هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "بيزنطة المتخيلة، أنثروبولوجيا تاريخية للآخرية في الإسلام المبكر"
الكاتب: ياسين اليحياوي
الناشر: بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، 2019.
"هذا الكتاب لا يتحدث عن بيزنطة، وإنما يتحدث عن الذات العربية، والكيفية التي تمثلتها الآخر البيزنطي". بهذه الجملة بدأ الباحث المغربي ياسين اليحياوي، الحاصل على الدكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بالمغرب، كتابه، والذي سعى فيه لدراسة كيفية تَشكُل صورة الآخر البيزنطي في المُتخيل العربي، خلال الفترة الممتدة من القرن السابع إلى الثامن الميلادي (الموافق القرن الأول إلى الثاني الهجري)، وذلك بهدف تقديم مقاربة تاريخية جديدة، تعتمد على كتب المغازي والسير، التي أُلفت في حدود بداية القرن الثاني الهجري، لرصد بدايات تشكُل صورة الآخر البيزنطي في واحد من أهم المصادر العربية وأولها.
يقع الكتاب في 127 صفحة، وأشار يحياوي، في مقدمته إلى أن التحديد الزمني للموضوع يعود إلى ما تحمله هذه الفترة من خصوصية، كونها شهدت بدايات حركة التدوين، وانتقال الذاكرة الجمعية من طور الشفاهة إلى الكتابة، بما تنضوي عليه هذه العملية من ترسيخ للتمثلات عن الآخر.
سوف يجد الباحثون والمهتمون بالتاريخ الإسلامي مادة دسمة في هذا الكتاب، حيث إنه من خلال دراسته للتمثلات حول بيزنطة لا يسمح بفهم العلاقات العربية ـ البيزنطية فحسب، بل أيضأً يُعين على إدراك بنية الآخرية في هذه النصوص.
حاول اليحياوي خلال بحثه الإجابة على عدد من الأسئلة، أجملها في مقدمة كتابه كالتالي: ما هو السياق التاريخي الذي أسهم في تَشكُل المتخيل العربي حول بيزنطة؟ هل له رافد سابق؟ أم أنه وليد لحظة التأسيس؟ وهل هو مُتخيل واحد أم متخيلات أُنتج كل منها بناء على سياق اجتماعي خاص؟ وكيف جرى التعبير عن الآخر البيزنطي؟ وما هي رهانات الفاعلين في إنتاجهم لهذا المُتخيل؟
للإجابة على هذه التساؤلات، قسم يحياوي الكتاب إلى فصلين، الأول بعنوان حدود الآخر البيزنطي في التجربة النبوية، فيما جاء الثاني بعنوان بيزنطة المتخيلة بين الاستعمالات اللغوية ورهانات التوظيف.
جاء الفصل الأول بمثابة دراسة للعلاقات العربية البيزنطية، ودواعي انتقالها من الجانب التجاري، الذي ميز فترة ما قبل الإسلام، إلى الصدام العسكري الذي ميز الفترة اللاحقة. وقد قسم الكاتب الفصل إلى مبحثين، تطرق في الأول إلى أفق العلاقات التجارية مع بيزنطة في التجربة النبوية، وحاول في الثاني رصد تداعيات الصراع العربي في الجزيرة العربية على إنتاج مُتخيل.
أشار، اليحياوي، في بداية الفصل، إلى أن كتب المغازي والسير لم تتحدث عن الموارد الاقتصادية للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، خلال الفترة المكية، إلا أن هذه المصادر قد أولت اهتمامًا كبيرًا بالجانب الاقتصادي، خلال فترة الانتقال إلى يثرب.
من غزوة بدر (624م) إلى غزوة تبوك (630م)، رصد، يحياوي، تطورات مهمة في الجزيرة العربية، ذات منحيين؛ فهذه الفترة بدأت الذات العربية تعي نفسها وتؤمن بقدرتها على أن تصبح فاعلًا في الأحداث، ومن جهة أخرى بدأت صورة بيزنطة كقوة مهيبة ومرعبة تخف شيئًا فشيئًا.
