هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من الإشكاليات الكبرى التي واجهت النخبة الوطنية في تدبير مرحلة الانتقال من وضعية الاحتلال إلى وضعية الاستقلال شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي والدستوري لمرحلة ما بعد الاستعمار وموقع الإسلام في الهندسة الدستورية الجديدة، وماذا يعني اعتبار "الإسلام هو الدين الرسمي للدولة"، بالإضافة إلى الإشكاليات المتعلقة بتوزيع السلطة.
النخب الإصلاحية ودستور ما بعد الاستقلال
فكيف تعاملت النخب الإصلاحية في المنطقة العربية مع تصميم الدستور في لحظة انتقالية حاسمة، وهي مرحلة ما بعد الاستقلال، وذلك من خلال تمرين تطبيقي من وحي التجربة المغربية، كنموذج ليس قابلا للتعميم بالضرورة من الناحية المنهجية، ولكنه نموذج معبِّر عن لحظات "الارتباك الدستوري" التي عاشتها البلاد العربية في محطات مفصلية.
لقد كان العلماء الإصلاحيون في المغرب متحمسين لإبراز الشخصية الإسلامية للدولة المستقلة، بواسطة أساليب الحكم المنتهجة، بناء على وثيقة دستورية مكتوبة، تحقق تميزا دستوريا للدولة الجديدة باعتبارها "دولة إسلامية"، لكن النخب الوطنية لم تكن لها تصورات موحدة حول حدود العلاقة بين الدين والدولة، وحول مفهوم الدولة الإسلامية، وحول مكانة الشريعة الإسلامية نفسها في الدستور. وكانت الغلبة في النهاية للنخب التي كانت لها تصورات جاهزة مستنسَخة من التجارب الدستورية الغربية، فجاء دستور دولة ما بعد الاستقلال نسخة مطابقة لدستور الجمهورية الخامسة في فرنسا.
وهو ما يؤكد بأن هناك حاجة مؤكدة للمزيد من الوضوح النظري على هذا المستوى، ومنح المشروعية العلمية الكاملة لتعميق البحث في المبادئ الدستورية التي يمكن أن يساهم بها الإسلام لإصلاح وتجديد أنظمة الحكم المعاصرة في المجتمعات المسلمة.
أفرزت تجربة العمل السياسي الوطني خلال أزيد من ستة عقود، الاعتراف بوجود أزمة سياسية تمسُّ الإطار المؤسسي الذي تُمارس داخله العملية السياسية، وانطلاقا من هذه القناعة دأبت الأحزاب السياسية الوطنية على طرح المسألة الدستورية كمدخل أساسي لإصلاح الحياة السياسية
لقد تعرض شكل الدولة في المنطقة العربية لتغييرات قسرية، هزت الكيان المعنوي لمفهوم الدولة التاريخية للمسلمين بخصائصها المستوحاة من منظومة القيم السياسية الإسلامية، ونقلتها إلى شكل جديد يتمثل في حكم الدولة القطرية الحديثة، القائمة على مجموعة من القيم والمبادئ الحداثية، التي نشأت في الغرب وتطورت داخل بيئته، مثل قيم الفردانية والمواطنة والحريات، وحقوق الإنسان، والعلمانية، والديمقراطية، والأهم من ذلك الآليات المؤسساتية والدستورية الحديثة التي عملت على تنظيم السلطة وتوزيعها، وذلك على حساب الموروث المحلي الذي لم يسمح له واقع الحماية بالتطور.
لقد عملت السلطات الاستعمارية على تحطيم البنيات التقليدية التي كانت تساهم في تنظيم حياة المجتمع الإسلامي بشكل سلس بعيدا عن هيمنة الدولة المركزية، وأحلَّت محلها بشكل قسري بنياتٍ سياسيةً وإدارية حديثة، نشأت في تربة وبيئة مختلفتين عن التربة والبيئة العربية والإسلامية، وذلك في محاكاة قسرية لنموذج الدولة الغربية الحديثة.
وفي اعتقادنا أن استيعاب هذه التحولات الجديدة من طرف المجتمع الإسلامي لم يتم بشكل كافٍ، ولم تسمح الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي بتبيئة هذه القيم الجديدة داخل التربة الأصلية للمجتمعات الإسلامية وجرى تلقُّفها كمقومات جاهزة للاستهلاك.
