لقد أدمنت
تونس -كما معظم الدول العربية- على الدكتاتورية المطلقة، ولم تكن عشر سنوات من الحرية والديمقراطية كافية لتحول أنظار بعضهم عن الحكم الدكتاتوري المركزي الضاغط الذي يلغي الأحزاب، ويجمع السلطات والقرارات كافة في يد الحاكم، المستعد دائما للبطش بالمعارضين وإيداعهم أقبية السجون، كما يحدث اليوم على يد طاغية صغير اسمه
قيس سعيد.
لا يفكر قيس سعيد بإعادة
الديمقراطية لتونس مطلقا؛ فهو يعرف بأنها ستخرجه من الحكم، وستحاكمه وتلفظه خارج التاريخ بوصفه مارقا منه ومعتديا عليه؛ ذلك أنه هدم المؤسسات الديمقراطية الناشئة بلا هوادة، من دون خطة مقنعة، أو برنامج واضح، ولا نيّة مخلصة لإعادة الدولة إلى مربع الحرية والعدالة بأي شكل من أشكال الحكم، فهو شخص مهتز تثيره كلمة، ويستفزه تعليق راشد أو طائش لشاب في مقتبل العمر على الفضاء الرقمي، فتعمل الأجهزة الأمنية على البحث عنه واعتقاله وتعذيبه وإهانته ومحاكمته محاكمة عسكرية، ومن المرجح أن المنقلب أعد قوائم للاعتقال، ليستخدمها في الوقت المناسب لعدد من السياسيين والإعلاميين الشرفاء من المقاومين لانقلابه، وأكاد أذكر بعض أسمائهم لمعرفتي بهم وبعقلية هذا الرجل، وأين يقع الوجع في صدره المنتفخ غيظا من مواقفهم الثابتة وتصريحاتهم النافذة الفاضحة للواقع المر، الذي أوصل إليه فخامته تونس بعنجهيته وضعفه المهين!!
لا يفكر قيس سعيد بإعادة الديمقراطية لتونس مطلقا؛ فهو يعرف بأنها ستخرجه من الحكم، وستحاكمه وتلفظه خارج التاريخ بوصفه مارقا منه ومعتديا عليه؛ ذلك أنه هدم المؤسسات الديمقراطية الناشئة بلا هوادة، من دون خطة مقنعة، أو برنامج واضح، ولا نيّة مخلصة لإعادة الدولة إلى مربع الحرية والعدالة
وفي محاولة لفهم التجربة الديمقراطية في تونس، لا بد من فهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث من بعد؛ ولعله من نافلة القول بأن يتصور بعضنا أنه من غير الممكن أن تحل الديمقراطية محل الدكتاتورية في ليلة وضحاها دفعة واحدة، في أي بلد عانى من الدكتاتورية ردحا من الزمن، ولم يمر بالديمقراطية من قبل، وأنه لا يمكن أن يتم نقلها كنسخة كربونية من الغرب الأوروبي إلى الغرب العربي، إذ ربما كان الانتقال الديمقراطي في تونس -بالكيفية التي كانت- مشوبا بكثير من الأخطاء، وهي ذات الأخطاء التي حدثت في بعض دول الربيع العربي؛ فحين تخرج من دكتاتورية مطلقة إلى ديمقراطية مطلقة، وفي ظل وجود الدولة العميقة والأعداء المتربصين بالتحولات السياسية، فإنك تعطي الفرصة كاملة لأعداء الثورة ليبثوا سمومهم وأفكارهم وإرهابهم الفكري والسياسي وأكاذيبهم في نفوس الناس، بداعي الديمقراطية وحرية الرأي، بحيث يلحقون كل قصور أو نقص أو إشكالية اجتماعية أو سياسية بالثورة ومخرجاتها، خصوصا الإعلام الذي فُتحت له الأبواب على الغارب، فتخلى عن القيم والمبادئ المهنية الناظمة للعمل الإعلامي، لصالح أجنداته المشبوهة، تماما كما حدث في مصر قبل الانقلاب الغاشم؛ حيث أدى الإعلام الدور الأكبر في تشويه فترة رئاسة الشهيد محمد مرسي رحمه الله، ومهد للانقلاب عليه.
لم تكن معظم أدوات الإعلام التونسي راضية عن أداء قيس سعيد قبل الانقلاب، وكانت تضعه في سلة أعدائها من النهضة وائتلاف الكرامة، وإن بدرجة أقل. ومنذ بدأ قيس في مهاجمة خصومه من أحزاب وهيئات، بدأ الإعلام يخفف من لهجته تجاهه، وفي بداية الانقلاب بدا محايدا معظم الوقت، مع أنه كان يغمز من قناة الرئيس أحيانا، ثم شيئا فشيئا بدأت وزارة الداخلية بالتدخل في الخط التحريري للإعلام الحكومي على استحياء، إلى أن فقدت حياءها، ووصل التدخل أقصى درجة ممكنة، مما أثار نوعا من الرفض والتحدي لهذه الإجراءات من قبل إعلاميين كبار وآخرين في مناصب نقابية.