درس اليحياوي أسباب تحول العلاقات التجارية مع الشام، من التجارة إلى الغزو، والتي رأى أن أهمها هو انغلاق الأفق الاقتصادي أمام المجتمع المسلم بعد الهجرة، فالاقتصاد في يثرب كان قائمًا على الزراعة؛ نظرًا لموقعها بين الواحات، غير أنه كان بالكاد يكفي قبيلتي الأوس والخزرج، ولن يكون بمقدوره استيعاب المهاجرين. كما أن جعل يثرب محطة تجارية، وربطها بالخط التجاري المتجه إلى منطقة الشام وبيزنطه، أمر يصعب تحقيقه بالنظر إلى الإمكانية الجغرافية والاقتصادية ليثرب، فضلًا عن إن عرب الشمال رأوا أن التجارة مع مكة وعائلاتها الغنية أكثر ربحًا ومصلحة منها في يثرب.
إن هذا التحول الاقتصادي، والانتقال من التجارة إلى الغزو يؤكد على أن باب معرفة الآخر البيزنطي من خلال التبادلات التجارية ـ بما تحمله من طرق سلمية ـ قد جرى إغلاقه في الفترة النبوية، ليجري تعويضه بمُتخيل عن بيزنطة، "إنها تلك الإمبراطورية المنيعة، التي لن يكون فتحها إلا علامة من علامات نهاية التاريخ، وهي على منعتها غنية وفاتنة، فكانت من ثم العدو الصديق في آن واحد". ص (53)
أوضح، اليحياوي، أن تطور النظرة إلى الذات ألقى إسقاطاته على الآخر، فقد كانت التجربة النبوية لحظة فارقة في تاريخ المنطقة، أعادت تشكيل الهوية العربية، ومن غزوة بدر (624م) إلى غزوة تبوك (630م)، رصد، يحياوي، تطورات مهمة في الجزيرة العربية، ذات منحيين؛ فهذه الفترة بدأت الذات العربية تعي نفسها وتؤمن بقدرتها على أن تصبح فاعلًا في الأحداث، ومن جهة أخرى بدأت صورة بيزنطة كقوة مهيبة ومرعبة تخف شيئًا فشيئًا.
اعتمد الكاتب على المصادر العربية بالأساس، لكنه لجبر الثغرات التاريخية، ولتنويع المصادر، لكي لا يكون البحث انتقائيًا، عاد إلى المصدرين الأساسيين لأحداث القرن السابع الميلادي في الإمبراطورية الرومانية، وهما حوليات ثيوفان المُعرف، وحوليات البطريرك نقفوز الأول القسطنطيني.
تطرق اليحياوي، في الفصل الثاني، إلى التصنيفات التي جاء استعمالها في كتب المغازي والسير عند الحديث عن الآخر البيزنطي، لا سيما وأنه كان الخصم الوحيد، بعد سقوط الفرس، الذي يحمل مقومات حضارية كان ينظر لها العرب بعين الإعجاب والخوف معًا. ويري يحياوي أن هذا السياق التاريخي جعل المتخيل العربي حول بيزنطة يطبعه نوع من الخصوصية؛ فهي دومًا الآخر العدو والخصم الأول. مما جعلها تبدو في النصوص العربية كنقيض للأنا.
هل كانت بنية الآخرية في الثقافة العربية الإسلامية مبنية فحسب على ثنائية الأنا المسيطرة والآخر الخاضع، أم أن الدين بقى تأثيرة في البنية الذهمية وتقسيم الآخرية بين مسلم / كافر؟ لمعالجة هذه الإشكالية، وتحديد مكانة الآخر البيزنطي، ومدى حضور المؤثرات الحضارية والدينية والسياسية في تحديدها، خصص، يحياوي، المبحث الأول من الفصل، لدراسة بنية الآخرية في الثقافة العربية الإسلامية. حيث درس الحمولة المعيارية للفظتي "عجم" و"علج" باعتبارهما اسمي جنس أُطلقا على غير العرب، كما درس بنية الآخرية عند العرب من خلال مقارنتها بالآخرية عند "الرومان"، وتوقف تحديدًا عند مفهوم "البرابري"، كونه أطلق بداية على الآخر الذي لا ينطق لغة الأنا المصنف، حيث رأي يحياوي أن هذه المقارنة ستسمح له بإبراز مميزات البنية الآخرية عند العرب وخصوصيتها لتكون مدخلًا لدراسة صورة الآخر البيزنطي.