لكن هذا لا يمنع من القول بأن رواد الحركة الإصلاحية الوطنية انطلقوا في مشروعهم لبناء دولة ما بعد الاستقلال من محاولة التوفيق بين القيم السياسية الإسلامية والمبادئ الدستورية الحديثة، مع مراعاة خصوصية السياق المغربي ومميزاته، وهكذا حاولوا إثارة مجموعة من القضايا الدستورية الحساسة كمسألة السلطة التأسيسية التي يصدر الدستور عن إرادتها، ودافعوا عن مفهوم الملكية الدستورية، وعن مبدأ المسؤولية السياسية للحكومة، وعبروا عن اقتناعهم بأن مصدر السلطة والسيادة هي الأمة، وهكذا ساهم رواد الحركة الإصلاحية الوطنية في بث وعي ديموقراطي في أوساط النخبة السياسية، وحاولوا التوفيق بين الموروث الحضاري الإسلامي وبين مفاهيم الفلسفة السياسية الحديثة، والملاءمة بينها لصياغة منظور سياسي متقدم لبناء الدولة الوطنية الحديثة.
غير أن المراقب لتطور الحياة السياسية سيلاحظ انفصاما واضحا بين التصور النظري المعبَّر عنه، والممارسة السياسية التي كانت نابعة في نظرهم من تقدير معين لمفهوم المصلحة السياسية، خصوصا عندما تكون "موازين القوى" السياسية لا تميل لصالح الحركة الوطنية، مما جعل بعضهم يعتقد بأن أزمة الحكم في المغرب، ليست مرتبطة بعدم وجود دستور ديموقراطي حقيقي -كما كان يرى في البداية- بل إن الأزمة أعمق من ذلك، لأنها مرتبطة بأزمة القيم. فالمغرب كما رأى علال الفاسي "يعيش أزمة كبيرة تتمثل في فشل الحكومات المغربية المتعاقبة منذ إعلان الاستقلال في التوفيق ما بين الماضي والحاضر، وانعكاسات ذلك على البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية".
الحركات الإسلامية
وقد أفرزت تجربة العمل السياسي الوطني خلال أزيد من ستة عقود، الاعتراف بوجود أزمة سياسية تمسُّ الإطار المؤسسي الذي تُمارس داخله العملية السياسية، وانطلاقا من هذه القناعة دأبت الأحزاب السياسية الوطنية على طرح المسألة الدستورية كمدخل أساسي لإصلاح الحياة السياسية، اعتمادا على مرتكزاتها التاريخية والوطنية، واستلهاما من النماذج الدستورية للأنظمة الديموقراطية الغربية.
كما ظهرت الحركات الإسلامية لتسوِّغ مدخلا جديدا للإصلاح السياسي، يعتمد على المرجعية الإسلامية بشكل أساسي، ويطرح المسألة الدستورية بشكل مختلف، غير أن الظروف السياسية في البلاد لم تسمح بمراجعة النص الدستوري إلا بعد الدينامية الاحتجاجية التي أطلقتها ثورات "الربيع العربي" وتفاعل معها الشارع المغربي بطريقته الخاصة.
نلاحظ بأن علم المقاصد يمكن أن يفتح أمامنا آفاقا واسعة للبحث العلمي المؤدي إلى بناء طموح جماعي مقرون بوعي فكري وسياسي عميق لدى النخبة الإصلاحية المعتدلة بمختلف اتجاهاتها داخل الأمة
لقد كان من المهام الرئيسة للقوى السياسية الجديدة أن تبلور تصوراتها لكيفية تدبير مرحلة الانتقال الدستوري التي فرضت نفسها على جدول الأعمال الوطني.
وفي هذا السياق طرحت إشكالية العلاقة بين الدين والدولة من جديد، ومعها مكانة الإسلام في الدستور، وقد أثارت قضية حرية المعتقد نقاشا كبيرا داخل لجنة مراجعة الدستور، وقد استمعت اللجنة إلى تصورات 300 هيئة مدنية وسياسية تمثل غالبية أطياف المجتمع، وحظيت مقترحات الحزب السياسي المنحدر من الحركة الإسلامية (حزب العدالة والتنمية) باهتمام كبير من طرف المراقبين.
ولأول مرة سيتقدم حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية بمقترحات واضحة في موضوع مراجعة الدستور، وقد كانت فرصة للتعبير عن بعض المفاهيم والمقولات التي تعكس تصور الحزب لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة وترجمتها إلى مطالب قانونية واضحة.
