آراء ثقافية

نعمة الأغنية.. أو" نُعمى" التي نذرها زرياب للفن؟

 حليمة بنت الشيخ المعروفة باسم نعمة
حليمة بنت الشيخ المعروفة باسم نعمة

بلغت النهضة الموسيقية والغنائية عند العرب ذروتها في العصر العباسي، ولا بد هنا من ذكر إبراهيم الموصلي وإبراهيم بن المهدي، وأبي الحسن علي بن نافع الملقب بـ"زرياب" الذي كان أول من أسس معهداً للموسيقى له صيته، مما جعله قبلة للطلبة الذين توافدوا عليه من الدول الأوروبية، ومنهم ملك انجلترا جورج الثالث، الذي أوفد ابنة أخته دوبانت للدراسة به.

دور النساء في النهضة الموسيقية في العصر العباسي كان مهما، حيث برزت العديد من الأسماء التي لا تزال تذكر في هذا المجال، ومنهن على سبيل المثال "عريب" التي كانت أيضا عازفة على العود، وكانت تغني عند الخليفة الواثق الذي عرف باهتمامه بالتلحين شخصياً.

"المغنيات لم يكن عابرات"، كما أكد عماد البليك، "فقد أسسن لتطوير في الفنون الموسيقية والغناء من حيث الأداء، ووظفن جمال الصوت وبراعة الرقص في تقديم الصور التمثيلية لتمازج الإيقاعات مع لغة الجسد، ومن بينهن"شارية" التي تعتبر واحدة من أعظم المغنيات المبدعات في العصر العباسي، فقد جمعت بين حسن الوجه وكمال الأدب ورقة الصوت، ما أكسبها مكانة في بلاط الحكام، وقد تتلمذت على يد إبراهيم بن المهدي لتصبح نجمة في زمانها".

وتذكر المطربة التونسية سلاف أن الموسيقار التونسي صالح المهدي قال لها وهو يسميها باسم"سلاف" بدل دلندة الخضراوي: "سميتك باسم جارية من عهد هارون الرشيد، الذي فتن بصوتها فقرر أن تسافر معه، ولما لم يجدوا لها راحلة تنقلها، فألغوا حمولة من الذهب لتكون هي بديلا لها."

صالح المهدي الذي اختار لنفسه لقب "زرياب" وهو اسم علم مذكر فارسي، (كماجاء في قاموس معاني الأسماء) يعني ماء الذهب. وهو مركب من "زر: الذهب" و "آب: الماء". وهو كذلك: الذهب، الأصفر من كل شيء. والعرب كسروا الزاي، وعندهم بالفتح. وأخطأ من ترجمه بـ"الطائر الأسود المحسن التغريد"، فقد توهموا من زرياب المغني أكبر موسيقيي العرب في الأندلس، وكان أسودَ اللون،وشاعراً وأديباً يحفظ أكثر من 10آلاف مقطوعة من الأغاني مع ألحانها، وابتدع طرقاً جديدة في الغناء، وأضاف إلى العود وتراً خامساً جعله في وسط الأوتار الأربعة الأصلية. (توفي 845م).

غير بعيد عن هذا العالم - بل لعله كان يستحضره- كان صالح المهدي تحت تأثير مناخات الفن العربي وهو يطلق على نفسه اسم"زرياب"، أو حين اختار للمطربة التونسية بية الرحالي لقب "علية"مستحضرا عُليَّة بنت المَهْدي (160 - 210 ه‍ / 777 - 825 م) أخت الخليفة العباسي هارون الرشيد، التي تُعرف بـ العبَّاسة، و اشتهرت بشعرها وعزفها، أو وهو يختار لحليمة بالشيخ "نعمة" أو "نُعمى"، بشكل أدق، لقبا.

هل كانت حليمة بنت الشيخ (27 شباط/ فبراير 1934 - 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2020) منذورة للشهادة، وشغفها بالغناء قاتل؟

كانت "نُعمى" تتمتع بحسن وبهاء، محبوبة لشاب عربي من أجمل فتيان العرب يدعى "ظريف بن نعيم" وكان يتمتع بوسامة كبيرة.

