قضايا وآراء

"العشرية السوداء" أو الاستعارة الكبرى للقوى الانقلابية في تونس

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بعيدا عن الوعي السياسي العفوي أو الشعبي الذي شكلته خطابات إعلامية لا يخفى ارتباطها بالمنظومة الحاكمة قبل الثورة -سواء من جهة الخطوط التحريرية أو من جهة الرأسمال البشري أو من جهة التمويل- وبعيدا عن الدمغجة النسقية والتزييف الممنهج اللذين مارستهما منابر "ما بعد الحقيقة" ومَن يقف وراءها في الداخل والخارج، قد يكون من باب المفارقة التي تحتاج إلى فهم أن تدور استعارة "العشرية السوداء" على ألسن أولئك الذين كانوا من أكبر المستفيدين، سياسيا وثقافيا واقتصاديا، من استضعاف الدولة -في المرحلة التأسيسية، خاصة زمن الترويكا- أو من عودة ورثة المنظومة القديمة إلى واجهة السلطة عبر واجهة نداء تونس، منذ سنة 2014.

بل إن المفارقة تعظم عندما نرى الكثير ممن انتقدوا الرئيس قيس سعيد خلال حملته الانتخابية وساندوا رموز المنظومة القديمة -بمن فيهم خصمه نبيل القروي- يتحولون بقفزة بهلوانية إلى أكبر المدافعين عن "تصحيح المسار" وخارطة طريقه، رغم علمهم بأنّ مشروع الرئيس يقوم أساسا على ضرب استقلاليتهم تمهيدا لتهميشهم وإلغاء الحاجة إليهم، أو على الأقل تدجينهم وجعلهم مجرد أجسام وظيفية ملحقة بقصر قرطاج. ونحن لا نشك مقدار نَفس في حصول هذا الوعي لدى الأجسام الوسيطة المناصرة للرئيس، كما لا نشك في أن ما يحملها على ذلك هو قراءة "ضغائنية" لحجم خسائرها الممكنة/ المقبولة، مقارنة بحجم الخسائر المتوقعة لعدوها التاريخي: حركة النهضة في تونس وكل حركات الإسلام السياسي في الإقليم.
المفارقة تعظم عندما نرى الكثير ممن انتقدوا الرئيس قيس سعيد خلال حملته الانتخابية وساندوا رموز المنظومة القديمة -بمن فيهم خصمه نبيل القروي- يتحولون بقفزة بهلوانية إلى أكبر المدافعين عن "تصحيح المسار" وخارطة طريقه، رغم علمهم بأنّ مشروع الرئيس يقوم أساسا على ضرب استقلاليتهم تمهيدا لتهميشهم وإلغاء الحاجة إليهم

ولكنّ هذه المفارقة تجد حلّها عند استحضار ثلاثة متغيرات مركزية تحكم موقف تلك الأطراف بشخصياتها الاعتبارية وأحزابها ونقاباتها ومجتمعها المدني، ألا وهي: أولا هشاشة الوعي الديمقراطي أو لنقل التعامل اللا مبدئي مع الانتقال الديمقراطي ومخرجاته مع تربص الدوائر به، ثانيا ما عبّر عنه مفوض السياسة الخارجية الأوروبية بعد التقائه بعدد من ممثلي الأحزاب والمنظمات "الديمقراطية" حول خشيتهم -في صورة إجراء حوار وطني شامل- من عودة النهضة أكثر من خشيتهم من إرساء نظام استبدادي يستبعدها، ثالثا غياب ثقافة النقد الذاتي والمراجعات؛ وهو ما يفسر التملص من أي مسؤولية لهم فيما وقع خلال ما يُسمونه بـ"العشرية السوداء" بحثا عن موطئ قدم في المشهد السياسي الجديد.

بعد 25 تموز/ يوليو من السنة الماضية، كنا من أول من قرأ "تصحيح المسار" باعتباره لحظة توافقية ثانية التجأت فيها الدولة العميقة -بموافقة دولية ودعم إقليمي نشط- إلى التخلي عن حركة النهضة، وعن النظام البرلماني المعدل والديمقراطية التمثيلية اللتين تحتل النهضة فيهما موقعا أساسيا، وعوضتها بالرئيس قيس سعيد. لقد كانت لحظة 25 تموز/ يوليو هي اللحظة التي أظهرت فشل اللحظة التوافقية الأولى (بين ورثة المنظومة القديمة والنهضة) ورغبة القوى الدولية في التخلص منها ومن كل مخرجاتها السياسية والمؤسساتية؛ بحكم فشلها الاقتصادي والاجتماعي الواضح.

