هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل نحو ثلاثة أشهر استضافتني قناة "الجزيرة" الإنجليزية التلفزيونية لأُقدم بعض الإفادات عن الأوضاع في السودان بعد سقوط حكومة عمر البشير، وتمهيدا للاستضافة سألوني عن التوصيف الذي أود الظهور به قرين اسمي فقلت: "صحفي"، وكانت منتجة الحلقة التي كان مقررا أن أشارك فيها من أصل عربي وتجيد العربية، فتساءلت ضاحكة: بس هيك صحفي؟ يعني مو محلل سياسي أو خبير إعلامي؟ ثم أضافت: لا بد أن جيناتك العربية ضعيفة وإلا لما اكتفيت بصفة صحفي "حاف".
ولع العرب بالألقاب نلمسه على مدار ساعات اليوم، ولم تعرف معظم الدول العربية نظام المحاماة إلا في خمسينيات القرن الماضي وما بعدها، ولذلك كانت القلة القليلة التي امتهنت المحاماة أعلاما ونجوما، واليوم تحسب أن "المحامي" اسم عائلة عربية ممتدة موزعة في جميع دول من المحيط إلى الخليج، ولن تجد شخصا يعمل بالمحاماة إلا وطالعك اسمه منتهيا بـ "المحامي": فلان علان فلتكان المحامي، وفي السنوات الأخيرة ركب المهندسون موجة التباهي المهني التي كانت وقفا على المحامين، فصاروا يدونون أسماءهم لتبدأ بـ "المهندس"، ولك أن تتساءل: ما الذي يمنع المعلمين والمحاسبين والتشكيليين والمزارعين وغيرهم من مجاراة هذه "الموضة" بتسجيل أسمائهم متبوعة بمهنهم؟
والطبيب عندنا دكتور، وهو لقب مستحق ومعمول به في جميع أنحاء العالم، ولكن صفة "دكتور" للطبيب في الدول الغربية تقتصر فقط على المخاطبة الشفهية، فعندما يظهر إسم طبيب في مطبوعة ما عندهم فإن تعريفه يكون بالإنجليزية مثلا "إم دي MD" وهي اختصار لكلمتني "دكتور طبيب" منعا للالتباس مع حامل درجة الدكتوراه المتعارف عليها، أما عندنا فالسخاء في توزيع الألقاب يجعل البيطري والصيدلاني والمعالج الطبيعي والنفساني والوظيفي وحتى الممرض المتمرس "دكتور".
كان العرب الأقدمون يستخدمون الكنى والألقاب بما يصف حامليها أو يبين جوانب من سيرتهم أو شخصياتهم أو سلوكهم، فالشاعر ثابت بن جابر قالت أمه أنه "تأبط شرا" عندما دخل عليها يوما حاملا جرة فيها بعض الأفاعي، وأحمد بن الحسين الجعفي عرف بالمتنبي بعد أن ادعى النبوة وهو في بادية السماوة (العراق)، وقيس بن عبد الله صار النابغة الجعدي لأنه نبغ في الشعر بعد أن بلغ الأربعين، والشاعر غياث بن غوث صار الأخطل بعد أن رماه أحدهم بالسفه وفساد اللسان (الخطل) وهو صبي.
وفي صدر الإسلام فاز أبرز فرسان تلك الحقبة بألقاب وكنى لا شطح فيها ولا نطح، بل فقط تضيء جوانب من شخصياتهم أو إنجازاتهم، وانظر ألقاب الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله، فقد صار أبو بكر بن قحافة "الصّدِّيق"، لأنّه أول من صدّق رسالة النبي محمد عليه السلام، وفاز عمر بن الخطاب بلقب الفاروق، لأن إسلامه كان تفريقا للحق من الباطل، وعثمان بن عفان بــ "ذي النورين"؛ لأنّه تزوج باثنتين من بنات النبي، وعلي بن أبي طالب لا يأتي إسمه إلا متبوعا بعبارة "كرَّم الله وجهه"، وذلك لأنّه لم يسجد لصنم قط، ويُلقَّب الصحابي حمزة بن عبد المطلب بـ "أسد الله" لشجاعته في مواجهة أعداء الإسلام، أما الصحابي خالد بن الوليد، رضي الله عنه، فيلقب بـ "سيف الله المسلول"، والصحابي أبو عبيدة عامر بن الجراح، رضي الله عنه، يلقب بـ "أمين الأمة"، وسُمّي عبد الله بن العباس "حبر الأمة".