هل كانت صورة الجميلة "نعمى" أمام زرياب أو صالح المهدي، وهو يسمي حليمة باسمها تيمنا؟ أم كان يشفق عليها ويدرك أن مسيرتها صعبة ومحفوفة بالعناء؟

هل كان يتوقع لها مستقبلا كبيرا في عالم الغناء؟

ظل اسم نعمة لصيقا بها والصواب هو "نُعمى" الجارية حسنة الصوت التي سبق الحديث عنها.

"نعمة، نعيمة ربي اسم حلو". هكذا صرحت أكثر من مرة في أحاديثها الصحفية، لم تكن تعرف حقيقة تسمية صالح المهدي لها في أواخر الخمسينات، حين قبل عضويتها في أكبر مدرسة موسيقية حينئذ: الرشيدية وسماها نعمى، لم تكن الخلفية الحضارية ماثلة لديها ولا النقاد الذين ظلوا ينادونها كما اختارت لنفسها اسم نعمة، الذي يحيل على النعم والبركات وكل شيء جميل، وهذا ما جعل اسم "نعمى" الذي اختير لها بدراية ومعرفة ليفسح المجال لـ"نعمة" البسيط في معناه والغني بدلالاته. لم تكن حليمة بنت الشيخ تدرك أن حلاوة الاسم يخفي مرارة مسيرة ستكتب بالعرق والألم.

بادلت الجارية "نُعمى" التي كانت مضرب الأمثال في الخلق والجمال، ومطمعا لكل الرجال حبيبها الحب، وفتنته بجمالها ورقتها وعذب حديثها ومنطقها وحسن أدبها وحيائها.

وتروي الدكتورة زينب بنت علي فواز في كتابها "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" الصادر عن مؤسسة الريان طبعة 2000، أن شرطة الحجاج داهمت بيت الحبيب، فانتزعوا الجارية وزجوا بالفتى في السجن، ثم ما لبثوا أن أطلقوا سراحه فهام على وجهه. أما الحجاج فما إن وقعت عيناه عليها حتى كاد عقله يذهب لما رآه من حسن وجمال.

وراودت الحجاج نفسه في أن يحتفظ بها، ولكنه خاف من وصول الخبر إلى مولاه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان في عاصمة ملكه بدمشق الشام، فقام بإرسالها فوراً طمعاً في المزيد من رضاه.

كاد اليأس يتسرب لقلب الفتى العاشق لكنه قرر لعب ورقة أخيرة: مولاي أمير المؤمنين دعني أراها لمرة واحدة، مرة واحدة فقط، اسمع صوتها تغني وليكن بعدها ما يكون.

رق قلب الخليفة حينها، وأرسل من يأتي بها بعد أن رأى تواضع مطلب الفتى، وجاءت "نُعمى" ترفل في حلة بديعة أحسن اختيارها، وما أن وقعت عيناها على فتاها ورأته على تلك الحال من الذبول والنحول حتى أغمي عليها.

سمح لها الخليفة بمجالسة الفتى الذي كان قلبه يلهج، وترتعد فرائصه قال:
غنّ لي يا نُعمي قول قيس بن ذُريح صاحب لبنى:

لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الدنيا متاع غرور

سأبكي على نفسي بعين غزيرة بكاء حزين في الوثاق أسير

فمزق ثوبه ثم قال لها غنّي قول جميل بن معمر صاحب بثينة:

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة كليلتنا حتى نرى ساطع الفجر؟

تجود علينا بالحديث وتارة تجود علينا بالرضاب من الثغر

فليت إلهي قد قضى ذاك مرة ويعلم ربي عند ذلك شكري؟

ولو سألت مني حياتي بذلتُها وجُدت بها إن كان ذلك من أمري

غنت فغشي عليه ثم أفاق، وقال لها غني قول مجنون ليلى:

عرضت على نفسي العزاء فقيل لي من الآن فايأس لا أعزك من صبر

إذا بان من تهوى وأصبح نائياً فلا شيء أجدى من حلولك في القبر

وما إن انتهت الجارية من الغناء حتى ارتاعت نفس الفتى الذي ألقى بنفسه من شاهق فسقط ميتاً من ساعته، وسط دهشة الجميع، هنا قال الخليفة: اصحبها معك أيها الغلام وردها إلى ورثته وأهله أو تصدق بها عليه.