ولعلنا لا نحتاج إلى دليل أكبر من خيارات الرئيس قيس سعيد خلال "حالة الاستثناء" لتأكيد ذلك: الاستهداف الممنهج لحركة النهضة وائتلاف الكرامة، وضرب المؤسسات الدستورية وأغلب مخرجات الانتقال الديمقراطي، والتخلص من النهضويين -الولاة والمعتمدين وغيرهم- مع عدم المساس بكل من عينهم المحسوبون على المنظومة القديمة في المناصب السيادية. بل إننا نجد الحجة الدامغة على ما ذكرنا في الخلفية الأيديولوجية لـ"فريق الرئيس" ذاته من مستشارين ووزراء وكبار المسؤولين المدنيين والأمنيين.

وبصرف النظر عن بعض التعيينات غير المؤثرة لبعض المحسوبين على الرئيس ومشروع "التأسيس الجديد"، فإن أغلب المسؤولين هم من المحسوبين على ورثة المنظومة القديمة أو على الأقل من المطبّعين معهم وغير المعروفين بمعاداتهم، وممن لا يُذكر لهم أي دور سياسي معارض للمافيا الحاكمة قبل الثورة أو لوكلائها بعدها.
لا نحتاج إلى دليل أكبر من خيارات الرئيس قيس سعيد خلال "حالة الاستثناء" لتأكيد ذلك: الاستهداف الممنهج لحركة النهضة وائتلاف الكرامة، وضرب المؤسسات الدستورية وأغلب مخرجات الانتقال الديمقراطي، والتخلص من النهضويين -الولاة والمعتمدين وغيرهم- مع عدم المساس بكل من عينهم المحسوبون على المنظومة القديمة في المناصب السيادية

بعيدا عن مزايدات الرئيس وادعاءات أنصاره، فإن التأسيس الجديد هو واقعيا إعادةُ انتشار وتموضع للمنظومة القديمة -بل إعادة احتكار للسلطة- لكن بشرعية جديدة يوفّرها مشروع الرئيس ودستوره ويدعمها محور الثورات المضادة وحلفاؤه في تونس. فالرئيس الذي جعل مقاومة الفساد وإعادة التوزيع العادل للثورة محورا أساسيا في شرعنة إجراءاته، لم يقم بأكثر من استهداف خصومه السياسيين بحثا عن إعادة هندسة الحقل السياسي بصورة تضمن هيمنته -وبالتالي هيمنة داعميه المحليين والإقليميين والدوليين من أنصار الثورات المضادة- على القرار السيادي في تونس.

ورغم وجود قانون صارم لمكافحة الاحتكار، فإن التونسيين لم يسمعوا يوما بإيقاف محتكر أو مصادرة أمواله، كما لم يروا الرئيس يشيطن أو يستهدف أي طرف فاعل في "العشرية السوداء" إلا حركة النهضة وائتلاف الكرامة. أما ورثة المنظومة القديمة -بسياسييهم ورؤوس أموالهم وإعلامييهم ونقابييهم وجمعياتهم المدنية- فإنهم في مأمن، اللهم إلا أولئك الذين اتخذوا مسافة نقدية من "تصحيح المسار" ليتقاطعوا موضوعيا -لا قصديا- مع خصوم المنظومة القديمة والرئيس على حد سواء. ولكنهم رغم ذلك كله ما زالوا يتمتعون بمعاملة تفضيلية لا يمكن مقارنتها بمنطق التعامل الأمني مع رموز النهضة وائتلاف الكرامة.

رغم أنه كان شريكا اجتماعيا لكل الحكومات المتعاقبة على حكم تونس بعد الثورة، ورغم تحالفه المعروف مع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي منذ المرحلة التأسيسية وخلال مرحلة التوافق، ورغم دوره المؤكد في تحديد السياسات الاقتصادية للدولة -أي توجيه القروض نحو الأجور لا نحو التنمية- ودوره أخيرا في الدفاع عن تغول النقابات والتغطية على فساد الكثير من المنتسبين إليها، كان الاتحاد العام التونسي للشغل من أكثر الأطراف التي حرصت على تعميم استعارة "العشرية السوداء".

