قضايا وآراء

الاستفتاء: "تأسيس جديد" أم "دكتاتورية متنكرة"؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
يوم الاثنين الماضي، دُعي التونسيون إلى المشاركة في اللحظة الثانية من خارطة الطريق الرئاسية، وهي اللحظة الممهدة للانتخابات البرلمانية المبكرة بدستور جديد وقانون انتخابي جديد. فبعد أن اعتبر الرئيس قيس سعيد الاستشارة الإلكترونية التي شارك فيها 5 في المئة من عدد السكان استشارة ناجحةً، دعا المسجلين في القوائم الانتخابية إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع للتعبير عن رأيهم في دستورٍ؛ يعلم الجميع أنه سيمر ولو صوّت الرئيس قيس سعيد نفسه ضده، كما قال الفنان المبدع مهذّب الرميلي. فبحكم مقاطعة أغلب أطياف المعارضة الوازنة للاستفتاء، وبحكم عدم تنصيص الرئيس على أي شرط لنجاح الاستفتاء أو فشله من جهة عدد المشاركين، كان واضحا لكل التونسيين أن الاستفتاء سينجح وأن "نعم" ستفوز بنسب لا تختلف عن النسب التي عرفوها زمن المخلوع.

بصرف النظر عن مدى عقلانية قرار المعارضة الوازنة -ما عدا حزب آفاق تونس- بعدم المشاركة في الاستفتاء (كي لا يُعطوا -من جهة أولى- شرعية للمسار الانقلابي بالاعتراف بخارطة طريقه، وخوفا -من جهة ثانية- من تدليس النتائج لعدم حيادية هيئة الانتخابات وعدم توفر ضمانات النزاهة والشفافية)، مثّل الاستفتاء لحظة من لحظات انقلاب الرئيس قيس سعيد على ذاته وعلى تاريخه، أو بالتحديد على مواقفه عندما كان يُقدم نفسه باعتباره "خبيرا دستوريا". فـ"الخبير الدستوري" قيس سعيد كان يعتبر الاستفتاء "أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة" لأنه "ليس استفتاء حول المشروع، إنما هو استفتاء حول صاحب المشروع". وكان يقول: "أتمنى أن أعيش يوما واحدا أرى فيه استفتاء سلبيا بإحدى البلدان العربية".
مثّل الاستفتاء لحظة من لحظات انقلاب الرئيس قيس سعيد على ذاته وعلى تاريخه، أو بالتحديد على مواقفه عندما كان يُقدم نفسه باعتباره "خبيرا دستوريا"

إن السؤال الذي يطرحه انقلاب الرئيس على موقفه السلبي من الاستفتاء هو التالي: ما هي "الضمانات" التي يوفرها الدستور الجديد -مقارنة بالدساتير المعتمدة في الدكتاتوريات- حتى تكف آلية الاستفتاء عن أن تكون "آلية من آليات الدكتاتورية المتنكرة"، وحتى تكون تلك الآلية أداةً من أدوات "التأسيس الجديد" للجمهورية الثانية باعتبارها لحظة سياسية كونية تحررية، أو على الأقل باعتبارها تجسيدا حقيقيا لمطالب الثورة وانتظارات المواطنين؟ ولو شئنا صياغة السؤال بصورة أخرى لقلنا: ما هي الضمانات الدستورية التي تمنع توظيف الاستفتاء لتأسيس "دكتاتورية متنكرة" لا تختلف في شيء عن الدكتاتوريات العربية التي انتقدها "الخبير الدستوري" قيس سعيد قبل توليه الرئاسة؟