وهنا تكمن أهمية المراجعة للنمط الديمقراطي الذي أقره المجلس التأسيسي المنتخب بعد الثورة، إذ لم يتنبه المجلس ولا السياسيون المؤيدون للثورة إلى الدور الذي يمكن أن تؤديه الدولة العميقة وإعلامها المنحاز، وظنوا أن روح الثورة قادرة على القضاء بشكل تلقائي على كل عناصر القوة في النظام القديم، بما اكتسبته من جماهيرية كبيرة وزخم شعبي عريض، ولم يتنبه أيضا إلى احتمالات تعاطي الشعب مع هذا الانفتاح الديمقراطي، بعد عقود من الدكتاتورية الضاغطة؛ فأقر نظاما ديمقراطيا فيه الكثير من الحرية غير المحسوبة.
لم يتنبه المجلس ولا السياسيون المؤيدون للثورة إلى الدور الذي يمكن أن تؤديه الدولة العميقة وإعلامها المنحاز، وظنوا أن روح الثورة قادرة على القضاء بشكل تلقائي على كل عناصر القوة في النظام القديم، بما اكتسبته من جماهيرية كبيرة وزخم شعبي عريض
لعل قائلا يقول: كأني بك تناصب الديمقراطية العداء، والحقيقة أنني من ألد أعداء الدكتاتورية، ومن أشد أنصار الديمقراطية، لكن ثمة حسابات للحقل، وحسابات للبيدر، فقد كان لزاما على المجلس التأسيسي أن يقر قوانين تسمح بالتدرج في تطبيق الديمقراطية في المجتمع التونسي؛ بحيث لا يمنح الفرصة لأعداء الديمقراطية للعبث في مخرجات التغيير الجديد، وتشويه كل إيجابية قام بها النظام السياسي الفتيّ.
لقد استطاعت الدولة العميقة -بفضل الديمقراطية الجديدة- التغلغل في النظام السياسي من خلال الانتخابات البرلمانية، ومن خلال تعزيز مواقعها الإدارية في مفاصل المؤسسات الحكومية مترامية الغرف المظلمة والأغراض المشبوهة، لتعمق المشاكل الناجمة عن الفوضى التي لحقت بكل ثورة عبر التاريخ، ولكي تفاقم صورة المشهد الاجتماعي والسياسي في الدولة، بما يجعل كثيرا من البسطاء والسذج يترحّمون على حقبة الدكتاتورية وزمن ابن علي.
وجدير بالذكر أن قطاعا واسعا من الشعب فهم الحرية فهما خاطئا، فانتشرت الفوضى، وانتقلت الغالبية العظمى من الشباب إلى تقليد الغرب في الحريات الاجتماعية بشكل مبالغ فيه، وأدى ذلك إلى تمرد الجيل الصاعد على القيم والتقاليد؛ فبدأت التابوهات الاجتماعية في الانهيار على يد جيل فهم الحرية على أنها الفوضى التي تبيح له فعل ما يشاء، فلجأ إلى تخريب المرافق العمومية ووسائل النقل وإزعاج الآخرين، وإثارة الفوضى في الشارع ووسائل المواصلات، وإقامة العلاقات العاطفية خارج نطاق الزواج بشكل سافر وبكثير من التبجح والجرأة، وأدى ذلك إلى تصرفات غير مسؤولة؛ فقد أدت الحرية غير المحسوبة وارتخاء قبضة الأمن العمومي، إلى قيام قطاع من الناشئة بممارسة كل أشكال الفوضى والضوضاء، بكثير من الجهل المشوب بالتحدي لرجال الأمن، في حالة انفلات وغياب للانضباط والاحترام للحرية والديمقراطية. وقبيل الانقلاب، ازداد العبث وبلغ مبلغا لا يمكن السكوت عنه، وأظن أن يد قيس سعيد أسهمت في هذا الانفلات، لتبرير انقلابه.