لقد حرص الاتحاد على تَونسة هذه الاستعارة ذات الأصل الجزائري دون أن يغفل عن توجيهها نحو خصم إيديولوجي وسياسي معين؛ عندما سمى المنظومة الحاكمة قبل 25 تموز/ يوليو بـ"منظومة النهضة". وهو بذلك يضمن تحقيق جملة من الأهداف المتعامدة، أي التي يعتمد بعضها على بعض: تبرئة نفسه من أية مسؤولية فيما يُسميه "العشرية السوداء"، وتبييض حلفائه من القوى الشيو- تجمعية التي كانت فاعلا مركزيا في تلك الفترة، خاصة بعد انتخابات 2014، واستهداف حركة النهضة وإضعاف قدرتها على التفاوض في أية تسويات سياسية ممكنة، وعدم إحراج الرأسمال البشري التجمعي أو اليساري أو القومي الذي يخدم الرئيس في "تصحيح المسار".. الخ.
استعارة "السواد" هنا لا تعكس وعيا ديمقراطيا صلبا أو مشروعا إصلاحيا حقيقيا عند من يستعملها، بل لا تعكس أي ضرر مادي أو رمزي طال الطابور الخامس لـ"تصحيح المسار" من منظومات الحكم خلال "العشرية السوداء". فكل ما تعنيه هي رفض الاعتراف بالنهضة وائتلاف الكرامة شريكين في إدارة "التخلف والتبعية"، وإعادة إنتاج شروطهما الموضوعية والفكرية

لو أردنا البحث عن النواة الصلبة لاستعارة "العشرية السوداء" فإننا لن نجدها في نقد الفساد الاقتصادي أو القيمي أو السياسي، ولا في تأبيد منوال التنمية الفاشل والمكرس للتخلف والتبعية، كما لن نجدها في هيمنة الجهوية والزبونية والاقتصاد الريعي، بل سنجدها في الانكسار البنيوي الذي حصل في الحقل السياسي التونسي بدخول حركة النهضة فاعلا أساسيا في الحقل السياسي القانوني. فاستعارة "السواد" هنا لا تعكس وعيا ديمقراطيا صلبا أو مشروعا إصلاحيا حقيقيا عند من يستعملها، بل لا تعكس أي ضرر مادي أو رمزي طال الطابور الخامس لـ"تصحيح المسار" من منظومات الحكم خلال "العشرية السوداء". فكل ما تعنيه هي رفض الاعتراف بالنهضة وائتلاف الكرامة شريكين في إدارة "التخلف والتبعية"، وإعادة إنتاج شروطهما الموضوعية والفكرية.

ختاما، فإن "العشرية السوداء" -رغم بؤسها الذي لا يمكن إنكاره- لا تقابل مشروعا إصلاحيا أو مشروعا تحريريا متخيلا قد ينجح فيه الرئيس، بل هي تقابل تلك المرحلة التي كان "الظلاميون" و"الرجعيون" فيها مجرد مواضيع أمنية أو ملفات حقوقية بين أيدي "التنويريين" و"التقدميين"، وعندما كانوا مجرد "خارج مطلق" -على حد عبارة جاك دريدا- للنمط المجتمعي التونسي وأساطيره التأسيسية. ولذلك فإننا لم نستغرب يوما مسارعة أغلب "القوى الديمقراطية" في تونس إلى مناصرة إجراءات 25 تموز/ يوليو، لأن الرئيس -بعد مركزة السلطة وباعتماد المراسيم- قد ينجح فيما فشلت فيه آليات الديمقراطية: إخراج حركة النهضة وحلفائها من الحكم، وإن كان ثمن ذلك قتل الحياة السياسية وتدجين أغلب "قوى الموالاة".

فهذا ثمن مقبول ما دام أغلب "الديمقراطيين" أسرى اللائكية الفرنسية، أي أسرى علمانية تتعرف ذاتيا بمعاداة الدين ورفض أي دور له في إدارة الشأن العام وبناء المشترك الوطني، وما دامت تلك القوى كذلك أسيرة منطق التناقض الرئيس (مع الإسلاميين) والتناقض الثانوي مع أي نظام استبدادي ما دام يستهدف الإسلاميين في تونس أو خارجها. ولن تكون مفردات "الإصلاح" و"الديمقراطية" و"السيادة" و"الإرادة الشعبية" في هذه السردية الانقلابية إلا مجازات لا مصداق لها في الواقع.. ولكن هل يأبه "الديمقراطيون" التونسيون -أو من يمكن تسميتهم دون مجاز بـ"القوى الانقلابوقراطية- بذلك؛ بعيدا عن وسائل الإعلام والبيانات الخطابية التي لا وظيفة لها إلا خدمة "الأمر الواقع" وتحسين شروط التفاوض مع منظومة الحكم الجديدة؟

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)