مقابل سخاء الخلفاء العباسيين في التماس الألقاب الطنانة لأنفسهم، فاز علماء وأساطين ذلك الزمان بألقاب ليس فيها أي قدر من التهويل بل فقط تلك التي توضح انتماءهم الجغرافي فالبخاري" من مدينة "بخارى"، و"الأصفهاني" من "أصفهان"، و"الطوسي" من مدينة "طوس"، والترمذي" من "ترمذ"،
أما الخلفاء العباسيون فمعظمهم فاز بألقاب غير مستحقة لإضفاء شيء من القداسة أو الطهارة على أنفسهم، فصار منهم المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم بالله، والواثق بالله، والمتوكل على الله. مما يستدعي حكاية العربي الذي جلس أمام أحد الولاة ليحقق معه في مخالفته لأمر ديني فسأله عن إسمه، فقال عبد الله. ثم ماذا؟ ابن عبيد الله. ثم ماذا؟ ابن عبد ربه، ثم ماذا؟ ابن العابد، فصاح فيه الوالي: إنك تلوذ بالله ليّاذ لئيم جبان مخادع.
ومقابل سخاء الخلفاء العباسيين في التماس الألقاب الطنانة لأنفسهم، فاز علماء وأساطين ذلك الزمان بألقاب ليس فيها أي قدر من التهويل بل فقط تلك التي توضح انتماءهم الجغرافي فالبخاري" من مدينة "بخارى"، و"الأصفهاني" من "أصفهان"، و"الطوسي" من مدينة "طوس"، والترمذي" من "ترمذ"، و"الدار قطني" من محلة "القطن" في بغداد، و"البصري" من "البصرة" و"الكوفي" من "الكوفة".
وذاعت بين أهل الحديث والسنة ألقاب مثل "شيخ الإسلام"، الذي أطلق على كثير من الفقهاء، و"حجة الإسلام"؛ و"العلامة الجهبذ"، و"شمس العارفين"، و"بحر العلوم"، و"شيخ الوقت والزمان"، و"أعلم أهل الأرض"، و"برهان الإسلام"، و"عَلَمْ الهدى"، و"الإمام الأعظم"؛ الذي أطلق على الفقيه أبو حنيفة النعمان. بينما فاز علماء الشيعة بألقاب فخمة كل واحد منها يحدد رتبة حامله في "الحوزة"، فتجد عندهم العَلَّامَةُ، والمُحَقِّقُ، والمُّحَقِّقُ الحُجَّةُ، وآيَةُ اللهِ العُظْمَى، والحُجَّةُ، وحُجَّةُ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِيْنَ، وزَعِيْمُ الحَوْزَةِ العِلْمِيَّةِ، والمُحَقِّقُ الكَبِيْرُ، وثِقَةُ الإِسْلَامِ، وعَلَمُ الهُدَى، وشَيْخُ الطَّائِفَةِ، والمَرْجِعُ الأَعْلَى.
أما عالم الأدب والشعر العربي، وخاصة المعاصر منه فقد شهد تداول ألقاب على درجة عالية من السخف، فالشاعر الجواهري أبو الفرات، وبهذا يصير دجلة مجهول الأبوين، وأحمد شوقي أمير الشعراء ولا نعرف من هو ملك الشعراء، ولماذا حافظ إبراهيم شاعر النيل دون غيره من شعراء مصر والسودان، وأمين نخلة شاعر زحلة وبالتالي فهو لا يصلح للتداول في بيروت وصيدا وطرابلس وخليل مطران شاعر القطرين (لبنان ومصر) ومن ثم لا شأن لبقية العرب بشعره.
ثم يبلغ السخاء السخيف في توزيع الألقاب شأوا عاليا عند أهل الطرب، فأم كلثوم كوكب الشرق، وكوريا وكمبوديا شرق، ولم يُبذل أي جهد لفض الاشتباك بينها وبين فايزة أحمد كروان الشرق، وفيروز سفيرة لبنان إلى النجوم ولا شأن لأهل الأرض بأغنياتها الرائعة، ووديع الصافي صوت الجبل وعليه فهو لا يصلح للتداول في وادي زحلة او أي منطقة سهلية.
وإذا مات سيبويه وفي نفسه شيء من حتى فسأموت وأنا لا أعرف كيف استحقت رابعة العدوية لقب "شهيدة الحب الإلهي"، ولا كيف يحرم بلايين المسلمين من شرف الشهادة وهم أحبوا ويحبون الله كما رابعة:
أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى .. وحــبــــا لأنـــك أهـــلٌ لـــذاك
فــأما الــذي هــو حب الهــــوى .. فشـغلـي بـذكـرك عـمـن سـواك
وأمـــا الـــذي أنــت أهــلٌ لــــه .. فكـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك
فـلا الحـمد فـي ذا ولا ذاك لـــي .. ولـكـن لك الـحـمـد فـي ذا وذاك