قضايا وآراء

الحِوارُ مَفْهومٌ وقِيمَةٌ ومَخْرَجٌ وضَرُورَة

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

يعلو صوت الساسة والداخلين في حوار حول قضية أو أزمة أو حرب، بأن ذلك تسييس مرفوض، مستنكرين ذلك في إشارة واضحة منهم إلى أنه ينطوي على شيء غير مقبول، بل على ما يعيق الوصول إلى الحقائق والتفاهم والتوافق.. ويكررون مقولة "عدم التسييس" في اجتماعات عالية المستوى تتعلق بقضايا ومواقف ومصالح وشؤون إنسانية كالمساعدات في حالات الكوارث والطوارئ. 

ويدعون إلى حوار شفاف ونزيه غير ملغم بالتسييس.. ولكنهم يفعلون ذلك.. وهم بهذا يعلنون أن السياسة تقوم على افتعال أمور واتباع أساليب ملتوية فيها من السلبي والمكر والادعاء والدهاء ما فيها، ويكشفون عن حقيقة أنهم صناع الأزمات ومن يُشقي الناس بها. ونرى أن كعب الواحد منهم يعلو كلما استبد وفسد وأفسد وسلب ونهب وارتكب الاثم والجُرم وتعمَّد بالدم، فترتفع مراتبه وتكثر مآربه ويتطاول على الدستور والقانون والشعب، ويقتل الناس باسم الناس، ويصبح رباً أو يكاد. 

فهل هؤلاء وأمثالهم من يجعل الحوار بلا معنى ولا ثمرة ولا نتيجة، فيُنقَضُ ويُرْفَضُ، ثم يُعقَد لينقذ  ويُرْفَض؟! أقول ربما.. وربما، لكن الملموس أن الساسة يعملون في ميادين قد تتعس الناس أكثر مما تسعدُهم، ويُلَغِّمون الحوار الذي يُفْتَرَض فيه أن يفضي إلى حل المشكلات ونزع فتيل الأزمات وإخماد نيران الحروب. على أية حال هم ليسو سواء، وليس كل الحوار خواء. 

وما يلفت النظر في وضعنا العربي أننا قَلَّما ننجح في حوار، رغم المآسي والنكبات وكثرة الأدواء والرغبة في الخروج من الدُّوار المُشْقي والمميت. وكثيراً ما أحار وأتساءل: لمَ لا يسفر الحوار في بلادنا العربية خاصة عن تفاهم وحلول للأزمات والحروب؟! ولماذا ينتكس كلما قارب الداخلون فيه مخرجاً من الضيق والضائقات؟! ولمَ يبدو عقيماً وشبه ميؤوس منه؟! أهو تكوين محكوم بالتعثير ومستعصٍ على الفهم والتفسير والتغيير؟! أهو حصيلة لتبعية أطرافه لدول وقوى خارجية متنازعة تجعل أطرافه بيادق يلعب بها المَتْبوع وفق سياساته واستراتيجياته ومصالحه؟! أهو الذاتي والشخصي والأناني المتورم للمتحاورين أو للنافذين منهم، يجعل المصالح والمكاسب الخاصة فوق المصالح العامة، والنظرة الضيقة مستحكِمَة، والمماهاة السلبية بين الذات من جهة والشعب والوطن من جهة أخرى حائلاً دون وضع العام فوق الخاص، ومصلحة الشعب والوطن فوق مصلحة الفرد، والذاتي فوق الموضوعي، فلا يرى الشخص/المحاور إلا من خلال ذاته وفئته وارتباطاته و..؟! فيغدو الحوار إمَّا محاصصة، أو لعبة "استغماية"، أو حقل ألغام.. وتستمر الأزمات والحروب، وتتعميق الصراعات، وتضعف بلداننا بلداً بعد بلد، وتتمزق الأمة، وتستنزف القدرات والطاقات والثروات، وتفسد القيادة وتضيع السيادة.

 

ما يلفت النظر في وضعنا العربي أننا قَلَّما ننجح في حوار، رغم المآسي والنكبات وكثرة الأدواء والرغبة في الخروج من الدُّوار المُشْقي والمميت. وكثيراً ما أحار وأتساءل: لمَ لا يسفر الحوار في بلادنا العربية خاصة عن تفاهم وحلول للأزمات والحروب؟! ولماذا ينتكس كلما قارب الداخلون فيه مخرجاً من الضيق والضائقات؟!

