قضايا وآراء

التبجح بالنفاق.. و(رثاء) رئيس بين المشيعين!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

تتعرض الحالة الإعلامية في عالمنا العربي والإسلامي لهجمة انتهاك صارخة لكل ما كان يتميز به الإعلام من بعض الحرص على ضوابط المهنية وأعرافها العريقة، بدءا من الحياد.. وانتهاء بالمصداقية.. مرورا بما بينهما من موضوعية وفكر ومعرفة ونفع كبير فى توسيع دائرة الضوء الموجه إلى حدث هام، يستمد أهميته الفعلية من قيمته الحقيقية وأثره الفاعل في واقع الناس وحال الناس.. لكن المسألة تجاوزت حدها الممكن في قبول ميل هنا أو انحياز هناك وأصبح التبجح بالكذب والنفاق مكشوفا على الهواء الطلق!


أذكر أن إحدى الفضائيات العربية الشهيرة نشرت خبر عملية (ديزينكوف) التي قام بها الشهيد (رعد فتحي)، 8 نيسان (إبريل) الجاري، فور حدوثها وقبل توارد أي أنباء عن أي تفاصيل لها وعنها، نشرت على حسابها تغريده قائلة (فلسطيني يقتل أوكرانيين بتل أبيب!!!!).. هكذا، عيني في عينك كما يقولون.

المسألة هنا ليست موقفا من فكرة المقاومة، لقد تجاوزت أصلا موضوع أي فكر سواء مع أو ضد.. فالصورة عدائية للغاية.. فاجرة للغاية.. اختارت الكذب، تغدر بمشاهديها قبل أن تغدر بالحقيقة نفسها، فالعالم كله الآن يتعاطف مع أوكرانيا وشعبها ولاجئيها، وبالتالي فعليك كمتلقٍّ للخبر أن تصب جام غضبك (الخاطئ) على الفاعل.. الذي هو هنا المعادل الموضوعي في ظل الخيال.. لفلاديمير بوتين شخصيا! 

*******

وقل مثل ذلك وربما أكثر على مستوى بعض الإعلاميين وبشكل شخصي ومباشر، وبلا خجل من الناس أو حتى من زملائهم، خاصة بعد أن أصبحت وسائل التواصل الجماعي في الحواري والشوارع وملك اليمين واليسار، والصحفي الذي يخرج بأكذوبة كل أسبوع أو يوم بعد يوم تقريبا على الفضائيات متطاولا على الدين والتاريخ والتراث بوقاحة وتبجح يستفز الحجر الأصم.. ليس إلا صورة مضحكة مفضوحة من هذه الفضائية العربية، كما ستضحكنا قصة تشيكوف (الخطيب) إحدى روائع عمنا الكاتب الروسي أنطون تشيكوف (1860- 1904م) التي غاص فيها داخل النفس البشرية حتى لامس القاع  فاضحا النفاق، بل والتبجح في أدائه وممارسته.

كما رأيناها في شخصية (زابوكين) الخطيب المفوه ذي الجرأة واللسان التي يجيدها في كل الأوقات وفي تبدل وتحول مذهل وسريع الإيقاع، وكان أيضا بارعا في تحريك (جسده) بطريقة بهلوانية مثيرة يخدم بها على ما يريد قوله.. رقصا واختلاجا واهتزازا ..الخ. 

وحسنا فعل تشيكوف في حكيه لنا، حين ذكر (زابوكين) قبل أن يلبي رغبة صديقه في الذهاب إلى المقابر لرثاء رئيس صديقه مجاملة له، عرجا على الحانة وشربا كأسا! وبدأ (زابوكين) يلقي خطبته العصماء متحدثا عن أخلاق الفقيد الذى كان يتصدق براتبه على الموظفين، والذى كان لا ينام الليل من كثرة العمل، ولم يتزوج لانشغاله بقضايا الوطن، الأمر الذي أدهش المشيعين فالتفتوا إليه وإلى زوجته التي كانت بينهم في الجنازة تنتحب لرحيله، لكنه لم يلتفت لاستغرابهم.. حتى وصل إلى وصف وجه (الرئيس الفقيد) قائلا: ذاك الوجه الحليق الذي ينم عن قلب طيب مفعم بالعواطف المشبوبة، فزادت دهشة المشيعين إذ كانت لحية الفقيد طويلة جدا! وأخيرا أنهى خطبته بطلب الدعاء للفقيد بروكوفي أن يرقد بسلام.

