قلْ في رئيس
تونس المنتخَب -وهذا نعت محوريّ- ما شئت فلن تخالف الصواب. قُلْ إنه دكتاتور ناشئ، وأنه دمّر المسار الانتقالي والمؤسسات، واستبدّ بالسلطة وأغلق البرلمان واغتصب القضاء.. قُلْ ما شئت فأنت على حق، لكنك لا تستطيع أن تتهمه بالانقلاب على الدولة. لم ينقلب الرجل على الدولة لأنه لم تكن توجد دولة أصلا، بمعنى دولة المؤسسات ودولة القانون ودولة سيادة المواطن في وطنه. فالدولة الحقيقية تمنع الانقلاب عليها، أمّا الدولة التي يستطيع فيها فرد مغامر أن يجمع كل السلطات في يده بين ليلة وليلة فسمها ما شئتَ إلا أن تسمّيَها دولة.
قد يبدو هذا المنطق معكوسا متناقضا لا يستقيم تحليلا وتأويلا، لكنه في الواقع أصل الحكاية. كيف ذلك؟ الرئيس التونسي المنتخب "قيس سعيّد" بكل مساوئه هو نتيجة طبيعية لمسار كامل من مسارات
الثورة التونسية، بل هو في الحقيقة أعلى وأوضح تجليات النخب التونسية وأحسن ممثل لطبيعة الكائن السياسي التونسي ولخاصية ما يُسمّى "دولة تونسية".
من العبث بل ومن التجني الظالم أن نضع على عاتق الرئيس الحالي مسؤولية ما يحدث في البلاد من فوضى سياسية وأزمة اجتماعية وانهيار للخدمات وإفلاس للبنوك. نقول ذلك لأنّ الانقلاب على الثورة لم يبدأ معه، بل بدأ مع فجر الثورة نفسها وانطلق فور هروب الطاغية ابن علي، ولا يزال النزيف مستمرا إلى اليوم وسينتهي حتما إلى الخراب الكبير ما لم تحدث معجزة.
من العبث بل ومن التجني الظالم أن نضع على عاتق الرئيس الحالي مسؤولية ما يحدث في البلاد من فوضى سياسية وأزمة اجتماعية وانهيار للخدمات وإفلاس للبنوك. نقول ذلك لأنّ الانقلاب على الثورة لم يبدأ معه، بل بدأ مع فجر الثورة نفسها وانطلق فور هروب الطاغية ابن علي، ولا يزال النزيف مستمرا
الغصن والشجرة
البلاد العربية قطعة واحدة لا في وحدة أرضها ومصيرها وتاريخها ولغتها، كما روّجت لذلك أدبيات "القوميين الشبّيحة" قبل أن ينقلبوا قتلة سفاحين، بل هي قطعة واحدة من الفساد والاستبداد وغياب السيادة وخيانة النخب وحكم الوكيل. لا أحد يستطيع أن ينكر أنّ "الأمة" من المحيط إلى الخليج تسبح اليوم في أبشع الأطوار التاريخية، بعد أن بلغت تراكمات الاستبداد وترسبات القمع فيها المرحلة الأخيرة، وهي "مرحلة الاحتراق الذاتي" كما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا والعراق ولبنان وتونس والسودان.. وهو المآل الحتمي لبقية مزارع "سايكس بيكو" جميعها حسب منطق التاريخ، وإن ظن بعض السذّج منهم أنّه مستثنى من الطوفان الكبير نسجا على مقولة الفرقة الناجية أو المركب الناجية.
لا توجد في الحقيقة دولة عربية مستقلّة ذات سيادة، بل هي محميات ومزارع تتقاتل فيها الأجنحة والأطراف العسكرية والمدنية والقبليّة على فتات ما يتركه الوكيل الكبير الحاكم من وراء البحار. فمصير المجتمعات والأنظمة وحتى طعم قطعة الخبز في الصحن الذي أمامك إنما تحدده السفارات والقنصليات وأجهزة المخابرات؛ التي ترتع في بلاد العرب طولا وعرضا وعمقا وارتفاعا منذ أكثر من قرن من الزمان.
فالانقلابات التي هي شكل التغيير السياسي الوحيد الممكن في بلادنا إنما تصوغها وتحدد توقيتها قوى خارجية هي الحاكم الحقيقي لبلاد العرب، بحسب ما تمليه مصالحها الإقليمية وجغرافيتها الدولية. وليس الانقلابيون العرب من العسكريين والمدنيين والقبليين والنخب الدائرة في فلكهم إلا أدوات رخيصة وأذرعا تنفيذية للمخططات الدولية.