ومضت نُعمى مع الغلام يغذان الخطى وهي شبه مترنحة من الأسى وكاد يذهب الحزن بعقلها، وبينما هما يسيران بجوار حفرة عميقة بها ماء كثير أفلتت نُعمى يدها من يد الغلام وألقت بنفسها في الحفرة العميقة، وكانت تردد قبل أن تفارق الدنيا:


من مات عشقاً فليمت هكذا *** لا خير في عشق بلا موت

هل كان زرياب (صالح المهدي) وهو يلقب حليمة بن الشيخ بـ"نعمة" أو بالأحرى "نعمى" يدرك أنه حملها مسؤولية عشق قاتل يفني صاحبه؟

كان شغف حليمة بالغناء قاتلا، وكانت منذورة للشهادة وهي تتحمل مسؤولية تنوء بحملها الجبال، ضحت بزواجها الأول والثاني، وضحت براحتها وتخلت عن كل شيء سوى عشقها للفن.

ألقت نُعمى بنفسها في هوة سحيقة من أجل من تحب، وباعت نعمة الدنيا كلها من أجل الفن وهي تغني:" تلومني الدنيا إذا أحببته". رحلت نعمة ولم تكن تدري طيلة مسيرة امتدت على حوالي سبعة عقود أنها منذورة للفن.

