يشهد
الشرق الأوسط هذه الأيام حركة كمية ونوعية مثيرة للانتباه والترقب والانتظار؛ الذي يغلب عليه التوقع والاحتمال بأكثر مما يغلب عليه التأكد واليقين، ليس فقط لأن المعلومات عن ما يجرى ويدور قليلة وليس هذا بجديد في واقع الحال، فالشرق الأوسط منذ قرنين تقريبا والمعلومات الكاملة الحقيقية عن ما يدور عنه وفيه وبه ويتعلق بأخص وأهم مقومات وجوده ومصيره؛ تكاد تكون أشح ما يكون متاحا فيه، وهو مقصود ومدبر، وليس ذلك استصغارا ولا استخفافا، بل العكس هو الصحيح تماما.
فالشرق الأوسط كان ولا يزال أهم بقعة استراتيجية على كوكب الأرض، هذه حقيقة من حقائق الوجود على الأرض كالليل والنهار، والشمس والقمر، والشتاء والصيف، وقد علمنا وفهمنا ذلك من أنه أنه كان إنسانيا وتاريخيا وحضاريا هو مهد الدين ووحي الله للأنبياء والرسل.
وقد وصل الأمر بأحد أهم علماء الفلسفة والفكر والسياسة (علما وممارسة) في القرن العشرين، د. شارل مالك (ت 1987م)، إلى القول في كتابه الصغير/ الكبير "تقرير في الوضع الحاضر" والذي صدر بعد النكبة بسنة واحدة (1949م) وأعادت دار النهار اللبنانية نشره سنة 2002م: "اهتمام العالم بالشرق الأوسط ليس لثرواته ولا لموقعه وما إلى ذلك، وتذكروا أيضا هنا أن كل ذلك هبات طبيعية، لكن العالم كله يهتم بالشرق الأوسط بسبب الدين".. وأضاف جملة مثيرة ولافتة، فقال: "صناعة الشرق الأوسط الأولى في العالم والتاريخ إن لم تكن الوحيدة.. هي الدين".
"اهتمام العالم بالشرق الأوسط ليس لثرواته ولا لموقعه وما إلى ذلك، وتذكروا أيضا هنا أن كل ذلك هبات طبيعية، لكن العالم كله يهتم بالشرق الأوسط بسبب الدين"
* * *
الحاصل أننا أمام خطوط طول وعرض سياسية تمتد هنا وهناك، تتوازى قليلا وتتقاطع كثيرا، قد تكون مجرد مقبلات لمائدة كبيرة تعد وتجهز.. وقد تكون مجرد تسخين وإعادة تدوير لطعام الأمس القديم، على ما اعتاد الشرق وأهله منذ زمن الاستعمار والنكبات المتتاليات التي تعاد وتُستنسخ في رتابة وبلاهة وملل فظيع؛ يتساقط منه الذباب كما يقال.
حالة الرتابة والسكون المريب هذه دفعت عمنا الشاعر الكبير نزار قبانى (ت 1998م) لأن يقول عنها: أنا منذ خمسين عاما أراقب حال العرب/ وهم يرعدون ولا يمطرون/ وهم يدخلون الحروب ولا يخرجون/ وهم يعلكون جلود البلاغة علكا ولا يهضمون..
* * *
في كتاب "تفتيت الشرق الأوسط" للدكتور جيرمي سولت (80 عاما)، أستاذ العلوم السياسة البريطاني الشهير، والذي ترجمه لنا الدكتور نبيل الطويل، الطبيب السورى الموسوعي الثقافة، والذي وصف الكتاب بأنه يقدم الخلفية الضرورية لفهم "حاضر الشرق الأوسط"، بل يقدم بتفصيل واضح لا غموض فيه الخطط التي استهدفته.
اما د. جيرمي فيقول في مقدمته: أكثر ما دفعنى لكتابة هذا الكتاب هو رغبتي في كشف آثار ونتائج القرارات المتخذة في مراكز القوى العالمية الغربية بخصوص الشرق الأوسط في القرنين الماضيين. وتقنيات "السيطرة والضبط" التي استعملتها تلك القوى تتراوح بين الغزو والاحتلال، والأساليب السرية الأخرى لممارسة التسلط عن طريق الاتفاقيات، والشيء الأحدث هو عن طريق خلق الاعتماد والاحتياج الدائم لتلك الدول على المعونات الخارجية الكبيرة الحجم.