بل الأخطر من كل ذلك وهو الجديد الذي كشفته الثورات الأخيرة، أنّ المعارضة العربية بأطيافها اليسارية والقومية والليبرالية وحتى الإسلامية ليست إلا شريكا مباشرا وغير مباشر في إنجاح الانقلابات، وفي تأبيد الاستبداد وإحياء هياكل التدمير والقمع.
الأخطر من كل ذلك وهو الجديد الذي كشفته الثورات الأخيرة، أنّ المعارضة العربية بأطيافها اليسارية والقومية والليبرالية وحتى الإسلامية ليست إلا شريكا مباشرا وغير مباشر في إنجاح الانقلابات، وفي تأبيد الاستبداد وإحياء هياكل التدمير والقمع
بناء عليه، فإنّ نجاح الانقلابات العربية هو الدليل القاطع على أكذوبة "الاستقلال" و"الدولة الوطنية" و"السيادة الوطنية"، حيث يمكن لكل مغامر مقامر أن يصل إلى السلطة إن هو وُجد في المكان المناسب وفي التوقيت المناسب لخطط قوى الحكم الخارجية.
ثورة بلا مخالب ولا أنياب
كان جليا ظاهرا منذ الأيام الأولى التي تلت الثورة أنّ أقطاب الدولة العميقة وركائزها لم تُمسّ بسوء، بعد أن نجح "عجائز النخب" في إبعاد الشباب الثائر من المشهد والاستحواذ على السلطة. بل كثيرون يرون اليوم أن العجائز الذين حكموا تونس قد جيءَ بها من المهجر عن قصد لهذا الهدف تحديدا، وهو منع جيل شاب ثائر من الوصول إلى السلطة.
كانت مراكز الاستشعار العالمية تخشى من انكسار الهياكل والنظم الحزبية والمدنية والنقابية والدينية -سلطة ومعارضة- والتي أمضت عقودا في صيانتها وتركيز سلطانها وسطوتها على الدولة والمجتمع وخبرت أفعالها وردود فعلها. كان كلّ همّها أن لا تصنع الثورة جيلا شديدا من الشباب الثائر الذي قد يتمكّن من قطع الحبل السرّيّ الذي يربطها بمستعمراتها القديمة.
هكذا بقيت الأذرع الإعلامية في مكانها تعمل جاهدة على امتصاص الصدمة الثورية الأولى، وعادت قوى النظام القديم مستغلّة عودة عجائز المعارضة من الإسلاميين والحقوقيين والمناضلين الذين طالبوا بنصيبهم من الكعكة التي حرمهم منها بورقيبة وابن علي طويلا. كانت السلطة والمناصب بوصلة الجميع، ولم يلتفت أحد منهم إلى خطورة السكوت عن النزيف الإعلامي، ولا عن الفشل في المصادقة على قانون تحصين الثورة وقانون العزل السياسي ومحاسبة أركان الاستبداد، وتنصيب المحكمة الدستورية وتطهير القضاء والأمن والنقابات وبقية مفاصل الدولة التي نخرها الفساد.
كان الرجل المريض يتقدّم يوميا نحو القبر تدفعه آلاف الإضرابات والاعتصامات، وتحثّ سيره نحو الهاوية الاغتيالاتُ السياسية والفوضى البرلمانية قبل أن تعصف به آثار الجائحة. لم يلتفت حلفاء الأمس ممن وحدّهم القمع وعصا "ابن علي" إلى انحراف المسار، بل عادوا إلى حروبهم الأيديولوجية الطاحنة التي جُلبوا من المهجر لأجل إحيائها وفشلوا في تكوين جبهة موحّدة أمام ضباع الدولة العميقة المترصّدة.
كان انتكاس الثورة أو الانقلاب على المسار الانتقالي تحصيلا حاصلا ونتيجة حتمية لأخطاء النخب التي أمسكت السلطة بعد الثورة، واختارت التغاضي عن جرائم الاستبداد من أجل ضمان مقعد مريح في الحكم. وكانت كل المؤشرات الداخلية والخارجية وخاصة الاجتماعية منها تشير إلى نسق الأزمة التصاعدي، وصولا إلى الموعد الانتخابي الرئاسي والبرلماني يوم خرج "قيس سعيّد" نبيا منقذا من فساد النخب والسياسيين، مبشرا بعصر الجماهير والبناء القاعدي وتنسيقيات الحشد الشعبي.