أدت الحرية غير المحسوبة وارتخاء قبضة الأمن العمومي إلى قيام قطاع من الناشئة بممارسة كل أشكال الفوضى والضوضاء بكثير من الجهل المشوب بالتحدي لرجال الأمن، في حالة انفلات وغياب للانضباط والاحترام للحرية والديمقراطية. وقبيل الانقلاب، ازداد العبث وبلغ مبلغا لا يمكن السكوت عنه، وأظن أن يد قيس سعيد أسهمت في هذا الانفلات، لتبرير انقلابه
وبعد الانقلاب، لم تختفِ حالة الانفلات، بل ازدادت سوءا، خصوصا بعد أن لاحظ الشباب عجز المنقلب عن تقديم أي حلول لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية التي ازدادت سوءا، وهي في طريقها لكارثة اجتماعية، إن لم يستطع المنقلب الخروج من عنق الزجاجة الذي يضيق يوما بعد يوم.
ربما كان على المجلس التأسيسي التريث قليلا قبل أن يهب الشعب الحرية الكاملة غير المقننة، وذلك من خلال هيئة استشارية موازية للبرلمان تشبه مجلس القضاء الأعلى، تقوم بتقييم الحالة الديمقراطية من حين إلى آخر، وتدرس وعي المجتمع لكل مفردة من مفرداتها، ومدى الحاجة إليها في التوقيت المناسب والتدرج في تطبيقها.
فقد أسهمت الحرية المفرطة في كثير من الحالات إلى سوء الفهم أو الاستغلال السلبي المقصود، ولم تقم الدولة بدورها -من خلال المؤسسات التعليمية أو الإعلام- بتثقيف الشباب وعامة الشعب بمفهوم الحرية والديمقراطية، بل أسهم الإعلام في إعطاء صورة قبيحة عن الديمقراطية، حين استغل هامش الحريات وبدأ يصفي حساباته مع الخصوم السياسيين، بعيدا عن معايير مهنة الصحافة ومواثيق الشرف الإعلامي. وقد كان لحركة النهضة النصيب الأوفر من التشويه والتضليل والأخبار الزائفة حولها.
وقد أغرت الديمقراطية التي صاحبها كثير من التسيب وارتخاء القبضة الأمنية دفعة واحدة إلى استغلال التجار للوضع القائم؛ فتغولوا على الأسواق المحلية، وعاثوا في البلاد فسادا.
واستغل قيس سعيد هذه الحالة أبشع استغلال، فانقلب على الدولة وعلى الدستور، معتقدا أنه سيمثل دور البطل الشعبي والمحرر الوطني قبل أن تظهر نواياه وتتضح شهوة الحكم المطلق لديه، بعيدا عن وعوده وتصريحاته الخادعة التي أصم بها آذان التونسيين طوال فترة حكمه قبل الانقلاب وبعده.
ما كانت بدايته خاطئة، ستكون نهايته الفشل، ولذلك فإنني أرى أن الديمقراطية التي جاءت بعد الثورة لم تكن على قياس تونس، لا لأن تونس لا تستحقها، بل لأنها كانت أكبر من استيعاب قطاع كبير من الشعب الذي عاش الدكتاتورية واعتاد عليها
ليس فيما رأينا وسمعنا وعشنا هذه الأيام ما يؤشر على أن قيس سعيد سيعيد الديمقراطية لتونس، لكنه أمام الضغوط المحلية والدولية، سيترك هامشا من الحريات الإعلامية في القطاع الخاص، مع محاولات لن تتوقف لشراء ذمتها تزامنا مع توسيع نطاق الإعلام الحكومي والتحكم في الخط التحريري له، من خلال ماكنة إعلامية تقليدية فاشلة، وبسردية ملفقة خادعة، توافق معاييره وأهدافه، ولن تقنع إلا السذج والبسطاء، ولن يكون هدفها حماية المجتمع، بل حماية النظام، كما هو الحال في مصر التي يعدها قيس سعيد مثله الأعلى، ويا لضيعة الأمثال!!
ومن المدرك بالعقل والتجربة أن ما كانت بدايته خاطئة، ستكون نهايته
الفشل، ولذلك فإنني أرى أن الديمقراطية التي جاءت بعد الثورة لم تكن على قياس تونس، لا لأن تونس لا تستحقها، بل لأنها كانت أكبر من استيعاب قطاع كبير من الشعب الذي عاش الدكتاتورية واعتاد عليها، ولم يستوعب الديمقراطية وآفاقها الإيجابية، لا سيما أن الإعلام عمل على تدمير قيم الحرية والعدالة والمواطنة.
ولأن الديمقراطية -كما ذكرنا- لا تستورد في صناديق، بل تنتج على عين الوطن التي فقأها المنقلب بتصرفاته الهوجاء، وبالتناقضات التي تعتور أداءه السياسي والاجتماعي؛ فإن من المتوقع أن يعيد قيس سعيد الدكتاتورية لتونس بشكل جديد مغلف بالألوان الزاهية والكلام المنمق، لكنه يحمل في باطنه العذاب والخراب.