تقنيات "السيطرة والضبط" التي استعملتها تلك القوى تتراوح بين الغزو والاحتلال، والأساليب السرية الأخرى لممارسة التسلط عن طريق الاتفاقيات، والشيء الأحدث هو عن طريق خلق الاعتماد والاحتياج الدائم لتلك الدول على المعونات الخارجية الكبيرة الحجم
ويقول: إن هناك ثمة حاجة إلى تأليف كتاب يوثق مسؤولية حكام الشرق الأوسط أنفسهم في ما آل إليه الشرق الأوسط من دمار.. (د. جيرمي هو من يقول!).
* * *
لكنه في هذا الكتاب يهتم بدراسة وكشف أساليب "ضغط الغرب" لإحكام قبضته على المنطقة، والذي بدأ بأول باب تم فتحه للدخول إلى الشرق سنة 1798م "الحملة الفرنسية على مصر". وسيستمر الضغط ويزداد عبر القرون وبنفس الطريق والطريقة.. والتي ستتضمن مقولات بلاغية يدعمها مفكرون وشعراء!! عن التبرير الأخلاقي للدخول والتدخل، والمتمثل بأكذوبة إدخال قيم وممارسات الحضارة والنظام الديموقراطي المدني والحرية، وتمكين المرأة، والمشاركة السياسية، وإفساح المجال للأقليات. ويضيف هنا نقطة بالغة الأهمية في ذكرها واستدعائها وربطها أيضا بموضوع كتابه، وهي تمزيق "السلام العثماني الطويل" بثورات إثنية دينية قومية مدعومة بقوى أجنبية، وكثيراً ما تنتهي بحرب، بل وكانت الدوافع الغربية للغزو والاجتياح والاحتلال والغارات والتخريب والتدمير والاستغلال الاقتصادي، ودعم الحكام الطغاة والمرتشين والمحرَضين والتلاعب بهم.. في القرن العشرين سيستمر نفس النهج، وإن يكن بعناوين جديدة.
سيستمر الضغط ويزداد عبر القرون وبنفس الطريق والطريقة.. والتي ستتضمن مقولات بلاغية يدعمها مفكرون وشعراء!! عن التبرير الأخلاقي للدخول والتدخل، والمتمثل بأكذوبة إدخال قيم وممارسات الحضارة والنظام الديموقراطي المدني والحرية، وتمكين المرأة، والمشاركة السياسية، وإفساح المجال للأقليات
لكن الرجل يقف طويلا ومندهشا عند أكذوبة الغرب وسؤالهم لأنفسهم: لماذا يكرهوننا؟! فيقول: إنهم كانوا ولا يزالون ينظرون منذ أيام الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر وحتى اليوم، على أن الإسلام -كدين وثقافة- يشكل خطرا كبيرا على الغرب.. وينقل مقولة بائسة عن المستشرق الأسكتلندي ومدير جامعة إدنبرة، وليم موير (ت 1905)، قوله: سيف محمد والقرآن.. هما أعدى أعداء الحضارة والحرية الحقيقية.
* * *
سيكون هاما هنا في نهاية المقال أن ننقل عن الدكتور شارل مالك في كتابه السابق الإشارة إليه جملة منذرة محذرة.. مذكرة وقد تكون ملهمة موحية، ولا أرى فيها شؤما ولا إحباطا ولا استيئاسا، فأعمق أعماق وعينا بالدنيا والحياة والوجود كله يتوسط مركزه الإيمان والإسلام التام لله، خالق كل شيء وإليه يرجع كل شيء.. لكنه إنذار الصديق على رأي عمنا الشاعر الحزين صلاح عبد الصبور (ت 1981م).
يقول د. شارل: أخشى أن يكون المستقبل القريب أكثر ظلاما من الحاضر.. وأشد خطرا من الماضي.
twitter.com/helhamamy