صحيح أنّه المستطيع بغيره، وصحيح أيضا أن ما قام به مخالف للدستور والقانون لكنّه تجرّأ على فعله رغم خروقاته تلك، في حين لم يتجرّأ غيره على فعل الصواب يوم كان في الحكم ويوم كانت رياح الثورة مواتية. كانت الأيادي المرتعشة التي سبقت 2019 هي المسؤول الفعلي عن الانقلاب اليوم، وهي التي أوصلت الرجل إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية بعد أنّ ظن كل واحد منهم أنه الزعيم الأوحد فتشتت اًصوات الناخبين
بين المرزوقي والغنوشي وسعيّد
ليس المقام هنا مقام محاسبة أو تشف أو انتقام، فقد كُتبت في هذا المقام مقالات كثيرة تنتصر للشخصيات الثلاثة دعما أو تشجيعا أو منافحة، بل المقام اليوم هو مقام المحاسبة الفكرية والمعنوية الأخلاقية في انتظار المحاسبة التاريخية. صحيح أنّ الشعوب العربية شعوب عاطفية تكوّنت ردود فعلها على الاختيار بين ثنائية الملائكة والشياطين، دون احتكام إلى السياقات وإلى ما قدّمه كل فرد في موقع المسؤولية يوم كانت السلطات بيده.
لا يختلف ثلاثتهم في العمق رغم تباين السياق، بل يمكن القول إنّ قيس سعيّد أشجعهم وأكثرهم جرأة وقدرة على الفعل، بقطع النظر عن مسار هذا الفعل واتجاهه. من كان يجرؤ على إغلاق البرلمان؟ ومن كان يستطيع عزل القضاة؟ ومن كان بإمكانه تركيع الإعلام والحكومة والأمن وكل قوى البلاد الحية في وقت قياسي؟ من كان يجرؤ على التصادم مع وكر النقابات "الاتحاد العام التونسي للشغل" الذي هو عمود أعمدة الاستبداد والفساد في البلاد؟
صحيح أنّه المستطيع بغيره، وصحيح أيضا أن ما قام به مخالف للدستور والقانون لكنّه تجرّأ على فعله رغم خروقاته تلك، في حين لم يتجرّأ غيره على فعل الصواب يوم كان في الحكم ويوم كانت رياح الثورة مواتية. كانت الأيادي المرتعشة التي سبقت 2019 هي المسؤول الفعلي عن الانقلاب اليوم، وهي التي أوصلت الرجل إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية بعد أنّ ظن كل واحد منهم أنه الزعيم الأوحد فتشتت اًصوات الناخبين وكان الذي تعلمون.
ليس قيس سعيّد وما يأتيه من تدمير لمسار الثورة التونسية مسؤوليته الفردية، بل نجح الرجل في تحيّن فرصة تاريخية وصعد على أنقاض صراعات النخب البائسة التي أكلت زمانها والتهمت زمان جيل الثورة، حبا في الزعامة وطمعا في الوجاهة الكاذبة. كلّهم مصابون بداء السلطة، مسكونون بهوس الزعامة، مثلهم مثل كل الطغاة العرب
تجاوز
الغنوشي التسعين من عمره وهو لا يزال قابضا على زعامة حزبه، ففتح المجال أمام أبواق النظام القديم لترذيله وترذيل المشهد البرلماني برمّته. وكذا ترشح المرزوقي إلى الانتخابات الرئاسية رغم مطالبات كثيرة له بالانسحاب والتراجع خوفا من تشتت الأصوات، ففضّل الخروج من الباب الصغير وتصدّر ممثلو النظام القديم المشهد في نتائج الدور الرئاسي الأول، وهو الدور الحاسم في انتخابات الرئاسة.
ليس قيس سعيّد وما يأتيه من تدمير لمسار الثورة التونسية مسؤوليته الفردية، بل نجح الرجل في تحيّن فرصة تاريخية وصعد على أنقاض صراعات النخب البائسة التي أكلت زمانها والتهمت زمان جيل الثورة، حبا في الزعامة وطمعا في الوجاهة الكاذبة. كلّهم مصابون بداء السلطة، مسكونون بهوس الزعامة، مثلهم مثل كل الطغاة العرب، وليس الرئيس الحالي إلا أصغر تلميذ في مدرسة البؤس السياسي العربي الذي لن يورّث غير الخراب والدمار والموت والجوع.
إن مشروع بناء جيل سياسي جديد يقطع مع الموروث الموبوء للنخب السياسية العربية؛ يُعدّ اليوم من أهم ضروريات المرحلة التاريخية التي تمرّ بها الأمة وشعوبها، وإنّ تجديد البناء فكري والسلوكي والأخلاقي للفاعل السياسي انطلاقا من الأسس سيكون الشرط الوحيد القادر على النفاذ خارج دائرة الموت التي تسبح فيها الأمة منذ عقود وتوشك على أن تجهز عليها.