للإجابة عن هذا السؤال، ولفهم معنى "التأسيس الجديد"، قد يكون علينا العودة إلى المشروع/ العقل السياسي للرئيس قبل النظر في فصول الدستور. ونحن لن نجد أفضل من تلك الصرخة الشهيرة التي أطلقها "الخبير الدستوري" قيس سعيد خلال الأزمة السياسية الخانقة التي عرفتها تونس زمن الترويكا بعد عمليتي الاغتيال السياسي. فقد طالب برحيل النخب السياسية كلها حكومةً ومعارضةً، واعتبر الاغتيالات السياسية دليلا على نهاية مرحلة بحكم فشل طريقة إدارة الدولة منذ 2011. ورغم إقراره بعدم تدليس الانتخابات في تلك الفترة، فإنه قد تحدث عن تزييف الوعي بالقضايا الهوياتية التي قسّمت المجتمع وأبعدته عن قضاياه الحقيقية، وهو ما دعاه إلى طرح "التأسيس الجديد" أو مشروع الديمقراطية القاعدية/ المباشرة، تلك الديمقراطية التي سيسبقها تنظيم مؤقت للسلطات ووضع نظام خاص للانتخابات؛ لفرز قيادات محلية جديدة تعوض النخب الحزبية التي انتهت الحاجة إليها وإلى أجسامها الوسيطة.
قد كان وصول الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج سببا أساسيا في الدفع بتناقضات المنظومة السياسية كلها إلى نهايتها المنطقية: فقدان الدعم الشعبي -والسند الدولي- تمهيدا للانقلاب عليها وإلغاء الحاجة إلى أجسامها الوسيطة كلها، ولذلك لم يكن من العسير على الرئيس قيس سعيد أن يجعل "حالة الاستثناء" مرحلةً انتقالية أو تمهيدية للتأسيس الجديد

كانت إجراءات 25 تموز/ يوليو من السنة الماضية وما تلاها من مراسيم وإجراءات؛ تعبيرا عن نجاح هذا المشروع، وهو نجاح تأجل سنوات بحكم ما أظهرته المنظومة الحاكمة من قدرة على تجاوز تناقضاتها الداخلية وأزماتها الدورية لتأجيل انفجارها طيلة عهد "التوافق". وقد كان وصول الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج سببا أساسيا في الدفع بتناقضات المنظومة السياسية كلها إلى نهايتها المنطقية: فقدان الدعم الشعبي -والسند الدولي- تمهيدا للانقلاب عليها وإلغاء الحاجة إلى أجسامها الوسيطة كلها، ولذلك لم يكن من العسير على الرئيس قيس سعيد أن يجعل "حالة الاستثناء" مرحلةً انتقالية أو تمهيدية للتأسيس الجديد.

لو فكّكنا الخطاب السياسي للرئيس منذ أن أعلن للعامة عن مشروع التأسيس الجديد" سنة 2013، فإننا سنجد أنه قد طرح نفسه بديلا لا شريكا للنخب كلها، وسنجد أنه كان يؤمن بأن هذا البديل لا يمكن أن يتنزل في ظل ديمقراطية تمثيلية ونظام برلماني معدّل تهيمن عليه الأحزاب، وتُزيف فيه إرادة الشعب وتُفكك فيه أجهزة الدولة عبر هيئات "دستورية" وتجمعات مهنية ومنظمات مدنية. ولذلك كان من المنطقي -على عكس ما توقعه الكثير من أنصار 25 تموز/ يوليو في أيامه الأولى- أن يستغل الرئيس إدارته المنفردة لحالة الاستثناء، بعد تجميد مجلس النواب والجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، لفرض مشروعه السياسي.

