة.
twitter.com/Saif_abdelfatah