الجريمة المتجددة على أحياء
القدس العربية، في
الشيخ جراح وسلوان وبقية المناطق والأراضي التي تتبع المدينة المقدسة، لم تتوقف عن تصدّر المشهد المدينة المقدسة، بتزايد عمليات الاقتحام اليومي لباحات المسجد الأقصى من قبل عصابات المستوطنين وقادتهم بحماية شرطة
الاحتلال. وقد كانت خطوة عضو الكنيست الصهيوني إيتمار بن غفير باقتحام حي الشيخ جراح، مقدمة لعمليات مشابهة من قبل قادة الاستيطان الصهيوني وعتاة المتطرفين العنصريين أمثال باروخ مارزل وأريه كينج، وعشرات المستوطنين الذين أدوا الصلوات التلمودية والرقصات وعلقوا اليافطات والأعلام الصهيونية. أدوات الجريمة والمجرم يفتحون الباب مجدداً على مسلسل جرائم يتسع لارتكاب المزيد منها.
الأرقام والمعطيات والأجواء التي تحيط بأحياء القدس، تشير بمعظمها للأهداف المباشرة وغير المباشرة بتهجير وحصار من تبقى من سكان وأصحاب المدينة الأصليين. أرقام خطط الاستيطان وعمليات الطرد للسكان، وأوامر الهدم للمنازل، وسياسة الحصار المفروضة على أحياء المدينة؛ تنذر بالانفجار والعودة لنقطة البدء في الصراع مع سياسة المستعمر الصهيوني مرة أخرى.
وهذه اللحظة تجعلنا نتساءل مرة أخرى: ما الذي تفعله المواقف العربية والفلسطينية والدولية في ما يخص سياسة الاستعمار الصهيوني في المناطق
الفلسطينية المحتلة، وفي عالم عربي مكتظ ومتماوج بهذه الانكسارات التي تشعرنا بأن محاولة التعبير عن التضامن مع فلسطين مغمسة بمرارة التجربة مع هذه السياسات والمواقف التي منحت المشروع الصهيوني أبرز "نقاط النصر" المُدمر لأمانينا وأحلامنا، وأظهرت له الأنياب الورقية المسطحة على بيانات الشجب والإدانة التي غابت من قاموس السياسة العربية بفضل الانبطاح الرسمي أمام جولات العدوان؟
في أيار/ مايو من العام الماضي، تهكم كثيرون على جولة المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، بعد هبة القدس والشيخ جراح، واعتبر كثيرون أن هذه المواجهة أضرت بحملة التضامن الدولي الواسع مع الشيخ جراح، لكن التهدئة المفتعلة من قبل المؤسسة الصهيونية ولجنتها القضائية؛ لم توقف المساعي الحثيثة لها باستكمال مخطط الاستيطان في الحي وطرد السكان، ولم تصدر مواقف قوية تدين عمليات الاقتحام الاستيطاني وإغلاق الأحياء العربية لصالح موجات اقتحام المستعمرين.
وهذه سياسة ليست جديدة من قبل الاحتلال ومشروعه الاستعماري، والجديد الذي لم تعه السياسة الفلسطينية والعربية، أن المؤسسة الصهيونية وحكومات الاحتلال المتعاقبة بما يخص الصراع مع أصحاب الأرض والتاريخ؛ تستمد كل القوة الوهمية والأسباب التي تجعل من نصر المشروع الصهيوني حقيقة مجسدة على الأرض بالاستيطان والسيطرة وفرض الإملاءات من هذه السياسات.
توفير الفرص المناسبة لنجاح المشاريع الصهيونية، كان تاريخياً بفضل الدعم الذي حظيت به من الولايات المتحدة وأوربا، وبفضل تخاذل عربي تاريخي متبوع بانهيار المشروع الوطني الفلسطيني وحصره بأوسلو المتهالك ركاماً وعدواناً على رؤوس أصحابه ومنظريه منذ اليوم التالي لتوقيعه.. فُرص كتب عنها الكثيرون وخضعت للتحليل بأطنان من الورق وملايين الساعات للتفكير والهرج منذ ربع قرن، وبتفنيد ادعاءات مشاريع السلام والتطبيع والوهم، على الأقل فلسطينياً أخذ النقاش بالتحذير والكشف عن مشاريع العدو في القدس وفي كل أرض فلسطين التاريخية؛ وقته الكافي دون بناء بدائل مواجهة حقيقية لهذه المشاريع.
وبعيداً عن حاجتنا العاطفية، للحديث عن صمود وبطولة أهالي الشيخ جراح وسلوان والمرابطين في المسجد الأقصى وأكنافه، وعن بسالة عموم الشعب الفلسطيني وصموده فوق أرضه، فلكل هؤلاء حاجة مغايرة تماماً عن هذا الإسناد اللفظي. وللأسف الساحة الفلسطينية اليوم وغداً لا يتوفر فيها ما يؤشر لبناء إسناد فعلي يدعم صمود المقدسيين ويخفف عنهم العدوان، على العكس تماما، فنجد الغرق الفلسطيني الرسمي بكل وسائل الشرخ وركل وخلع أسباب القوة الذاتية في إنهاء الانقسام وإصلاح البيت الفلسطيني، وتهميش وتدمير مؤسسات منظمة لتحرير وإضعاف فصائلها وقواها الوطنية، والتشبث بكل الأوهام مهما بلغ العدوان من مدى.
لن يكون بمقدور هذه السياسة لا غدا ولا في المستقبل أن تحمي مشروعها الوطني، ولنا في مدن الضفة وأزقة مخيماتها شواهد كثيرة من نابلس إلى جنين ورام الله والخليل عن مفهوم الحماية التي تظهر عليه أجهزة أمن السلطة في كل جولة عدوان.
عربياً، الأمر غير مختلف عن حال الساحة الفلسطينية الباحثة عن نوافذ دعم عربية بالشكل الرسمي. غير مطلوب توفير حماية لمشروع مقاومة الاحتلال ومشاريعه، بل دعم لمؤسسات السلطة، وهذه حدود المطالب الفلسطينية من النظام العربي للقبول به وبالتطبيع مع الاحتلال.
أخيراً، معركة الشيخ جراح أو القدس هي قضية كل فلسطين، وهي قضية الحرية والعدالة والحق. والنظام الرسمي العربي اليوم في معركة كبرى ضد الحق والعدالة والمواطنة والكرامة، لذلك كله فتوفير إسناد حقيقي لقضية الشيخ جراح وكل قضية فلسطين يحتاج لجهود جبارة لتحويله لفعل يومي شعبي متراكم، وهي مهمة صعبة، لا يمكن أن يكتب لها النجاح تحت سلطة وأنظمة قائمة على محاربة وقتل كل ما يشير إلى الارتقاء بالإنسان وقضاياه.
twitter.com/nizar_sahli