وانطلاقا من استعراض سرديات الكتابات الإسلامية التي تعاطت مع القضية الدستورية في مراحل الانتقال السياسي والدستوري، سواء من طرف الحركة الوطنية في مرحلة الاستقلال أو من طرف الحركات الإسلامية مع الموجة الأولى للربيع العربي، يمكن القول بأن مجتمعاتنا عاشت لحظة "الارتباك الدستوري" وغياب الوضوح النظري مع البدايات الأولى للدولة الحديثة، وسادت تصورات مختلفة حول المحددات الأساسية لبناء دولة الاستقلال، ومع ذلك فقد كشفت أزمة التحول السياسي خلال مختلف المراحل الانتقالية عن استعداد النخب الإصلاحية الإسلامية للإسهام في نقاش المسألة الدستورية مع تسجيل نوع من ضعف الجاهزية الدستورانية لديها وتعثرها في إبداع منهج إجرائي أصيل في التعاطي مع الدولة الحديثة انطلاقا من المبادئ والأسس التي يستند عليها نظام الحكم في التصور الإسلامي.
لكن هذا التعثر لا يعني استحالة التوفيق بين مفهوم الحكم الإسلامي ومفهوم الدولة الحديثة كما ذهب إلى ذلك أحد الباحثين (وائل حلاق)، بل على العكس من ذلك واجهت النخب الإصلاحية الإسلامية تحدي وجود الدولة الحديثة القوي بشجاعة فكرية ولم تعمل على إنكاره، فمعظم المفكرين والعلماء الإسلاميين في العصر الحديث يقبلون الدولة كأمر مفروغ منه ويعتبرونها ظاهرة صالحة لكل زمان، لكنهم يرفعون تحديا تاريخيا يتمثل في ضرورة استعادة سلطة الأمة ومرجعية الشريعة كما ذهب إلى ذلك محمد المختار الشنقيطي.
لكن مع ذلك، ينبغي التأكيد أنه رغم التراكم الذي حصل في التعاطي مع القضية الدستورية من منظور إسلامي فإن هناك حاجة إلى المزيد من البحث العلمي الرصين لتحليل ظاهرة الدولة وتطورها في السياق الإسلامي، ووضعها في سياقها التاريخي انطلاقا من منهجية معرفية نقدية تعتمد على إعادة قراءة النصوص التأسيسية من القرآن والسنة والتجربة التاريخية للدولة الإسلامية بالاستعانة بعلم التاريخ والأخلاق والقانون والأنثروبولوجيا والفلسفة والفكر السياسي، وانطلاقا أيضا من قراءة تجاوزية للعديد من الدراسات السابقة التي تناولت مفهوم الدولة في التراث الإسلامي من زوايا معرفية مختلفة، وباعتماد منهج المقارنة أيضا مع الأبحاث التي راكمتها مدرسة فرانكفورت الألمانية وملامحها في "النظرية النقدية" ومع الفلسفة الكانطية في مجال المعرفة والأخلاق ومع الفلسفة السياسية لكل من جون رولز وتشارلز تايلور ومع البنيوية وما بعد البنيوية لميشيل فوكو وقبل ذلك مما خلفه رواد العقد الاجتماعي توماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو من تنظيرات فلسفية حول موضوعات السلطة والسيادة والقانون والأخلاق، بالإضافة إلى العديد من المفكرين الغربيين أساسا الذين اشتغلوا في حقل الفلسفة السياسية.
كما ينبغي التأكيد على ضرورة العناية بصفة خاصة بعلم المقاصد كفرع متخصص من علوم الشريعة الإسلامية، فبالرجوع إلى المصادر الأصلية في الإسلام سنجد أنفسنا أمام غياب تحديد مفصل لشكليات الحكم الإسلامي وغياب الحديث عن نظام سياسي محدد التفاصيل يمكن اعتباره نموذجا للدولة في الإسلام.
فقد توفي الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يترك وصية بمن يخلفه، ولم يترك كتاباً يحدد فيه شكل الدولة وطبيعة النظام السياسي الذي ينبغي أن يسير عليه المسلمون من بعده..
وهنا نلاحظ بأن علم المقاصد يمكن أن يفتح أمامنا آفاقا واسعة للبحث العلمي المؤدي إلى بناء طموح جماعي مقرون بوعي فكري وسياسي عميق لدى النخبة الإصلاحية المعتدلة بمختلف اتجاهاتها داخل الأمة، وتوفير مادة فكرية مساعدة على خلق نوع من الوضوح النظري في كيفية التعاطي مع مراحل التحول والانتقال السياسي، والعمل على بلورة مبادئ عامة لنظرية حقيقية في الانتقالات الدستورية والدساتير الانتقالية لمجتمعاتنا المسلمة، خصوصا بالنسبة للمجتمعات العربية التي عاشت ديناميات ثورية تطالب بالحرية والديموقراطية.