 



إن نظرة إلى الحوار ومجرياته ومخرجاته ونتائجه السلبية، ومواقف أطرافه العنترية، في عدد من الأقطار العربية التي أنهكتها الأزمات والحروب، تجعلنا نشعر بالبؤس حتى لا نقول باليأس:

ففي العراق المجرَّح حوار ودعوات متجددة للحوار، لكن الوضع يبقى متأزِّماً، والحوار مُلَغَّماً ومنقوصاً ومنكوساً وميؤوساً منه.. ويبقى الشعب والبلد العائم على بحر من النفط وفيه دجلة والفرات وشط العرب فقيراً وممزقاً ومتناحراً وفاقداً للأمن ويعاني من ضعف الدولة والحكومة الحاكمة العادلة، وللأمن والاستقرار.. وخيرات العراق العظيم تذهب للمستعمرين والطامعين والتابعين لهم، وللفاسدين من الحاكمين والمتحاصصين الذين ينهبون المال ويضعون ما ينهبون في خدمة أعداء العراق الذي دمروه والأمة التى أضعفوها والدين الذي يحاربونه سراً وعلانية. 

وفي هذا المناخ يحلم العراقيون بالوفاق والاتفاق من خلال حوار يعلي شأن الوطن والشعب فوق مصلحة التابعين والنهابين والمتحاصصين، ويظل أبناء العراق يحنون تراب الوطن بدمهم، ويطلبون كفاف العيش بعرقهم، ويتطلعون إلى أمن وعدل وحياة تليق بهم وبتاريخهم وكرامتهم.. يشكون ولا يُسمع لهم، يتظاهرون ويخيمون في شوارع العاصمة والمدن والبلدات ويتعاركون ويَسيل دمُهم ولا يصلون إلى أهدافهم الوطنية والقومية والإنسانية، وينتظرون اتفاقاً يأتي به حوار أو حلولاً للأزمات الخانقة بأي طريقة ووسيلة وقرار. 

وفي ليبيا حوارٌ بعد حوار بلا ثمار أو انبلاج فجر نهار، وكلما أسفر حوارهم عن اتفاق نقضه طرف من أطرافه فآل الأمر إلى بَوار.. وتفضي بهم التدخلات الخارجية، السياسية والعسكرية والأمنية، والميلشيات المسلحة والمرتزقة بالقتل والتخريب.. من حرب إلى حرب، يدفع تكاليفها وضريبتها الشعب دماً ومعاناة وفقداناً للأمن من جوع وخوف، ويظل من انقسام إلى انقسام، يتطلع للأمن والسلم والاتفاق والوفاق، وما من أمن ولا سلم ولا اتفاق ولا وفاق، ويرى نفسه وبلده من اضطراب إلى اضطراب ومن خراب إلى خراب.. خيراته منهوبة، ودماء أبنائه مُراقة على عتبات الخلاف والاختلاف، يعبث به أعداؤه والمتدخلون في شؤونه وساسته وأخوة له وأشقاء.. والعقلاء والحكماء والغيورون من أبنائه لا يملكون من الأمر شيئاً، يتطلعون إلى غد يليق بليبيا وشعبها وبما كانت وكانوا عليه من أمن ورخاء.

 

انطلاقاً من حقيقة أن الوطن للجميع، وأن المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وشركاء في المسار والمصير، ويتحملون الضراء وينعمون بالسراء، وينتظرهم جميعاً مستقبل يستحق أن يساهم في استكشافه وتكوينه وتلون طيوفه كلُّ قادر على ذلك.

 



وفي اليمن مآسٍ وكوارث جعلت الأعزة يستشعرون الذلة، واالسعداء تعساء، ودمرت أجيالاً من الأطفال والفتيان والفتيات، وتركت ملايين الناس في العراء نهباً للجوع والحَرِّ والقَرِّ والأدواء.. يدفعون ثمن حرب عبثية لم يجد الحوار بين " الأشاوس" في إيقافها، ولم تثبت لمخرَجاته نتائج ولا قامت له في أرض اليمن قوائم.. وكلما استبشر الشعب باتفاق يفضي إليه حوار نقضه طرف من أطرافه، أو عطلته القوى المتحكِّمَة أو الحاكمة بقوة السلاح. ويبقى الشعب والوطن في قبضة المجهول، يعوم في مركب مثقوب في خضم فياضانات ذات شُعَبٍ من دَمٍ وفِتَنٍ وماء، الاقتتال في جوفه ومحيطه ومن حوله، ويقتله جوفه ومحيطُه ومن حوله، وأعداؤه من فرح إلى مرح، ينتظرون خراب مأرب بعد خراب سدها القديم، ويسعدهم عودة اليمن بلا سعادة من رحلة الإفقار والإبادة.