وهنا انطلقت عاصفة غير متوقعة من الضحك في موقف إذا جاز فيه أي شيء فلا يجوز فيه الضحك على الإطلاق.. لكن الدهشة ستزول حين نكتشف أن بروكوفي كان واقفا بين المشيعين وأن المتوفى كان الرئيس الجديد (إيفانتش) الذي جاء بعد بروكوفي قبل أشهر قليلة مضت. 

*******

الآن وكما كان وكما سيكون في كل وقت.. سنجد دائما في الحياة أشرارا وأوغادا ومنافقين وسفلة.. سنجدهم هنا وهناك حولنا وفي كل جمع بيننا وسنجد أيضا الأخيار الطيبين والأطهار الصالحين، هذه هي الحياة وهذا هو اختبارها الذي يخوضه (الإنسان).. في عمره المحدود بأجل لا يعلم طوله ولا موضوعه، هو فقط يعلم أن عليه الاختيار بين (الخير) الذى يعلم طبيعته وأوصافه وبين (الشر) الذي يعلم طبيعته وأوصافه أيضا، والأخطر والأهم يعلم مصيره ومآله.. لكنه في الغالب لا يهتم بقصة مآله هذه، و(كأس السم) الذي حكت الحكايات أنه يقضي على من يتذوقه.. وفي الأغلب يصر الجميع إلا قليلا على تجربته بأنفسهم وفقا للوهم السعيد (هذا يحدث للآخرين فقط) ليكتشف بنفسه حقيقة تلك الحكايات، لكن بعد أن يكون الوقت قد فات.
 
ما هو غير الطبيعي في الحقيقة أن يكون لهؤلاء السفلة فلسفة يتبجحون بها ويبررون بها أفعالهم ويحاولون إقناع الناس أن ما يفعلونه هو طبيعي بل وضروري أيضا، وقد يصلون إلى درجة من التبجح يرون معها أن اختياراتهم وأفعالهم هذه هي الصواب الكامل الذي لا يرون غيره صوابا.

*******

في العادة سنجد أن التاريخ الشخصي للفرد السافل المتبجح كما حكى أحد أصدقاء الصحفي الذى سبقت الإشارة إليه، سنجد هذا التاريخ قد تسلل بوعي.. أو بغير وعي إلى مسار حياته كلها، العام والخاص و(الطفل.. أبو الرجل) كما تقول الأمثال، وللبيئة الأولى تأثيرها العميق وعرفنا من القرآن الكريم أن التوصية بالدعاء للوالدين مكافأة لهما على شيء عظيم صنعوه من أجلنا وغرسوه في وعينا اسمه (التربية). والآية الكريمة في سورة الإسراء تذكر ذلك بوضوح وتحديد (كما ربياني صغيرا..)، ومن فاتته تلك الغرسة الأولى سيكون قد فاته الكثير في الحقيقة مما لا يتوجب أبدا فواته.. وغفر الله لأبويه.

لست من أنصار (كما بدأت ستبقى) فهي ضد أدبياتنا الإيمانية وثقافتنا التربوية والاجتماعية في مواجهة (فخاخ الحياة) في الدنيا وبين ومع الناس، وما أكثرها. كما أن الوعي بأخطائنا جزء من رحلة نضجنا في سعينا نحو الكمال الذي لا يُدرك، لكنه يستحق السعي الدؤوب والشريف للوصول إلى أكثر ما يُدرك منه.

لكن يبقى التبجح بالسفالة وصهللة صوتها حولنا من أخطر الأمراض الاجتماعية التي يتوجب علينا مواجهتها، وعندما تصبح صريحة وفجة في الدفاع عن نفسها وتبرير دورها، ستكون بذلك قد أطلقت في سماء المجتمع كله شرارات تنذر بشرور عظيمه.. لن تبقي ولن تذر. 

والحل الصحيح في مثل هذه الأحوال والأوقات هو أن نقوم بما (نستطيعه) من قول وفعل لفضحها وكشفها، وألا نُخدع بزخارف القوة التي قد تبدو بها ولا بالتباهي الذي قد يكون يبدو فيها. 


التعليقات (0)