بحكم تشتت المعارضة وهشاشة أغلب الأجسام الوسيطة وغياب أي مقاومة داخلية أو رفض خارجي حقيقي لخارطة الطريق التي وضعها الرئيس، بعد تحصين قراراته من أي طعن بالمرسوم عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021، فإنه قد وجد نفسه في طريق مفتوح لإعادة هندسة المشهد التونسي في مختلف الأصعدة. وقد اقتضى مشروع "الرئيس" أن ينقلب على مواقف "الخبير الدستوري" قيس سعيد، فالتأسيس الجديد يقتضي تغيير الموقف من الاستفتاء (بعد أن اقتضى قبل ذلك الانقلاب على دستور 2014). ونحن لسنا هنا في وارد الحكم "الأخلاقي" على الرئيس، بل نحن نصف واقعا سياسيا اقتضى منه الانقلاب البراغماتي على ذاته وتاريخه، وهو ليس بدعا في ذلك، فقد سبقه إلى الانقلاب على أنفسهم وتواريخهم أغلبُ خصومه السياسيين منذ المرحلة التأسيسية.
إذا كان الرئيس قد حصّن نفسه ضد المساءلة والمحاسبة في حالة الاستثناء ورفض أن يجريَ انتخابات رئاسية بالتوازي مع الانتخابات البرلمانية المبكرة، وإذا كان قد وضع نفسه كرّة ثانية فوق المساءلة والمحاسبة في الدستور الجديد، فإن السؤال الذي يُطرح هو التالي: هل سيقبل "مؤسس الجمهورية الجديدة" أن يضع نفسه أمام الإرادة الشعبية مرة أخرى وبأية شروط وضمن أي سياقات؟

يعتبر كاتب هذا المقال أن الجدل الذي يثيره الاستفتاء هو عبارة عن عملية تنفيس تقوم بها المعارضة للتغطية على فشلها في إفشال خارطة الطريق الرئاسية، أو على الأقل تعديلها. فالمعارضة تعلم جيدا أن الاستفتاء سيمر ولو شارك فيه الرئيس ومجلس وزرائه دون غيرهم، كما يعلم الجميع أن الرئيس لا يهتم واقعيا بالشرعية الشعبية، وهو ما أكده إصراره على الاستفتاء رغم فشل الاستشارة الالكترونية، وإن كان يحرص على توظيف "الإرادة الشعبية" لتبرير شرعية "حُكم الغلبة" أو سياسة فرض الأمر الواقع. ولا شك في أنهم يعلمون أيضا أن الرئيس الذي حصّن نفسه دستوريا من كل مساءلة أو محاسبة (على عكس النواب والوزراء وكبار مسؤولي الدولة)، سيقترح تعديلات على القانون الانتخابي تُقوي قبضته على السلطة وتعكس موقفه المعروف من الأحزاب السياسية (انتفاء الحاجة إليها بحكم وجود أشكال جديدة لتمثيل الإرادة الشعبية).

إن السؤال الأخطر الذي يطرحه "التأسيس الجديد" ليس سؤالا دستوريا بل هو سؤال سياسي. فحتى لو افترضنا جدلا -أو عبثا- أن الرئيس قيس سعيد سيكون مستبدا عادلا (رغم التناقض الداخلي في هذه العبارة)، فإن تاريخ الاستبداد ينبئنا بأن المستبد -وإن عدل- لا يمكن أن يضع نفسه أمام الإرادة الشعبية مرة ثانية بعد وصوله إلى السلطة. وإذا كان الرئيس قد حصّن نفسه ضد المساءلة والمحاسبة في حالة الاستثناء ورفض أن يجريَ انتخابات رئاسية بالتوازي مع الانتخابات البرلمانية المبكرة، وإذا كان قد وضع نفسه كرّة ثانية فوق المساءلة والمحاسبة في الدستور الجديد، فإن السؤال الذي يُطرح هو التالي: هل سيقبل "مؤسس الجمهورية الجديدة" أن يضع نفسه أمام الإرادة الشعبية مرة أخرى وبأية شروط وضمن أي سياقات؟ أو لنقل: كيف يمكن لبديلٍ نجح في فرض الأمر الواقع على الجميع (في الداخل والخارج) أن يعود إلى منطق الشريك ويقبل التنافس مع من يعتبرهم أعداء للثورة وللإرادة الشعبية، بل مع من يعتبرهم جزءا من الماضي (بكل أجسامهم الوسيطة) ولا مكان لهم في مراكز القرار داخل "الجمهورية الجديدة"؟

twitter.com/adel_arabi21

التعليقات (0)