وفي السودان حربٌ بعد حرب، منذ نيِّفٍ وسبعين سنة والسودان في حرب بعد حرب، ومن حوار إلى حوار.. تهدأ النار في أرضه هنا فتشتعل هناك، وتتمترس القبائل والأحزاب والمناطق في المتاريس والشوارع والمدن والبلدات، لا المدني يقبل العسكري، ولا العسكري يثق بالمدني، ولا يتجاوب " زول من المتناحرين مع زول".. الأزمات تطحن الشعب في السودان، والعقوبات تفقره، والفيضانات تغرقه، وأعداؤه يستهدفونه، والأمريكي من بين من يستهدفونه خاصة بالحصار والعقوبات منذ عقود، يفرض عليه التطبيع مع الصهيوني العنصري، ويفرض عليه عدوَّه القاتل صديقاً وحليفاً ومستشاراً، وسبيلاً يخرجه من أزمة ليزجُّه في أخرى.. فيا للسودان من بلد طيب يقذفه في المهالك ساستُه ومَن باعوا الدين بالدنيا من أبنائه، والسرطانيون المعششون في أحشائه، وأعداؤه الألداء.. كل أولئك يدفعونه من طوفان بؤس إلى طوفان دم إلى طوفان ماء، والكل يغرق في المصيبة ويدفع الثمن ويرش الملح على الجرح وينتظر الفرج.. من باب من أبواب الحوار، لكن الحوار بين أبناء السودان بلا مخرجات ولا مخارج ولا نتائج ولا ثبات، فمن يوقعه ينقضه، ومن يُقبل عليه لا يلبث أن يرفضَه. 

وفي سوريا الأزمة مستحكمة، والحصار حاكم، والتدخل الخارجي ظاهر وباطن، بعضه مقبول وبعضه مأمول.. والوجود العسكري القائم بقوة السلاح ينظر إليه سوريون وسوريون، من مواقع مختلفة ورؤى ومصالح مختلفة أيضاً على أنه في نهاية المطاف، وفي محصلة وجهات نظر الأطراف المعنية بالشأن السياسي على أنه احتلال وما في حكم الاحتلال، وهو خماسي مع إضافات وتفرعات "صهيوني وأمريكي وتركي وإيراني وروسي"، هذا عدا عن وجود الميليشيات المتعددة المشارب ونفوذها.. أمَّا الحوار فلا يوجد حوار بالمعنى والمفهوم الجادين المسؤولين للحوار بين الأطراف السورية المعنية بالأزمة ـ الحرب ـ المأساة.. إنه حاضر نظرياً وشكلياً وغائب عملياً ومضموناً، ورغم جولات وجولات لا يوجد توافق ولا توافق حتى على جدول أعمال، ومن ثمة فلا نتائج ولا مخرجات ولا مآلات، حتى ليمكن القول بأن " لا حوار". لكن هناك من يتحاور بالسوريين وعنهم في آستانا وجنيف وواشنطن ومجلس الأمن ولا يجني السوريون من ذلك الحوار بهم وعنهم أية ثمار.. ويبقى الشعب بين نازح ولاجئ ومقيم، والكل في معاناة، والوطن.. يا لجراح سوريا الوطن من جراح.

تلك أقطار عربية أشرنا إلى واقع الحوار فيها وهي في خضم الأزمات والحروب منذ سنوات وسنوات.. لكن حال الحوار في أقطار عربية أخرى يدور فيها حوار حول أزمات أخف وعدم وجود حروب وإراقة دماء، لا تختلف كثيراً من حيث النتائج والمآلات ويبقى في حالات مثل زوبعة في فنجان.

في ظل هذا الواقع، وحاجتنا الماسة لحوار مسؤول يفضي إلى حلول، وفيه مكان ومكانة وقيمة حاكمة للأخلاق والقيم والعقل والمنطق والمصالح العليا للوطن والشعب والأمة، وللأجيال الناشئة..
  
وانطلاقاً من حقيقة أن الوطن للجميع، وأن المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وشركاء في المسار والمصير، ويتحملون الضراء وينعمون بالسراء، وينتظرهم جميعاً مستقبل يستحق أن يساهم في استكشافه وتكوينه وتلون طيوفه كلُّ قادر على ذلك.
 