1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الأحد، 06-03-2022 02:02 م
'' وحدة المدرسة الموسيقية المغربية ''حمل العرب موسيقاهم إلى شمال أفريقيا بعد سقوط الأندلس سنة 1492م إلى المدن التي سكنوها أو عمّروها في تونس والمغرب والجزائر. ومن هذه المدن التي عمّروها مدينة تستور التونسية التي بُنِيَت على طراز البيوت العربية في الأندلس، والتي مازال بعض سكانها يحتفظون حتى الآن بمفاتيحها ويتوارثونها أبًا عن جد. ومع مفاتيح بيوتهم جلب عرب الأندلس فنهم الغنائي والموسيقي إلى موطنهم الجديد في شمال أفريقيا وانتشر معهم في تلك البقاع. ويقول الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل المؤرخ الموسيقي المغربي الكبير في كتابه القيِّم “مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية”: استقبلت تلمسان في القرن الثالث عشر للميلاد مهاجري قرطبة، بينما استقبلت تونس مهاجري إشبيلية، على حين استقبلت فاس مهاجري بلنسية. ومن جهة أخرى كانت غرناطة بدورها تستقبل لدى وقوع هذه الهجرات جموعًا قليلة من المهاجرين مثلها مثل الأقطار المغربية الثلاثة، ومن ثم فلا عجب أن تصبح هذه المدينة ملتقى لسائر أصناف الموسيقى التي عرفتها عواصم الأندلس الأخرى، وأن تنشأ بها مدرسة جديدة أسلوبها مزيج من الأساليب الأندلسية الثلاثة. وعندما استقبل المغرب مهاجري غرناطة بعد سقوطها في القرن الخامس عشر (1492م) امتزج أسلوب المدرسة الغرناطية بجذور المدرسة البلنسية، وتولد عن هذا الامتزاج أسلوب جديد. ومن هنا نستطيع تبيُّن الأسباب التي أدت إلى ظهور المدارس الموسيقية في أقطار المغرب والتي نجمعها في ما يلي: المدرسة التونسية وأصلها إشبيلي، والمدرسة الجزائرية وأصلها غرناطي، والمدرسة المغربية وهي متأثرة بالمدرسة البلنسية في فاس والمدرسة الغرناطية الحديثة في تطوان وشفشاون”. (انتهى الاستشهاد). ولكن كيف انتقلت الموسيقى الأندلسية من المغرب إلى المشرق ؟ وكيف انتقلت موسيقى المشرق إلى المغرب ؟ وما هي الأسباب التاريخية التي جعلت كل هذه العناصر تلتقي في مصر وجعلت من المدرسة الموسيقية المصرية اللغة الموسيقية العربية الموحدة الكلاسيكية الفصحى؟. "وحدة الموسيقى العربية ووحدة الوجدان العربي" بالرغم من الصعوبة في تفسير هذه الظاهرة فإن اللجوء إلى المراجع التاريخية المهتمة بهذا الموضوع تفسر لنا وبشكل بسيط جدًا أن وحدة الموسيقى العربية جاءت نتيجة طبيعة للرابط القومي الذي يجمع ما بين عرب الأندلس والمغرب بعرب المشرق ولحركة الانتقال الدائمة للعلماء والفنانين والكتاب العرب بين المشرق والمغرب ودائمًا عبر مصر. وبهذا الخصوص يذكر المستشرق الأسباني “آنخل كونثالث بالنثيا” ([1]) “أنه في خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين توجه من أهل الأندلس نفر من الفقهاء والمتصوفين والأطباء وأهل الأدب إلى المشرق، وكان لهم أثر عظيم هناك. وعن طريق هؤلاء انتقل الزجل إلى المشرق، وكان أول من علم أهله صناعته أبو مروان بن زهر الذي مارس الطب في بغداد، وأبو على الشالوبين النحوي، وعبد المنعم بن عمر وكان ملحنًا وفيلسوفًا وأصله من جيان، وأصبح فيما بعد شاعر صلاح الدين الأيوبي، وابن سعيد الغرناطي الذي اجتمع في المشرق بشعراء أندلسيين هاجروا من بلادهم وانصرفوا إلى صناعة الزجل في مهاجرهم”. ويتابع الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل في كتابه المذكور: “يخبرنا ابن سعيد عثمان الكعاك والصادق الرزقي أن أمية بن أبي الصلت الأشبيلي المتوفي سنة 529 هجرية لقَّن أهل أفريقيا الألحان الأندلسية ومن بينها الموشحات وأنه قضى في مصر عشرين سنة كرسها للبحث العلمي حتى برع في الفلسفة والطب والتلحين. وإذا أضفنا إلى ذلك ما رواه ابن أبي أصيبعة صاحب كتاب “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” عن انتقال أبي فضل العنساني (وهو من أطباء الأندلس وأدبائها وشعرائها) إلى الشام وإقامته في دمشق، تجمعت لدينا حصيلة من الروايات هي خليقة بأن تزكي ما ذهب إليه من انتقال الموشحات الأندلسية بألحانها إلى بلاد المشرق وخصوصًا الشام التي ما لبثت أن لمع فيها أسماء وشَّاحين بارزين كسراج الدين عمر بن مسعود الحلبي المتوفي سنة 711هـ، وخليل بن أيبك الفلسطيني المعروف بالصلاح الصفدي المتوفي في دمشق سنة 764هـ وكان متصلاً بالموشِّح (بكسر الشين) الأندلسي محمد بن يوسف بن حيان المتوفي في القاهرة، ولعله استفاد منه كثيرًا فيما يتعلق بهذا الفن. وقد بلغ من عناية الصفدي بالفن أنه ألَّف فيه كتاب “توشيح التوشيح” جمع فيه ستين موشحًا لوشَّاحين أندلسيين ومصريين وشاميين”. هذا عن انتقال الموسيقى المغربية إلى المشرق (كل ذلك عبر مصر) فماذا عن انتقال الموسيقى المشرقية إلى المغرب فمصر ؟. مؤسس الموسيقى في المغرب العربي كان زرياب الذي انطلق من بغداد إلى الأندلس في القرن التاسع ونقل معه تراث المشرق العربي وأسَّس بهذا التراث مدرسة الأندلس العربية الموسيقية جاعلاً منها مدرسة الموسيقى التي علمت أوروبا الموسيقى وصناعة الآلات الموسيقية. عبد العزيز عبد الجليل، الموسيقى الأندلسية المغربية (فنون الأداء)..