هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أعلنت السلطات المصرية عن وفاة الباحث الاقتصادي أيمن هدهود في مستشفى الأمراض النفسية بعد أكثر من شهرين على إخفائه قسريا. وبغض النظر عن الرواية الأمنية المتهافتة التي لا تصمد أمام أي تدقيق، إلا أن البعض عبّر عن استغرابه من اعتقال وإخفاء وتعذيب باحث اقتصادي "لا علاقة له بالسياسة" حسب تعبيرهم، مشيرين إلى أن عمل الفقيد كان يقتصر على كتابة تحليلات اقتصادية بحكم عمله فقط.
هذا التعبير عن الاستغراب أصبح في حد ذاته مثيرا للاستغراب، وربما السخط والاستياء، لعدة أسباب. فمن المفترض أننا تجاوزنا منذ زمن محاولات تحليل أسباب ودوافع انتهاكات الأمن المصري، إذ لا وجود لأي منطق أو تمييز فيها. كما أن هناك آلاف المعتقلين الذين لم يكن لهم أي علاقة بالعمل السياسي المباشر من قريب أو من بعيد، بل وحتى كانوا مؤيدين للنظام منذ 2013، ومع ذلك مازالوا قابعين في الزنازين بتهم عبثية وملفقة، ومنهم مئات توفوا جراء الإهمال الطبي.
السبب الثاني والأهم للاستغراب من "المستغربين"، أن الكتابة والبحث في مجال الاقتصاد له علاقة وثيقة بالسياسة، فمن المعروف أن الاقتصاد ليس أرقاما ومؤشرات فحسب، بل هو أولا وقبل كل شيء سياسات وانحيازات فكرية وأيديولوجية، حتى على مستوى الخطط التنفيذية والقرارات الإدارية اليومية، والسياسي هو من يحسم الجدل في ظل تباين الرؤى الاقتصادية ويختار أي الطرق سيسير فيها. ولذلك عرف منذ زمن تخصص "الاقتصاد السياسي".
أما فيما يتعلق بمصر تحديدا، فأي تحليل للتطورات الاقتصادية فيها خلال السنوات الماضية سيفضي غالبا إلى نتيجة واحدة، هي تحميل النظام مسؤولية تدهور معيشة المصريين، وتفاقم الديون لدرجة مفزعة، بعد اقتراض مئات مليارات الدولارات من عشرات الجهات المانحة وتوجيهها لصالح إقامة مشروعات غير إنتاجية. حتى إن تقريرا صدر مؤخرا عن وكالة ستاندرد آند بورز توقع أن تسجل الديون السيادية لمصر ارتفاعًا قياسيًا خلال العام الحالي، إذ قد تصل إلى 391.8 مليار دولار بعد أن كانت 184.9 مليار دولار فقط عام 2017. كما أن جزءا كبيرا من الديون الجديدة سيوجه لصالح سداد ديون سابقة.
هناك آلاف المعتقلين الذين لم يكن لهم أي علاقة بالعمل السياسي المباشر من قريب أو من بعيد، بل وحتى كانوا مؤيدين للنظام منذ 2013، ومع ذلك مازالوا قابعين في الزنازين بتهم عبثية وملفقة، ومنهم مئات توفوا جراء الإهمال الطبي.
هذه النتائج والخلاصات التي من السهل أن يصل إليها أي تحليل اقتصادي عقلاني بالتأكيد ستجعل الباحث الراحل أيمن هدهود عرضة للتنكيل والانتقام من السلطات الأمنية التي لا تتحمل رأيا مخالفا في أي مجال، حتى في الفن والرياضة، فما بالنا بمجال حساس مثل الاقتصاد.
أمر آخر لفت البعض الانتباه إليه فيما يتعلق بقضية هدهود، هو أن الفقيد عضو في حزب الإصلاح والتنمية الذي يترأسه البرلماني السابق محمد أنور السادات، الذي يبذل جهودا لإطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين بالتنسيق مع أجهزة أمنية وسيادية. وبالتالي هناك احتمال أن يكون ما حدث رسالة من جهاز أمني ما للسادات لتذكيره بألا يتجاوز حدوده. والشاهد هنا أن هذا ربما يكون دليلا إضافيا آخر على أن السياسة مرتبطة بكل شيء، وأن "الحياة سياسة" على حد تعبير المفكر آصف بيات في كتابه الذي يحمل نفس العنوان ونقتبسه هنا منه.
وأخيرا نأتي للنظام نفسه، فبعيدا عن عدم تحمله لأي إشارة ولو من بعيد لأخطاء في سياساته، فإنه أول وأكبر الجهات التي تسيّس كل شيء، رغم أنه يستنكر على المعارضة "تسييس" نفس الأمور. فحدث بسيط مثل نقل المومياوات الفرعونية في أبريل / نيسان من العام الماضي، حفل بالتسييس الفج من جانب المسؤولين الذين لم يدعوا الفرصة تمر دون أن يهاجموا ثورة يناير ويحملوها مسؤولية تأخر استكمال إنشاء المتحف القومي للحضارة المصرية الذي نقلت إليه المومياوات.
كما نشرت اللجان الإلكترونية الداعمة للنظام وبعض المشاهير صورتين متقابلتين تقارنان بين ميدان التحرير أثناء الثورة والميدان أثناء موكب نقل المومياوات، للإشارة إلى "الخراب" الذي تسببت به الثورة. وهذا مثال واحد فقط لعشرات الأحداث التي استغلها النظام وأذرعه الإعلامية لتسييسها عبر الدعاية لنفسه وتشويه الثورة معارضيه، مثل تحميل الثورة مسؤولية بناء سد النهضة الإثيوبي، واتهام الإخوان بالوقوف وراء حوادث القطارات التي لا تتوقف، وحتى مباريات المنتخب الوطني وغيرها.
وبالطبع لا تمثل الفقرات السابقة تبريرا بأي شكل لجريمة اعتقال وإخفاء وتعذيب أيمن هدهود، لكنه تفكيك لخرافة لا تزال سائدة بين كثيرين يتوهمون أن العمل التخصصي الدقيق في مجال ما لن يكون له علاقة بالسياسة وأن هذا كفيل باتقاء شر النظام، وهو أمر ثبت عدم صحته مع الأسف آلاف المرات، والمعتقلات التي تعج بالباحثين والصحفيين وأساتذة الجامعات والأطباء والمحامين والمهندسين أكبر دليل على ذلك.