الجديد الذي قدمه هذا الكتاب، يكمن في كونه اقتحم موضوع المتخيل البيزنطي من خلال كتب المغازي والسير، حيث يعود بنا إلى اللحظات المؤسسة التي تشكل فيها الوعي العربي بالأخر البيزنطي؛
عارض اليحياوي فرضية وجود ثنائية حدية في السياق العربي الإسلامي، وأشار، من خلال عدد من نصوص المغازي والسير، إلى النسبية التي طبعت بنية الآخرية عن العرب، "فالعرب وإن كانوا قد أمنوا بتميزهم واصطفائهم نتيجة دوافع دينية، إلا أنهم لم يصنفوا الآخر ككتلة واحدة باعتباره شرًا مطلقًا، بل ميزوا بين الشعوب والأمم على قدر تفوقهم، واستفادوا منهم في أمور الدنيا ما كانوا في حاجة إليه من أجل بناء حضارتهم". ص (76)
خصص، الكاتب، المبحث الثاني لدراسة الاستعمالات اللغوية في بناء صورة بيزنطة، فبحث في سبب تسمية العرب للبيزنطيين، في حين استخدم أقدم النصوص الإسلامية، وهو القرآن نفسه، لفظ الروم للدلالة على البيزنطيين، وهي التسمية الأكثر استعمالًا في كتب المغازي والسير. كما حلل الاستعمالات اللغوية للعرب في قراءة المظهر الخارجي.
ركز اليحياوي من خلال المحور الثالث رهانات الخطاب حول الآخر البيزنطي، على دراسة بعض الجوانب من رهانات الخطاب حول بيزنطة، من خلال ما تناقلته المُدونة من أخبار القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ومنطقة الشام، أولى المناطق التي فتحها المسلمون، وانتزعوها من خصمهم البيزنطي.
رأى اليحياوي أن الجانب اللغوي يعد من أعقد الإشكاليات التي اعترضت بحثه حول المتخيل البيزنطي، إذ أن اللغة المستعملة في النص، ثم طريقة توظيف الخطاب، يكشفان عن جانب مهم من المتخيل الذي رافق العرب في هذه الفترة من الإسلام المبكر. خاصة وأن الصراع العسكري الذي وسم العلاقات العربية البيزنطية، كان له أثر في تنامي وعي العرب بوحدتهم الدينية والعسكرية من جهة، ومن جهة ثانية أسهم في إنتاج خطاب ديني يتنبأ بفتح الشام والقسطنطينية. لذلك ليس من الغريب داخل هذا السياق المشحون برغبة في السيطرة، أن يكون المُتخيل هو المتحكم في رسم صورة بيزنطة.
في خاتمة كتابه، أوضح اليحياوي، أن صورة بيزنطة في المتخيل العربي تحددت معالمها مع المتغيرات التي طرأت على البنيات الذهنية والاجتماعية، على إثر نجاح التجربة النبوية، وما أسفر عنه من اتصال سياسي وثقافي مع الآخر البيزنطي يطبعه الصراع العسكري، غير أن الخطاب الذي تضمن صورة الآخر البيزنطي قد جرى ترسيخه في الثقافة العربية الإسلامية، بعد أن احتفظ به كأخبار مسندة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ لتتحول معها إلى نص ديني له قدسيته ومكانته عند المسلمين. وأشار، يحياوي، إلى أن خطورة هذا التوظيف تكمن في تحول صورة الآخر إلى جوهر ثابت لا يتغير مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية.
وبعد، يمكن القول بأن الجديد الذي قدمه هذا الكتاب، يكمن في كونه اقتحم موضوع المتخيل البيزنطي من خلال كتب المغازي والسير، حيث يعود بنا إلى اللحظات المؤسسة التي تشكل فيها الوعي العربي بالآخر البيزنطي؛ فكل الدراسات السابقة، للكتاب، تطرقت لصورة بيزنطة عند العرب من خلال كتابات تعود للقرن التاسع الميلادي، وهي الفترة التي شهدت طفرة في التدوين وظهور مصنفات جديدة لم يكن للعرب سابق معرفة بها.