وتأكيداً على حاجة الأمة إلى طاقة أبنائها جميعاً، وإلى إبداع كل فرد منهم في الأداء على أرضية من الحرية واحترام الحق بالاختلاف، في إطار المسؤولية الأخلاقية والوطنية والانتماء.
 
وفي ضوء المواطَنة المتساوية، وقبول الأقلية لرأي الأكثرية، وتراجع الخطأ لمصلحة الصواب، وانحسار العِزَّة بالإثم لصالح سمو المعتز بنصرة الحق ومقاومة الباطل..
  
نقول بضرورة الحوار ومكانته ومناخه وقيمته، ودوره في حقن الدماء، وحل الأزمات، وتعزيز مكانة الوطن ومصالح الشعب والأمة. وبأهمية التزام ساسة الأمة ومثقفيها وإعلامييها، وقواها الحية، وتياراتها الفكرية، وأحزابها وتنظيماتها ومؤسساتها الشعبية والمهنية بمفاهيم وأسس وضوابط للحوار وبين المتحاورين، منها:
 
1 ـ استعداد المتحاورين للانتقال من المواقع والمتاريس إلى حيث مساحة الحق والصلاح والإصلاح وخير الأمة ومصلحة الشعب والوطن. والخروج من حالة التراشق بالكلام والاتهامات، من مواقع مسبقة ومتاريس محصنة بعصموية يغذيها الوهم أو التوهم أو الرغبة في التشويه.. فلا عصموية لبشر من خطأ، ولا احتكار لعلم من فريق دون فريق، ولا حاجة لأحد لبطاقة حسن سلوك أو بطاقة "تقدمي" أو "وطني" أو.. أو.. من أحد.

2 ـ احترام الآخر وحقه في الاختلاف، على ألا يكون الآخر من خارج التاريخ والجغرافية، أو منتمياً لمشروع معاد وغير وطني، ويضع الأغام ويخفي خنجره تحت الثوب والإبط لتحقيق أطماع معادية ومصالح خاصة.

3 ـ الدخول في مناخ الحوار على أرضية أن الوطن سيد ولا سيد للوطن، وأن الكل تحت سقف الدستور والقوانين، وأن الموالاة والمعارضة محكومتان بسقف الوطن ومصالح الشعب ومستقبل الأجيال. واستعداد الكل لمراجعة الذات والمعطيات والمواقف واتخاذ القرارات في ضوء ما يسفر عنه الحوار من مصلحة عامة، وحماية الوطن والشعب والسيادة، والتقدم العام علمياً وتقنياً وحضارياً، والأخذ بما يقود إليه الوعي المعرفي، ويوحي به العقل المنطق والضمير ويفرضه الواقع، في ضوء رؤية استشرافية مستقبلية للمصلحة العليا للشعب والوطن والأمة.

4 ـ الخروج من شرانق التبعية والطائفية والعشائرية والمناطقية والقُطْريَّة الضيقة، والأحكام المُسْبَقة، والتعالي الذي لا يليق بالمؤمنين والعلماء والمثقفين الحقيقين، والمناضلين المدافعين عن الحق والعدل والحرية وكرامة الإنسان، والمعلين لشأن القيم والأخلاق، والمنتمين لعقيدة وأمة وأرض وحضارة وتاريخ.
 
5 ـ نبذ كل فكرة ونِيَّة وصيغة لنفي الآخر أو تغييبه أو تشويهه، فهو الشريك في الوطن والمواطَنة، في السراء والضراء، في المسار والمصير.. ومن ثم في اتخاذ القرار ودفع تكاليف الموقف والضرائب المادية والمعنوية.
 
6 ـ عدم الاستبعاد المسبق من الحوار، لأي تيار أو اتجاه أو تنظيم أو معه، وعدم إطلاق الاتهامات التي لا تسندها وثائق ووقائع ومسوغات. والاستناد في الاستبعاد الجائز إلى حكم قضائي عادل نزيه منصف وقطعي لمَن يُحكم عليه بالجرم والفساد والإفساد، بعد ثبوت ذلك، أو بثبوت ارتباطه بالأعداء والتآمر على الوطن والشعب.

فهل نحن فاعلون قبل فوات الأوان، والحاجة تدعو إلى ذلك ومصلحة الأقطار والأمة تقتضيه وتفرضه؟‍ إنني أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى ما فيه الخير، إنه على كل شيء قدير.


التعليقات (0)